لعل الملاحظة الجديرة بالاهتمام في إطار متابعة الإنتاج الثقافي العربي، خلال السنوات الماضية، هي كثرة عناوين الكتب، والأبحاث، والمقالات، والمحاضرات، والندوات، والمؤتمرات، التي تحمل هواجس مستقبلية حول كيفية توليد "مشروع ثقافي عربي جديد"، خصوصاً أن تلك العناوين، كانت تراوحت بين تقديم أبحاث نظرية حول المشروع النهضوي العربي المقترح، ونقد التجارب الوحدودية العربية السابقة، وصولاً الى اقتراح مشاريع جديدة، ونقد قوى التغيير في الوطن العربي، وإظهار أسباب الأزمات الحادة التي تعصف في داخلها، واقتراح الحلول العلمية لاستنهاضها. غني عن التوكيد، أن العناوين كافة، بما تعبر عنه من هواجس، وإن كانت تشير إلى هموم المثقفين العرب، وسعيهم الدؤوب بهدف رسم استراتيجية - ثقافية - نهضوية عربية، تعطي للعرب دوراً متميزاً في مطالع القرن الحادي والعشرين، بعد أن عجز قادتهم عن تحقيق ذلك الدور، على المستويين الاقليمي والدولي، على امتداد القرن العشرين فإنها العناوين، في الوقت نفسه، وبما تعبر عنه من محاولات نظرية، تنطلق من نقطة مركزية تتمحور حول نقد "الفكر" أو بالأحرى نقد "العقل" بوصفه "الأداة المنتجة للأفكار" أو قل: بوصفه "الجهاز المفهومي الذي تملكه الثقافة العربية في الإجابة عن المسائل النظرية والرد على المشكلات العلمية والعملية التي تعترض الجماعة". هنا، يبدو أن التساؤل الذي يطرح نفسه، بداهة، هو: لماذا أصبح موضوع "العقل" في مركز الاهتمام النظري العربي، خلال السنوات القليلة الماضية، بهذا الشكل الدرامي، وما الذي يجعل "نقد العقل" أو فحص أسسه، مسألة ضرورية، في هذه المرحلة، بعد أن كانت غير مطروحة، وربما غير مطروقة، من قبل في الأدبيات العربية؟! بداية، يستدعي التساؤل محاولة فهم الحاجات الاجتماعية الحقيقية الكامنة وراء مثل هذا الطلب "الإلحاحي" على "نقد العقل"، ومن ثم، فإذا كان "النقد العقلي" عملية مستمرة في كل الثقافات، من حيث أن النقد أو الفحص المدقق للمفاهيم الأساسية هو ضرورة حياتية، فهو لا يصبح حاجة ملحة إلا في مراحل معينة، مراحل القطيعة والأزمة العميقة التي تجعل ثقافة ما تشك بقدرة الجهاز المفهومي الذي تملكه. وبالتالي، ومن دون الذهاب بعيداً في التفسيرات، نعتقد أن السبب في هذه القطيعة أو الأزمة التي تدفعنا "نحن العرب" إلى طرح مسألة العقل والعقلانية، أو بالأصح قدرة جهازنا المفهومي وصلاحيته، هو أن المجتمع العربي يعيش فعلاً فترة مراجعة قوية، وصحية، خلال ربع القرن الأخير على الأقل، لفرضياته التقليدية السابقة التي عاش عليها منذ بدء تبلور حركة الكفاح ضد الاستعمار، والتي استمرت إلى ما بعد الاستقلال، وذلك بقدر ما بقيت فترة الاستقلال "القريبة" تشكل في واقع الأمر، امتداداً لحقبة الكفاح ضد الاستعمار سواء من ناحية القوى الاجتماعية التي سيطرت عليها، أم من ناحية المؤسسات والقيم والمفاهيم التي وجهت مسيرتها، وهي في الغالب مفاهيم مستمدة من حقبة "التنوير الشكلي" الذي أعقب - في العالم العربي - اكتشاف الثقافة الغربية والافتتان