هذه ليست قصة خيالية. مع أنها تبدو كذلك. في قصة نشرها بورخيس سنة 1975، يشتري رجلٌ كتاباً بعددٍ لا نهائي من الصفحات. هذا الكتاب الذي يعجز أحدنا عن قراءة صفحة من صفحاته مرتين لأن الصفحة تضيع وسط الصفحات الرقيقة اللانهائية ما أن يُغلق الكتاب، هذا الكتاب الذي لا يعرف القارئ مؤلفه والذي يُسمى "كتاب الرمل"، لا يلبث أن يتحول كابوساً يُهدد حياة صاحبه بالتلاشي بين صفحات لا يعرف لها بداية أو نهاية. الحل الوحيد: اضاعة الكتاب على رفٍ مظلم في مكتبة كبيرة. وهكذا تنتهي قصة بورخيس الغريبة. قصة بورخيس الخيالية. لكن هذه الصفحة التي تقرأها الآن ليست عن كتاب بورخيس الرملي، بل عن كتابٍ آخر - عدد صفحاته 234 - يعتبره باحثون من قارات العالم الخمس "المخطوط الأشد غموضاً" "ايكونوميست" 10 كانون الثاني/ يناير 2004 على سطح الأرض. هذا مخطوط موجود وغير ضائع. يمكن لأي قارئ مهتم زيارة مكتبة Beinecke في جامعة Yale الأميركية وتفقده. المخطوط MS408 موجود أيضاً بمعظم صفحاته ورسومه على الشبكة internet. اكبسْ الحروف التي تشكل كلمة Voynich يُفتح أمامك باب المتاهة. المخطوط 408 في جامعة يال يعرف باسم الرجل الذي حمله من أوروبا الى أميركا سنة 1914 Wilfrid Voynich. لم يكن ويلفريد فوينيش أميركياً. مثل جوزيف كونراد - معاصره - كان فوينيش بولندياً. وُلد سنة 1865 وانضم في سنوات الشباب الى الحركة القومية البولندية. الحكم القيصري نفاه الى سيبيريا. من السهوب الجليدية القاتلة أفلح في الفرار الى لندن. مثل كونراد تحول فوينيش رجلاً انكليزياً. هنا، في لندن، تزوج سنة 1890 بريطانية تدعى ايثيل، وبدأ مهنته: يجمع التحف والكتب القديمة من الأديرة والأرياف والقصور في "القارة" ثم يبيعها في عاصمة الامبراطورية البريطانية. كان يعبر القنال الانكليزي الى أوروبا أكثر من مرة في الشهر الواحد. سنة 1912، أثناء زيارة الى قصرٍ في ايطاليا، يعثر على مخطوط غريب: 234 صفحة مُزينة برسوم نباتات وكواكب ونساء عاريات. كتاب عن الأعشاب الطبية، كما يبدو. ومع الكتاب - المخطوط عثر على رسالة مؤرخة تعود الى سنة 1665 وتحمل توقيع عمدة جامعة براغ الشهيرة. فوينيش، ابن ال47 عاماً، ارتجفت أصابعه وهو يقرأ كلمات الرسالة الرسالة محفوظة الى اليوم في جامعة يال ورمزها MS408A. تعلم في السنين الماضية أن يتقن اللاتينية وها هو الآن يقرأ الحروف مدركاً انه وقع على كنز: عمدة جامعة براغ جوهان ماركوس مارسي كتب هذه الرسالة الى المكتبي الجزويتي اثناسيوس كيرشر في روما عارضاً عليه المخطوط الغامض الذي وصل اليه ليفك ألغاز لغته الغريبة. المخطوط غير مكتوب باللاتينية، ولا باليونانية، ولا بالعبرية، ولا بالسنسكريتية، ولا بالعربية، ولا بأي لغة أخرى أتاحت الأعوام لعمدة جامعة براغ الاطلاع على رموزها. المخطوط الحافل بالرسوم الأنيقة مكتوب بحروف تشبه الرسوم لكن عمدة جامعة براغ لم يرَ مثلها من قبل. في الرسالة ذاتها كتب عمدة جامعة براغ ان المخطوط امتلكه من قبل الامبراطور رودولف الثاني 1552 - 1612 الذي حكم الامبراطورية الرومانية المقدسة والمتداعية، لا من قصر في روما، بل من براغ عاصمة بوهيميا. هنا، في بلاط رودولف الثاني، كان يقال ان هذا المخطوط ألَّفه الراهب الفرنسيسكاني العالم روجر بيكون 