مثقف عربي يلقي محاضرة عن مدينة عربية وعندما كتب البعض ناقداً ما قاله رد بأنه ليس لأحد أن يعلمه. مثقف وناقد عربي آخر معروف سعى إلى عقد مؤتمر حول الخطاب الديني ونقده وتجديده، عندما يتحدث عن الفكر الغربي يقرر بأنه ليس فكراً ذا هوية خاصة بل هو فكر عالمي. هذا المثقف لا يرى في السياق الثقافي للفكر معياراً للنقد والمراجعة. وللغالبية هناك فكر قابل للنقد وآخر غير قابل للنقد. وضع العالم العربي الحالي في مجمله سيئ وغير قادر على الإنتاج على جميع المستويات وما ذلك الاستقبال الحافل للمنتج الفكري الغربي إلا دليلٌ على الضعف الذي جعل العرب يعيشون، ولا يزالون، لفترة طويلة بعيداً من الإنتاج… وأقول بعيداً متفادياً استخدام عبارة "على الهامش" حيث أن للهامش دوراً يلعبه وهو ما لا يتوافر للعرب. عند الحديث عن الفكر يمكن القول إنه لم يمر على العالم العربي منذ فترة طويلة من يمكن تسميته بمفكر. هذا على افتراض أننا أعطينا هذا المصطلح قيمته الحقيقية بعيداً من تسطيحه الإعلامي وإطلاقه على كل من هب ودب. لنأخذ شخصية عربية معروفة لا يمكن أن يمر القرن العشرون العربي من دون ورود اسمها: إنه طه حسين. هل يمكن إطلاق اسم مفكر على طه حسين؟ إذا كان المفكر هو الشخص القادر على إيقاف كل فكرة ومساءلتها وإخضاعها للتمحيص ونقدها وربما تطويرها وسك مصطلحات جديدة وإعطاء رؤى وأفكار جديدة... فهل قام طه حسين بذلك؟ كم من العرب الذين نطلق عليهم لقب "مفكر" أو ناقد أو شاعر أو روائي... لم يكن المحرك الفعلي لقلمه سارتر أو دريدا أو فوكو أو بارت او بودلير أو بلزاك... وغيرهم وغيرهم؟ لكل منهم شيخ يتبعه. ربما يكون من الصواب إطلاق ألقاب أخرى تعبر بجدية عن أوضاع الكتاب العرب فنقول: باحثون، تطبيقيون أو شارحون نوعاً ما. هناك إشكالية اسمها السياق الحضاري والثقافي للنظرية وارتحالها وكيفية استقبالها وتبيئتها في ثقافات أخرى، يحاول الدكتور سعد البازعي إثارتها في المحيط العربي وأخر ما كتبه ظهر في "الحياة" في ثلاث حلقات بتاريخ 6/7/8 شوال 1424ه. يرتبط بهذه الإشكالية سؤال مشروع هو: لماذا لا يتوقف العرب أمام السياق الذي ينشأ فيه الفكر الغربي؟ قبل محاولة الإجابة تجب الإشارة إلى أن ليس بالضرورة أن يقتنع النقاد العرب بمحاولات الدكتور سعد البازعي. فالإشكالية موجودة وسؤال أل"لماذا" موجود كذلك وعدم الاعتراف بذلك لا يعني إلغاء الإشكالية أو السؤال. عند محاولة طرح إجابة عن سؤال ال"لماذا" هناك سؤال سابق مرتبط به وهو: هل ينبغي علينا نحن العرب أن نشارك في الحركة النقدية وكل المجالات من خلال إنتاج شيء أصيل وجديد؟ الإجابة تقتضي أن تكون نعم وذلك للخروج من منطقة اللاموت واللاحياة التي نقيم فيها. حسناً، هل يكون ذلك بأن نبدأ من حيث انتهى الآخرون أم أن نبدأ من الصفر؟ نادراً ما يكون هناك شيء اسمه صفر، وكل بداية هي في حقيقتها بناء على شيء سابق، أي أن محاولة تكوين فكر عربي حديث تقتضي بالضرورة أن تكون قائمة على ما هو سابق سواء من الداخل أو من الخارج. الغرب قام بالبناء على نتاج حضارات وثقافات مختلفة سابقة له ومنها العربية، لكنه قدم شيئاً جديداً تجاوز به كل ذلك وغير وبدل في أدوات الإنتاج وماهيته... ولم يكن ذلك ممكناً لولا نقده للأفكار القادمة من تلك الحضارات والثقافات المختلفة. وربما تمكن الإشارة إلى أن الغرب استفاد من التراث العلمي العربي مع كامل وعيه بسياقه الحضاري والثقافي الإسلامي الذي ظهر فيه ولم يتأثر به إلى المدى الذي يغير في هويته الغربية وعقيدته المسيحية، بل وقد تعرض هذا السياق وإنتاجه إلى نقد شديد تجاوز في بعضه الأمانة والصدق. العرب الأوائل استفادوا كذلك من إنتاج الآخر وصاغوه في ثقافتهم العربية، فلا ضير إذاً من الإفادة من الآخر والبدء من حيث انتهى. وذلك لا يمنع محاولات التطوير مما هو داخلي إذا أمكن ذلك وليس اجتراره. وأعود هنا إلى منطلقي الأول وهو: لماذا يقف النقاد العرب سلبيين أمام الفكر الغربي؟ أعتقد أن هناك سببين مترابطين، بل وقد يختفي أحدهما تحت جلد الآخر. الأول مرتبط بالثقافة العربية الحالية والتي، كما يقال دائماً، قائمة على الأبوية المسيطرة.... أكثر "المفكرين" والكتاب العرب يبحثون حول هذه المسألة ويكتبون لتجاوزها كونها أحد أسباب التخلف. إلا أن الملاحظ أن نقد استبداد الأب يتم من خلال استبداد آخر وهو المنع من نقد النقد. بدأنا مع شيخ القبيلة وانتهينا إلى "مفكرها" والرأي المختلف ينظر إليه النظرة نفسها. ربما يسمح لي هنا باستخدام مصطلح "الكبير" للدلالة على نوع من "المفكرين" العرب لا يتوانون عن الإقرار بأن النتاج الفكري الغربي عالمي ويتوجه إلى الفرد بالمطلق، وأذكر أنني قرأت مرة لأحد المثقفين العرب قوله: الحداثة إما تؤخذ كلها أو تترك كلها. لا توجد مناقشة للفكر الغربي من جانب غالبية المثقفين العرب. فالمناقشة والمراجعة مفاهيم غائبة عن الفضاء العربي منذ قرون. المراجعة غير واردة بعد أن يقول "الكبير" كلمته. ينظر المحيط الثقافي لهذا الأمر كإهانة لهذا "الكبير" وانتقاصاً من قدره، وما يقوله "كبير" القوم غير قابل للمساءلة، ففيه إسقاط لمكانته ولرأيه وهزيمة نكراء لحكمته وقدرته على أن يبقى "كبيراً"، فكل جديد فيه شيء من التهديد للوضع القائم. لذلك فإن أي محاولة للخروج من تحت عباءته تقابل بالتجريد من صفات العلمية والموضوعية... بل ومن الأحقية وهذا أدى إلى عدم الثقة والخوف من المحاولة فأصبح هناك حاجز نفسي أول يسيطر على غالبيتنا. لست في حاجة لطرح أسماء "مفكرين" عرب لا يقبلون مناقشة الأفكار والرؤى. وتكفي قراءة مقالات الدكتور سعد البازعي للنظر في خطاب البعض عندما يتوجهون إلى من يحاول قراءة الإنتاج الغربي في سياقه الثقافي والاختلاف معهم. من الصعب أن تمر هذه النقطة من دون العودة إلى محاضرة المدينة العربية التي ورد ذكرها سابقاً وكيف أن نقد ما قيل فيها اعتبره المحاضر تطاولاً عليه، فهو يعتبر نفسه أحد "الكبار" بين قومه العرب فكان رده على منتقديه لغة متعالية تعتبر أن الرد كان دون أحقية فهو "اكبر" من التعليم... هو "كبير" ويعيش في الغرب، بين "الكبار". هذا الإحساس بالفوقية الذي يمارسه العرب داخلياً هو محاولة لمنع إعادة التفكير في إنتاجهم المتواضع، والذي لا يعدو أن يكون صدى لمناهج وأفكار قيلت في أمكنة أخرى. الطامة أنهم لا يتوقفون عن استخدام مفاهيم إعادة التفكير والنقد والتعدد والاختلاف والنسبية... بمعنى أن الخطاب ينفصل عن الممارسة تماماً مما يجعل الإنتاج العربي يقع فعلاً في مشكلة أحقيته أن يسمى فكراً نقدياً في عصر أصبح الفكر الحديث كله نقداً كما يقول عبد الله العروي. عندما يكون الفكر كله نقداً ثم يمنع "المفكر" أو يرفض النقد فماذا يبقى من فكره؟ أما عندما يدير هؤلاء "المفكرون العرب الكبار" وجوههم ناحية الغرب فإنهم يتحولون إلى تلاميذ. في لقاء تلفزيوني مع مثقف وناقد عربي معروف طرح المذيع رأي بعض النقاد فيه وهو أنه ليس إلا تلميذاً يردد ما يقوله الغرب، فأجاب: على الأقل أنا تلميذ نجيب. ومتى استطاع التلميذ العربي مراجعة أستاذه؟ ولا تزال هذه العقلية في تقبل الآراء تتوالد حتى في بعض أبناء العرب الذين ذهبوا إلى الغرب للدراسة في السنوات الأخيرة حيث يأخذون، ككثير من أسلافهم، نظريات وأفكار جاهزة من دون أن يصاحب ذلك، على الأقل، تغير في السلوك الشخصي أمام المعرفة. يبقى هؤلاء ذوي طبائع قبلية إذا اختلفت هجت وإذا أحبت مدحت. وأذكر في هذا الصدد قصة حدثت معي أثناء دراستي في فرنسا. في أحد النقاشات التي كانت تتم بيننا كطلاب من تخصصات مختلفة يجمعها الاهتمام باللغة كاللسانيات والأدب والفلسفة والاجتماع... دار الحوار حول السياق وتغير المعنى... ووردت فكرة العمل أو النص المفتوح في النقد الأدبي المعاصر. عندما طرحت فكرة أن ما يسمى النص المفتوح له جذور يهودية قبالية وان كثيراً من المصطلحات المستخدمة مثل تعدد الفضاءات، الفراغ... لها أسس دينية يهودية، وجدت أحد الزملاء الفرنسيين يطلب مني إكمال فكرتي ومصادري وان اقدم تحليلي في حين أن زميلاً عربياً قاطعني قائلاً إن ما يجب علينا فعله هو التحرر من فكرة سيطرة اليهود وأن النقد الحديث لا يعرف مثل هذه التفاهات... طلبت منه قراءة القبالة قال: لست مجنوناً حتى أقرأ في الكتب الدينية لأبحث عن أصول نقد ما بعد الحداثة!! ما قلته ليس جديداً وهناك من يقوله في الغرب أيضاً، ولكن الزميل العربي كان له رأي مختلف عبر عنه بطريقة مختلفة. في الوقت الذي كان الزميل الفرنسي يحاول فهم فكرتي للرد عليها، فليس بالضرورة أن يقتنع بها، كان الأخ العربي يهاجمني لأنني آت من بلاد الخليج الراديكالية والمتخلفة كما يقول... وأنني لا أزال أفكر بمنطق بروتوكولات حكماء صهيون. ابتعد الزميل العربي عن الفكرة وبدأ يهاجم الشخصية، كان منطقه، وهو الذي اصبح اليوم يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن، يقوم على فكرة واحدة هي: أن الغرب لا يمكن أن يسمح لأفكار دينية بأن تتدخل في تطور فكره بعد أن وصل إلى هذه المرحلة من التقدم. رفض أن يقرأ ما قد يهز شيئاً من معتقداته: الفكر الغربي "كبير" لذلك هو غير قابل للمساءلة. نعود ونسأل هل هناك فعلاً اختلاف في منطق إصدار الأحكام بين "بعض" من يتحدث عن الحداثة والعقلانية والعلمانية... و"بعض" من يتحدث بنقيض ذلك؟ نصل الآن إلى السبب الآخر الذي قد يمنع نقد الفكر الغربي: إنه الضعف الكبير عن الإلمام بذلك الإنتاج. لنفرض أننا نريد مناقشة نظرية لغوية ظهرت في الغرب خلال العشرين سنة الأخيرة، عندها نحن في حاجة إلى الإحاطة التامة بالنظرية وما قيل حولها من نقد داخل محيطها الجغرافي وخارجه وذلك لكي تتم المناقشة بعلمية. ليس من المعقول أن نقدم نقداً لنظرية يمكن أن يكون قد قيل مسبقاً وقد رد عليه ثم طوّر فأصبح ربما مقدمة لنظرية أخرى... من يقرأ في اللسانيات مثلاً ويرى كيف تطورت نظرية كالتوليدية التحويلية، وكم نقدٍ تعرضت له من خارج محيطها ومن داخله بل ومن مؤسسها تشومسكي فحذفت أفكار وأضيفت أخرى... يمكن أن يعي ماذا تعني الإحاطة بالفكر ومناقشته ومقدار ما يحتاج من جهد ومتابعة مستمرة وهو ما يفتقده العرب منذ فترة طويلة. وأذكر أن مقالة فوكوياما حول نهاية التاريخ قد أسيء فهمها عند البعض لعدم الإلمام بمعنى مفردة "التاريخ" عند بعض الفلاسفة، وما هو محرك هذا التاريخ ومتى يمكن الحديث عن نهايته، وأن فوكوياما ليس أول من تحدث عنه... فكان أن نظر إليه البعض لغوياً فتحدثوا عن عدم نهاية الأحداث التاريخية ƒvژnements وأن العالم لا يزال مقبلاً على كثير منها لو بحثنا متى كتب فوكوياما مقالته ومتى تحدث عنها العرب لوجدنا العجب؟... وربما تكون إشارة الدكتور سعد البازعي في مقاله بتاريخ 8 شوال عن ظهور التقويضية أو التفكيكية في ستينات القرن الفائت والحديث عنها في العالم العربي في الثمانينات دليلاً جيداً إلى ذلك الفارق الزمني الهائل بين ظهور نظرية ما ووصولها إلينا. كيف يمكن الإلمام بكل ما قيل حول التفكيكية منذ ظهورها وحتى وصولها إلى العالم العربي لكي يمكن نقدها وتطويرها؟ هل نبدأ من صورتها الأخيرة؟ هذا يعني أننا لن نبحث في أصولها وبالتالي لا يمكن فهم سياقها والإلمام بها لنقدها وتطويرها حيث نكون منقطعين عن مقدماتها، وأخذنا لنتائجها فقط يجعلنا غير قادرين على تجاوز مرحلة الاستقبال السلبي. هل نأخذها في صيغتها الأولى؟ لكن ذلك يعني أخذ فكرة قد روجعت في بيئتها وربما في بيئات أخرى وطوّرت وبالتالي سنكون متخلفين ومن يتخلف عن الركب لا يستطيع الحديث عما يحمله الركب بعد أن ابتعد كثيراً. ربما لا يجب لوم "المفكرين" والنقاد وحدهم على هذا القصور المعرفي، فالمحيط العربي غير صحي نهائياً للتعامل مع المعرفة والإنتاج وهذا يجعلني أربط ذلك بأحد مواضيع البحث العلمي وهي الترجمة. اعتقد أن الترجمة من أكثر المجالات احتقاراً في العالم العربي. إلى الآن نعتقد أن من يجيد لغة أجنبية يمكن أن يترجم منها وإليها وهذا أدى إلى ترجمات غريبة وغير مفهومة وأصبحنا نبحث عن الأصول الأجنبية لنفهم الترجمة العربية! إلى الآن نعتقد أن الترجمة يمكن تعليمها من خلال تدريسها في أقسام اللغات الأجنبية فتحولت إلى أداة لتعلم اللغة وهي الطريقة الأكثر بدائية في تاريخ تعلم اللغات. إلى الآن لم نر مركزاً متخصصاً في الترجمة يقوم فعلياً بمتابعة الإنتاج العلمي العالمي وترجمته بالاتفاق مع دور النشر العالمية... قد يقول البعض: ما هو الأهم والأكثر إلحاحاً، أن تدعم الحكومات العربية البحث العلمي والترجمة أو أن تدعم رغيف الخبز؟ من يستطيع الإجابة؟ أخيراً، يحمد للدكتور سعد البازعي أنه من القلائل الذين يحاولون مناقشة بعض الإشكاليات التي تهم المجتمع العربي بهدوء واقتدار معروف عنه... ولكن... ترى ما هو المنهج الذي استخدمه الدكتور البازعي لتناول موضوعه؟ * أستاذ في جامعة الملك عبد العزيز - جدة.