بحيويتها وحركيتها العميقة. هذا، وإن كان يعبر، كما يبدو لنا، عن أن هناك اكتشافاً حقيقياً للذات، بما هي إرادة فاعلة ومستقلة، ورغبة في المشاركة على أوسع نطاق في تقرير شؤونها وتحقيق تاريخيتها، مهما كانت حصيلة هذه المشاركة أو مردوديتها أيضاً، وإن كان يشير، كما يبدو لنا، إلى أن الإنسان العربي "المثقف"، بالمعنى الواسع للكلمة، يرفض انتظار الحل من الآخر، بل يرفض أن يبقى عالة، مهمشاً أو مفرغاً من دوريه الاجتماعي والتاريخي... إلا أنه رغم ذلك، أو رغم هذه الرهانات الكبرى للمراجعة وما يترتب عليها من خيارات جديدة، فإن الكثير مما يصدر، وما صدر في العقود القليلة الماضية، باسم "عقد الفكر العقل العربي، أو تحديثه"، يحتاج إلى غربلة كبيرة، ونسبة لا بأس بها منه لا تضيف شيئاً، وذلك بعكس ما قد يخطر للبعض. وقد لا نبالغ، إذا قلنا إن القسم الأكبر مما نطلق عليه اليوم نقداً للفكر أو العقل، ما زال يفتقر إلى "منطلق فلسفي جديد"، إذ رغم تعبيره عن رغبة أكيدة في تجاوز "القديم"، فهو ما زال يتردد بين المنهجيات إياها: الوضعية التقليدية، والماركسية المبسطة، والإسلامية التأولية الكلاسيكية وذلك بصرف النظر عن استخدام المصطلحات. لا ينبغي أن تخدعنا المظاهر، إذن.. ليس التكلم بالمصطلحات "العلمية" أو بالعبارات الأكثر "عصرية" في العلوم الاجتماعية أو اللسانية أو الفلسفية، هو الأقرب إلى التجديد، نعني تجديد الرؤية وتحرير "العقل"، وإنما قد يكون العكس هو الصحيح، إذ غالباً ما يعكس هذا التحديث "السطحي والشكلي" استمرار الموقف التقليدي. نعني موقف استنساخ الآخر والاعتماد عليه في التفكير، ومن ثم الاستقالة العقلية في السعي إلى فهم الطبيعة الخاصة والأصيلة للواقع المحلي. ولا نقصد بالواقع المحلي ما يتميز به الواقع العربي عن الواقع الغربي، فهذا هو الجانب السطحي لموضوع التفكير الأصيل بالواقع، وهو الأقل أهمية أيضاً، إن المقصود هو "تجاهل تبدل إشكاليات هذا الواقع المحلي بتبدل موقعه ومكانته على خريطة القوى والتغيرات العالمية". الواجب تثبيته، في هذا السياق، أنه إذا كان الهدف من علمية "النقد" الجارية هو إعادة هيكلة جديدة لفكرنا النظري، أي إعادة النظر في بعض المفاهيم الأساسية التي سيتمحور عليها التفكير أو التي ستصبح محور ومرتكزات الهيكلة الجديدة ل"جهازنا المفهومي"، فمن الضروري أن يتركز الاهتمام، من أجل إنجاح هذه العملية، على نقاط عدة نتناول منها، هنا، ثلاثة: النقطة الأولى: أن التاريخ يعلمنا والمنهجية التاريخية تعلمنا قاعدة أساسية، مفادها أنه "لا يمكن تجاوز ما لا يمكن تجاوزه"، بمعنى، أنه لا يمكن لأي مفكر مهما علا شأنه وكبرت عبقريته أن يتجاوز - ما لا يمكن تجاوزه، أي - اللحظة التاريخية التي هو مشروط بها، أشاء أم أبى. ففي كل عصر، هناك مجال للممكن التفكير فيه، ومجال آخر لما هو مستحيل التفكير فيه. والإنسان، كالمجتمع، محكوم بنظام الفكر "السائد" في عصره الا بيستمه Epistژmژ، بهذا المعنى، فإن المفكر العربي أو المسلم الحقيقي هو ذلك الذي يعيش اللحظة