1214 - 1294. حياة المخطوط وأصحابه بين 1912 و1914 درس فوينيش المخطوط وحاول أن يكتشف اللغة التي كتب بها. الرسالة المكتوبة باللاتينية كشفت له أن الامبراطور حصل على المخطوط الغامض مقابل 600 ذهبية. بينما يتفحص صفحات المخطوط بالعدسة المكبرة اكتشف فوينيش توقيعاً ممحواً لرجل يدعى جاكوب دي تيبنز. الاستقصاءات في المكتبات أظهرت له أن الرجل المذكور كان واحداً من أطباء الامبراطور رودولف والمشرف العام على الحدائق الامبراطورية. جاكوب كان عشّاباً، وعارفاً باللغات القديمة. الامبراطور - كما يبدو - وضع سنة 1608 الكتاب الغامض بين يديه لعله يفك لغز حروفه المنمنمة، المدوّرة والطويلة. بعد أربع سنوات فقط مات الامبراطور. جاكوب رأى الامبراطور مسجى في التابوت، ورأى التراب يُهال عليه، ثم عاد الى بيته. كان المخطوط ينتظره على الطاولة. كل هذه السنوات ولم يفهم صفحة واحدة بعد! مات جاكوب دي تيبنز سنة 1622 من دون أن يفك لغز المخطوط. بقي المخطوط في حوزته نحو 14 عاماً، يتأمل رسومه، يقارن أوراق النباتات على صفحاته بأوراق النباتات في حديقته وفي مجلداته، ويفكر بينما يتأمل الحروف التي تتكرر كقطعان نمل الى ما لا نهاية أنه أوشك على فهم الشيفرة العجيبة، وأنه على قاب قوسين أو أدنى من الكشف المنشود! ثم تضيع منه الخيوط مرة أخرى! 14 سنة والمخطوط يرافق أيامه ولياليه. حتى في المنامات يراه. يستيقظ في الظلام ويشعل شمعة أو سراجاً، وفي الليالي الشتائية لبراغ القرن السابع عشر، ينحني على الصفحات الصفراء، على رسوم ضاربة الى خضرة، يتأمل ساقاً نحيلة وأوراقاً مدببة ودوائر تفضي الى كواكب وأبراج، ويشعر بالنعاس. الأشكال المألوفة تأخذه الى ذكريات بعيدة. بينما يتأمل زهرة تشبه عباد الشمس لكنها مختلفة عنها قليلاً يتذكر ليلة مضت قبل عشرة أعوام، أو قبل عشرين عاماً. كان ينظر الى هذه الزهرة نفسها عندئذٍ، وزوجته كانت محمومة. لكن زوجته ماتت قبل عامين، وهذه الزهرة ما زالت هنا، ينظر اليها وينظر الى الحروف العجيبة التي تحيط بها، ويريد أن يفهم. هذا كل ما يطلبه: ان يفهم هذه الحروف. ذهب الى مكتبات روما وتوسكانة والبندقية، جال في أقبية وأديرة وأسواق لا تعد، ولم يجد صفحة واحدة تحمل حروفاً مثل هذه الحروف. من كتب هذه الصفحات، وماذا تكون هذه اللغة؟ مات جاكوب من دون أن يعرف المكتوب في المخطوط الغريب. الحرب العالمية الأولى تابع فوينيش تحرياته. أخذت تتشكل في رأسه صورة واضحة - الى حد ما - لحياة المخطوط بعد وفاة جاكوب: كان المخطوط ينتقل من رجل الى آخر، وكلما دخل حياة رجل غيّر فيها شيئاً. الكتاب - اللغز يثير الفضول. بعد أن تراه لا تبقى أنت نفسك. هذا يحدث بالتأكيد مع كل كتاب. في منفاه في سيبيريا قرأ فوينيش روايات روسية. بعد كل رواية كان يحدس أن شيئاً في أعماقه قد تبدل. هذا حدث أيضاً مع كل رجل نظر الى هذا المخطوط الغريب، بهذه الرسوم التي تجمع بين أشكال نباتات حقيقية النعناع، الحبق، الورد الطلياني، الآذريون، كزبرة البئر، دوار الشمس، البندورة ونباتات خيالية لم يرَ مثلها لا في الطبيعة ولا في الموسوعات. وأغرب من الرسوم كل تلك الحروف الأنيقة: بأي لغة كُتبت، وماذا تعني؟ منذ ثلاثة قرون - هكذا فكر ويلفريد فوينيش قاعداً في منزله على ضفة التيمز سنة 1913 - منذ ثلاثة قرون والمخطوط يتنقل بين بلدان أوروبا، بين مكتبات وأديرة وجامعات، ولا يجد من يفك لغزه. لا جاكوب العشّاب فهم الكلمات، ولا عمدة جامعة براغ فهمها، ولا اثناسيوس كيرشر الروماني فهمها. أوشك المخطوط ان يحترق في الحرب الأهلية الايطالية لكنه لم يحترق. أنقذه رهبان الأخوية الجزويتية. كانت الأعوام تمضي، ثم العقود، ولم يفهم أحد المخطوط. من الرهبان انتقل الى رجل يدعى بطرس بيكس. فوينيش عثر على المخطوط بين أوراقٍ تعود الى هذا الرجل الذي قضى بالسكتة القلبية سنة 1884، فظلت مكتبته محفوظة في أقبية قصر في ايطاليا تنتظر رجلاً انكليزياً - بولندياً لم يقتله المنفى السيبيري. والآن ماذا يفعل فوينيش؟ يفتح المخطوط ويتأمل الحروف. برد لندن يقسو، ونور الشموع يرتجف. زوجته نائمة، ولعلها تحلم برسائل شوبان. منذ فترة تقرأ رسائل شوبان وتترجمها من البولندية والفرنسية الى الانكليزية. تلك الليلة سأل فوينيش نفسه هل يُعطى يوماً أن يفهم هذه الكلمات التي تذكره بنوتات الموسيقى في أوراق زوجته ايثيل؟ كان الوقت يمضي. في 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى. فوينيش حمل المخطوط وقطع الأطلسي هارباً من أوروبا الى أميركا. نيويورك ثمة صفحة على الشبكة المواقع الالكترونية الخاصة بالمخطوط لا تحصى تُظهر وثائق حكومية من أرشيف Ellis Island، وهي الجزيرة الصغيرة التي كانت تستقبل المهاجرين الى العالم الجديد، والتي وصفها أمين الريحاني وآخرون. في هذا الأرشيف نتابع تواريخ دخول فوينيش الى نيويورك وخروجه منها بين 1914 و1924، وحيداً أو مع مساعدته آن وزوجته ايثيل. خلال هذه الحقبة فتح متجراً لبيع التحف والكتب القديمة في مانهاتن. أعد صوراً عن المخطوط الغريب ووزعها على المختصين والباحثين وهواة الألغاز. كان يذهب الى أوروبا راكباً الباخرة "لويزيانا" الى ليفربول، أو "ماجستيك" الى ساوت هامبتون في رحلات عمل، ثم يرجع الى نيويورك وفي قلبه أمل: لعل أحدهم نجح - أثناء غيابه - في فك لغز المخطوط! حين يبلغ البيت يسأل زوجته عن أخبار جديدة. الزوجة تخبره عن أمور كثيرة البيت، المتجر، حياة المدينة، انتخابات البلدية، الطقس الخ الخ.... لكنه ينتظر خبراً آخر. يسأل عن باحث أوكراني، أو لغوي سلافي، هل أرسلا رداً على أسئلته؟ تخبره الزوجة عندئذٍ ان اللغز ما زال لغزاً. بعد فوينيش سنة 1930 مات الرجل من دون أن يفهم المكتوب في المخطوط الغريب. قبل أن يموت بسنوات بدأ المخطوط يشق دربه الى الشهرة: رجل حصل على صورة من المخطوط، ويدعى وليام نيوبولد، نشر بحثاً أكد فيه ان المخطوط من تأليف روجر بيكون فعلاً. نيوبولد وجد في كتابات بيكون نصوصاً يتحدث فيها الفرنسيسكاني عن ضرورة حماية المعرفة من الغوغاء، وعن ضرورة كتابة الأسرار الكبرى بلغة لا يفهمها إلا الخاصة. فوينيش أفرحه هذا الاكتشاف. وحسن حظه أعطاه أن يموت قبل أن ينشر رجل آخر هو جون مانيلي - في سنة 1931 - بحثاً يدحض فيه أدلة نيوبولد، ويُظهر أن المخطوط كُتِب بالتأكيد بعد نهاية القرن الخامس عشر للميلاد بعد 1492، وليس في زمن بيكون. بين البراهين على هذا: زهرة دوار الشمس وهي نبات من العالم الجديد، من أميركا. ألغاز وأسئلة أرملة فوينيش نشرت سنة 1931 "رسائل شوبان" مترجمة الى الانكليزية عن