الحيرة سيِّدة الموقف في الشارع العربي، وهي وليدة فراغ فكري أنتجته الأنظمة القمعية التي عطلت العقول جراء اغتيال الحرية. هكذا تتكاثر الأسئلة، وتغيب الأجوبة، ويعيش الناس في دوَّامة الضياع الذي لم يأتِ من فراغ، وإنما نتج عن واقع سياسي مُستورَد يتناسب مع الأنظمة القمعية المستبِدة. إن رصد الساحات السياسية العربية يسفر عن تشخيص تقريبي لما يدور على مسارحها من علاقات شاذَّة بين الحكَّام والمحكومين، تتسم بالسِّمات التالية: 1- الدعوة إلى الجمع والاتِّحاد تحت سيطرة النخبة، وسلطة الصفوة، والأقليَّة المبدعة المختارة الإيجابيَّة التي تقود عامَّة الشَّعب السلبية حسب تصوُّر قادة المسيرات الثوريَّة المتسلِّطة. 2- إباحة الإستبداد، واعتبار أجهزةِ السُّلطة عادلةً ولو جارت لأن في جورها مصلحة عليا للأمة. ولتطبيق ذلك تُعتمد النزعة العسكرية لتأمين الهيمنة الشاملة، وذلك بعسكرة المجتمع، ومن ظواهر ذلك اللباس الموحد على أمل فرض الفكر الموحد 3- نفي وجود الصراع رغم وجوده، واعتبار مصالح السلطة المتسلطة فوق مصالح كافة الطبقات الاجتماعية، ولا بأس بالتضحية بكلٍّ من الوطن والمواطن من أجل المحافظة على القائد وبطانته النخبوية المنافقة. 4- إلغاء التعددية والخصوصيات من أجل تكريس الحزبية الأحادية الشمولية. 5- إعلاء أهمية شؤون الصراع القومي، وتحويلها إلى سيوف مسلطة على رقاب قوى المعارضة السياسية، واستباحة دمائها في سبيل انتصار المتسلطين في صراعهم مع من يعارضهم. 6- إحلال عبادة السلطة محل عبادة الأصنام، وتأليه الديكتاتور المتسلط باعتباره مخلص الوطن والمواطنين من الأعداء الداخليين والخارجيين. 7- رفض أي شكل من أشكال الرفاه الاقتصادي لأفراد الشعب، والادعاء بأن الرفاه إياه يحوِّل الشعوب إلى قطط سمينة لا هَمَّ لها سوى التغذية مما يُفسدها، ويشغلها عن واجباتها في طاعة القائد الضرورة، وفي نفس الوقت يتمُّ التغاضي عن ثراء القائد وبطانته النخبوية. 8- مُعاداة الدين باسم العلمنة، وإحلال مفاهيم وهمية تتكىء على مفاهيم الشرف والإخلاص والتضحية، وتعتبرها واجبةً على العامة نحو القائد الملهم والبطل المنقذ الذي لا بديل منه سوى أبنائه ثم مُريديه في حال موته. 9- معاداة العلم، واستغلال الدين والمذهبية. 10- إعاقة الثقافة، وفرض العزلة على المجتمع، وتبرير العيش الغريزي في كهوف الفاشية المظلمة بشكل صوفي يفرض على القطيع طاعةَ الراعي طاعةً عمياء. 11- تنمية الفوضى في مجال النزاعات الأدبية، وتزوير التاريخ بحجة إعادة كتابة التاريخ، وإحياء التراث بطرقة انتقائية مبتذلة مبتورة. 12- منع التلاقح الحضاري، والتواصل الفكري الإنساني، وتكريس التقوقع الإقليمي الداخلي، والاكتفاء بما يخدم النخبة المتسلِّطة. 13- السيطرة على مجالات التربية والتعليم لتشويه أفكار الأجيال الشابة، وحصرها ضِمن بوتقة محدودة مُجدبة، وزجّها في تنظيمات عسكرية. لو نظرنا إلى سِمَات الواقع السياسي العربي التي ذكرناها لوجدنا أن الفاشية التي رُحّلت من أوروبا، حلّت ضيفةً ثقيلة على الشعوب العربية. لذلك نرى أن الأنظمة الثورية العربية التي تتقمَّص الفاشية وتستنسخها ما هي إلا أنظمة دمار على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولا علاج لها سوى رميها في مكانها الطبيعي إلى جانب الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، وإلا فإن أذاها سيستمر في التدمير على كل صعيد.