التاريخية للعرب والمسلمين وينتمي إليها قلباً وقالباً لا ذلك الذي يعيش اللحظة التاريخية للغرب والغربيين. يدفع هذا جانباً، ولا شك، التصور المركزي والنموذجي التكراري للتاريخ، ولتطور المجتمعات بشكل عام، فلم يعد من الممكن فهم شيء مما يجري في العالم مع الاحتفاظ بالصورة القديمة التي - كنا - نعرفها عن عالم مكون من مجتمعات متجاورة ومترادفة، تتبادل في ما بينهما كأطراف مستقلة.. إن العالم يشكل شبكة واحدة من "العلائق"، وهو متداخل ومتشابك، مما يعني أيضاً أن الاختلاف لا يتعلق بالماضي بقدر ما يتعلق بنوعية التحديات التي يواجهها كل مجتمع "حديث" نتيجة للوضع الذي هو عليه، والمكانة التي يحتلها على خارطة العالم، وما هو مطروح من مشكلات، مثلاً، على المجتمع الياباني، وهو مجتمع صناعي من الطراز الأول، يختلف بشكل كبير عما هو مطروح على المجتمع الألماني، وهو مجتمع صناعي من الطراز الأول أيضاً. والأمر نفسه ينطبق بشكل أكبر على المقارنة بين المجتمعات الصناعية والمجتمعات المتخلفة. إن عبقرية المجتمعات، ومن ثم عقولها أو ثقافاتها المبدعة، تكمن في قدرتها على تمييز هذه التحديات الخصوصية والكشف عن الحلول الخاصة والأصيلة لمواجهتها، ولو حدث أن أحد المجتمعات طبق على نفسه حلول المجتمعات الأخرى لمشكلاتها، لخلق لنفسه مشكلات جديدة أكبر، وأكثر تعقيداً، من المشكلات التي كان يريد حلها. وبالتأكيد، إذا نظرنا إلى العالم هذه النظرة التكاملية الشاملة، فسوف ندرك أنه لا يوجد فيه مجتمعات لهما الوضعية والمكانة نفسها، وبالتالي المشكلات نفسها.. وربما كانت قاعدة المشكلات التي تعاني منها بلدان "العالم الثالث" أو "الجنوب" الآن، والتي تفرضها عليها الدول الصناعية بالقوة أحياناً، هي تطبيق حلول ليست من تصميمها على مشكلات ليست نابعة من واقعها بل أحياناً غير موجودة لديها. النقطة الثانية: إن أصالة الثقافة و"العقل" في مجتمع من المجتمعات تتجسد، وترتيباً على النقطة السابقة، في القدرة على تقديم حلول جديدة ومبتدعة، مستمدة من أوضاع مجتمعاتها ومشاغلها وليست مستقاة من أوضاع أخرى أو قائمة على مجرد الاقتداء بها والنسخ عنها. يطرح هذا منطقياً إحدى أهم الإشكاليات التي تجابه إنجاح عملية إعادة هيكلة فكرنا النظري، إنها تلك التي تتعلق بإمكان تعميم المذاهب والنظريات ولا نقول: "المنهاج" الناجمة عن وضع تاريخي واجتماعي معين على أوضاع أخرى، وفرص نجاحه.. هنا، ينبغي أن نقول إن كل "نقل" أو تعميم لنظرية أو لمنظومة تقنية، يفترض إمكانية فصل النسيج المنقول عن أصله وسياقه، ووضعه في سياق آخر، وهو افتراض، في اعتقادنا، غير صحيح، إن منظومات القيم والأفكار والعلوم، تعكس روح ثقافة معينة وتاريخها ومسارها الخاص، وفي الوقت نفسه الاستراتيجيات الاجتماعية المتناقضة والمتصارعة المتجسدة في نظامها أو انتظامها المرحلي، كما تعكس واقع المعارف التي تمتلكها المجتمعات في هذه الحقبة أو تلك، ومن ثم، ليست المنظومة العقلية، أو المذاهب، أو النظريات تكوينات متماثلة أو محايدة، بشكل يمكن معه أن نأخذها