دار Knopf في نيويورك. في تلك السنة أيضاً حملت المخطوط الغامض الى واشنطن والى باحثين لم ينظروا اليه من قبل. خلال الفترة ذاتها تابعت تأليف رواية كانت تكتبها، رواية لن تُنشر إلا بعد موتها. التأليف الروائي منحها فسحة للتنفس، للابتعاد عن المخطوط الذي لا يفهم حروفه أحد. كان النصف الأول من القرن العشرين يقترب من نهايته، وانكب علماء أميركيون ومحللو شيفرات من طراز الشهير وليام فريدمان على دراسة مخطوط Voynich. أكثر من فريق خبراء في واشنطن وفي نيويورك وفي كاليفورنيا اشتغل سنوات، بلا جدوى. ثمة نظام داخلي يحكم هذه اللغة أسموها Voynichese ويثبت انها ليست رصفاً اعتباطياً للحروف. لكن تراكيبها اللغوية لا تشبه ما يعرفونه في لغات أخرى. أحد الخبراء في فك الشيفرات العسكرية قضى أربعة أعوام في تحليل لغة المخطوط. ملأ صفحات لا تعد بالحروف والأرقام والرموز. كانت الرسوم تطارده في المنامات. مات قبل أن يفك اللغز. أوراقه محفوظة في أحد مراكز البحوث الأميركية. سنة 1960 ماتت ايثيل فوينيش. بعد موتها ورثت مساعدتها - ومساعدة زوجها من قبل - آن نيل المخطوط. آن نيل لم تلبث أن باعت المخطوط الى تاجر أثريات نيويوركي يدعى هانز كراوس. حصل كراوس على المخطوط الذائع الصيت مقابل 25 ألف دولار. أراد بعد وقتٍ أن يبيعه وحدَّد سعراً: 160 ألف دولار. لم يجد شارياً. كان مصراً على التخلص منه لماذا؟ لكنه رفض ان يظهر تاجراً فاشلاً. في عام 1969 عثر على الحل: لا، لم يفك لغز المخطوط. كان الحل - بالنسبة اليه - ان يقدم المخطوط هديةً الى جامعة يال التي تحتفظ بالكثير من الكتب والمخطوطات النادرة. بعد ثمانية أعوام من النوم تحت سقفٍ واحدٍ مع المخطوط العجيب، تخلص كراوس من كوابيسه. أين الخط الفاصل بين الواقع والخيال؟ كلمةVoynich على الشبكة الالكترونية التي تصل كل شيء بكل شيء تأخذك الى هذه المتاهة، الى هذا المخطوط الغريب ونوادي المعجبين. لكن الكلمة ذاتها في موقع مكتبة تابعة لإحدى جامعات الشرق الأوسط، لن تأخذك الى متاهة، بل الى كتاب واحدٍ فقط لا غير: كتاب "رسائل شوبان" في ترجمته الانكليزية التي وقعتها ايثيل فوينيش. ماذا يطلب القارئ؟ إذا كان يطلب المتاهة ليكبس حروف Voynich في Google أو Altavista. إذا كان يطلب "رسائل شوبان" ليكبس الأزرار ذاتها في الموقع الالكتروني لمكتبة يافت التابعة للجامعة الأميركية في بيروت. معنى المخطوط هناك احتمالان. الأول ان تكون لغة المخطوط ذات معنى. هذا يعني أن علينا انتظار شامبليون. كما فُكت الغاز الهيروغليفية سيأتي يوم وتُفك الغاز الفوينيشية. هذا احتمال يعتقد به خبراء وباحثون كثر بينهم غابريل لانديني من جامعة بيرمنغهام الانكليزية. اضافة الى عدد لا يحصى من الاكاديميين والهواة الذين بنوا مواقع الكترونية لدراسة المخطوط معاً وتبادل الآراء هنا ندخل متاهة أخرى. العالم يعج بالغرباء. وبغرباء الأطوار أيضاً. أما الاحتمال الثاني فهو ألا تكون لغة المخطوط لغة حقاً، فيكون المخطوط خدعة، لعبة، حيلة، كذبة. فخ وقع فيه الامبراطور رودولف، فخسر 600 ذهبية مقابل مجلد بلا قيمة وبلا معنى. بلا معنى لأن الحروف التي تزينه - مع الرسوم - ليست إلا هذا بالضبط: زينة وزخرفة لا تعني شيئاً. هذا احتمال يؤمن به خبراء كثر أيضاً. بين هؤلاء