أو نفصلها، عن سياقها لوضعها واستخدامها في سياق جديدة. إن ما ننقله، عندما ننقله، ليس شيئاً ميتاً، وإنما ننقل، مع الديناميكية الذاتية التي ترتبط بهذه النظم وتعطيها حياتها وقدرتها على التأثير والحركة والتنظيم في السياق الذي كان سياقها الأصلي، أغراضاً وتوجهات ونيات واستراتيجيات ممكنة، وأنماط علاقات ونظماً قيمية ليست متسقة ولا يمكن أن تكون متسقة مع "النظم الموجودة في المجتمع" المنقولة إليه. الاعتماد إذن، على المذاهب والنظريات الغربية، ومحاولة تطبيقها على واقعنا "المختلف" ليس نوعاً من العصرية، ولا يدفع إلى التقدم، بل على العكس تماماً، فهذا أبعد ما يكون عن التقدم وتحقيق شروطه. فهذا الأخير يفترض أولاً أن نفكر من أنفسنا ومن رأسنا، كما نقول بالعامية، لا من رأس الآخرين، أن يكون عندنا مدارسنا النظرية، وليس من المصادفة أننا لم نستطع حتى الآن أن نبني مدارس نظرية خاصة بنا.. وليس المقصود من هذا، قطعاً، إرضاء النزعة القومية الضيقة، الاستهلاكية والتي لا معنى لها في العلم بتاتاً، وإنما العلم ذاته، حيث العلم هو "معرفة المعلوم على ما هو به". النقطة الثالثة: إن مفهوم "العقل" ليس من اكتشافات المفكرين العرب لهذا الجيل، ولا لغيرهم من الأجانب، وإنما هو من المفاهيم الأساسية في كل ثقافة إنسانية، بل أنه بالضرورة أول مفاهيمها والمؤسس لشرعيتها، مهما كان مستوى تطور العلم والطرائق العلمية فيها.. رغم ذلك، فإن كلمة "العقل" تستخدم، على الساحة الفكرية العربية، بكل المعاني، كرديف لكلمة الثقافة أحياناً، والفكر أحياناً أخرى، والاثنتين معاً، أو ببساطة لكلمة المنطق أحياناً ثالثة، وغالباً ما يكون الهدف من استخدامها في العديد من الكتابات - اليوم - إضفاء طابع الجدة والتجديد على أفكار "قديمة". هذا وإن كان يشير الى أن أكثر المصطلحات تشويشاً - اليوم - هو مصطلح "العقل" نفسه، الذي نريد أن نستخدمه كأداة رئيسية في إعادة تنظيم ساحتنا الفكرية، فهو يؤكد، في الوقت نفسه، أن مثل هذا التشويش الحاصل في اللغة المفهومية، كان عاملاً مهماً في إعاقة "البحث العلمي" وتعثر التجربة النظرية.. وليس من قبيل المصادفة أن الفكر لم يستطع في العقود الأخيرة، أن يكون رديفاً قوياً للتجربة الاجتماعية في التنبيه إلى المشكلات التي كانت تقتضي المزيد من التعميق والتدقيق، وترك الساحة شبه فارغة تقريباً للمجربين من الأنواع كافة. ينقلنا هذا، مباشرة، إلى المهمة الأساسية لإعادة هيكلة الفكر، إنها إعادة تثبيت المعاني بدقة وضبط المفاهيم، بحيث تصبح صالحة للاستخدام، لتقويم الفكر ذاته وزيادة ضبطه واتساق معارفه وانسجامها. فإذا كانت المفاهيم الرئيسية مشوشة، أو غير واضحة المعنى، أو مستخدمة بمعانٍ متناقضة ومختلفة، فإن المعركة لابد أن تكون خاسرة سلفاً، إذ أن كل إنسان يعتقد أنه على بينة من الأمر ومن "العقل"، فهل هناك بالفعل إمكان لتحديد المفهوم العقلي حتى لا يصبح كلام الناس، أعني كلامنا جميعاً أو الكلام عموماً، مجرد أصوات مجهولة لا معنى لها أو مجرد هذر؟! * كاتب مصري