غوردون راغ من جامعة كيل Keele الانكليزية الذي يعمل الآن مع مجموعة من خبراء البرمجة المعلوماتية على اثبات وجهة النظر الآتية: هناك محتال محترف من طراز ادوارد كيلي الشهير في أوروبا القرن السادس عشر كتب هذا المخطوط 234 صفحة بحروف لم يرصفها عشوائياً بل تبعاً لنظام محدد. فهذا ما يفعله مزور كبير: يتبع نظاماً خفياً في تأليف لغته التي لا تعني شيئاً، ويتبع هذا النظام الخفيّ للايهام بالمعنى: لخداع القارئ ولخداع الخبير ولخداع اللغوي. هناك احتمالان إذاً. مع الاحتمال الأول هناك أمل في أن نقرأ ذات يوم كتاباً آخر من العصور الوسطى عن الأعشاب الطبّية، ولعله يكون كتاباً فاتن اللغة دقيق الوصف مثل كتاب سلفنا العشّاب المالقي ابن البيطار. لكن لماذا يُكتب بلغة سرية؟ ربما كانت الرسوم زخرفاً لنصٍ فلسفي مهرطق، أو لسيرة ذاتية، أو حتى لمسرحية؟ ربما كانت احدى تلك الكلمات الغريبة التي تتكرر بين صفحة وأخرى مرادفاً لمكبث أو هاملت أو الملك لير! ألم يكن شكسبير معاصراً لصاحب المخطوط الغريب؟ "هاملت"، مثل "دون كيشوت"، ظهرت سنة 1604. وفي تلك الفترة ذاتها عَبَرَ الانكليزي جون دي - ورفيقه المشعوذ ادوارد كيلي - بلاط الامبراطور رودولف الثاني في براغ. إذاً يكون المخطوط رواية، أو نصاً فلسفياً، أو كتاباً طبّياً، أو الخ الخ... هذا احتمال. الاحتمال الآخر ان يكون خدعة ليس أكثر. فتكون "الفوينشية" حروفاً بلا معنى، هذا يُسعد لويس كارول وتشارلز دودغسون والأرنب الأبيض - في بلاد العجائب - ذلك الأرنب الذي يحب القصائد الخالية من المعاني: فإذا كان المعنى مفقوداً زالت الحاجة للبحث عنه. هكذا تقعد وتمد ساقيك، تشرب شاياً حلواً طيّباً، وترتاح. لكن هل هذا دقيق فعلاً؟ هل يمكن لهذا المخطوط أن يكون خالياً من المعنى؟ وكيف يكون خالياً من المعنى بعد أن بدل حياة كل هؤلاء الأشخاص؟ ليس الامبراطور المحب للخيمياء فقط، ليس جون دي أو ادوارد كيلي فقط لعل دي وكيلي لا يمتان بصلة الى قصة هذا المخطوط، وان زعم باحثون غير هذا. لكن الزعم بحد ذاته، كالقول ان كيلي هو صاحب المخطوط، يغير حياة كيلي أمام عيني القارئ فوراً. وهو ما يحدث لحياة جون دي أيضاً، فلا يعود مستشار الملكة اليزابيث الذي يموت عن 81 عاماً في صفحة من صفحات البريتانيكا القديمة، بل يتحول الى الرجل الذي أفسد حياة تجار كتب في أميركا القرن العشرين، من دون أن يعلم. هذا مخطوط يصلح كاستعارة للأدب، ولأي كتاب كلاسيكي. نفتح الصفحات وننظر. نفهم ولا نفهم معاً. نفهم أشياء وتغيب عنا أشياء. وأحياناً يدخل الكتاب الى أعماقنا كل تلك الصور، كل تلك الحروف، كل ذلك الوقت النائم في الصفحات، في ظلام الرفوف. وهناك، في الأعماق، يخيّل إلينا اننا بلغنا المعنى. أو غيابه. وفي الحالين نُعطى الاحساس العابر بالامتلاء، بالسكينة. اقتراح أخير عيون لا تحصى عبرت نظراتها على صفحات ذلك المخطوط. بات جزءاً من ذاكرة رجال يتوزعون على خريطة العالم. ماذا يريد المؤلف - أي مؤلف - أكثر من هذا: ان ينقش نظرته الى العالم في ذاكرة هذا العالم. وما المانع أن تكون هذه هي بالضبط نظرته الى العالم: رسوم نباتات وحيوانات وكواكب وبشر، وحول ذلك كلّه زخرفة حروف تشبه غيوماً وطيوراً وأعشاباً تعبث بها الريح، تميل بمرور الزمن... ثم تختفي.