هل ينهي تأكيد الرئيس حسني مبارك أن النظام الجمهوري في مصر لا يقبل توريث الحكم جدلا حول هذا الموضوع استمر لسنوات عدة وتحول إلى لغط في بعض الأحيان؟ السؤال مطروح منذ أن أدلى مبارك بحديثه إلى الإذاعة المصرية في الأول من الشهر الجاري، والذي تضمن إجابة واضحة وحاسمة عن سؤال التوريث. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها في هذا الموضوع موضحا أنه لا توريث لمنصب الرئاسة. لكنها الأكثر حسما لهجةً ودلالة. قال إن توريث الحكم ليس مطروحا بأي شكل في مصر، وأن هذه قصة مختلقة صنعها البعض وصدقوها. وشرح كيف انضم نجله جمال إلى الحزب الوطني الحاكم بعد إلحاح شديد عليه، وأنه لم يقبل ذلك الا من أجل تشجيع الشباب على التحرك. لكن إذا كانت قصة التوريث هذه مختلقة وهي كذلك فعلا، فقد لا يكون نفي مبارك في صيغته الأكثر حسما كافيا لإسدال الستار عليها. فاختلاق مثل هذه القصة ينطوي على هدف سياسي، ويعني أن بعض خصوم نظام الحكم يتعمدون محاولة إحراجه والتحريض ضده. وهذا هدف لا يتخلى عنه أصحابه بسهولة، على ما بدا واضحا على مدى ما بين خمس وست سنوات منذ أن بُدئ في إثارة هذا الموضوع فيما أخذ دور السيد جمال مبارك يزداد في الحياة السياسية. فبعد أن كان هذا الدور مركّزا في العمل الأهلي في إحدى أهم الجمعيات التي تعنى بالشباب، امتد إلى النشاط الحزبي من خلال الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم. مع ذلك فالأرجح أن حديث مبارك هذه المرة سيجعل مهمتهم أصعب من ذي قبل. فالطريقة التي تحدث بها بدت لمن سمعوه عبر الأثير، أو قرأوا ما قاله، تلقائية فضلا عن وضوح رسالته والحسم الذي اتسمت به. إلى ذلك اعتمد مروّجو موضوع التوريث على أجواء، بعضها داخلي وبعضها إقليمي، ساعدت في إثارة الاهتمام به بدءا بالتساؤل عن المدى الذي سيبلغه دور جمال مبارك، ووصولا إلى اللغط حول إعداده لخلافة والده. داخلياً، كانت ضرورات مواجهة الإرهاب الذي تصاعد مطلع العقد الماضي قد فرضت ركودا في الحياة السياسية. لكن هذا الركود لم يكن محسوسا في ظل تركز الإهتمام العام على مواجهة الإرهاب وما اقترن به من تعبئة بدرجة أو أخرى. وما أن أخذت هذه التعبئة في الإنحسار مع بدء زوال خطر الإرهاب عقب عملية الأقصر المشهورة أواخر 1997 حتى خلفت وراءها فراغاً سياسياً. وأخطر ما ينطوي عليه مثل هذا الفراغ هو استعداد المجتمع لاستهلاك أي قضية مثيرة حتى إذا كانت مصنوعة. ففي مثل هذه الأجواء تصبح قضية كتوريث الحكم قابلة للتداول من دون أن يسأل معظم من يتداولونها عن أصلها وحقيقتها. ويساعد على ذلك ازدياد الميل إلى الإشاعات والنميمة السياسية ما دام الحوار العام المنظم غائبا. فالمجتمع، مثله مثل الطبيعة، لا يقبل الفراغ بل يسعى إلى سده بما يتيسر له، وفق درجة تطوره ومستوى نضجه. فإذا كان التطور السياسي بطيئا ومستوى النضج محدودا، أصبح سهلا ترويج موضوع ينطوي بطابعه على إثارة قد يحتاج إليها المجتمع بسبب تململه الناجم عن غياب الحيوية في أحزابه وقواه. وساعد في ذلك أيضا عاملان آخران: أولهما الغموض الذي أحاط مستقبل الخلافة السياسية بسبب عدم وجود نائب للرئيس. وثانيهما سعي البعض في الحزب والدولة إلى دعم نفوذهم عبر الإيحاء بأنهم قريبون من جمال مبارك واختلاق قصص عن علاقتهم معه استغلالاً للأجواء التي صنعتها قصة التوريث. وربما لم تكن هذه الأجواء الداخلية تكفي لتسهيل مهمة من روّجوا الموضوع ما لم تقترن بطرحه على الصعيد العربي. فقد تواكب التوسع في دور جمال مبارك وامتداده من العمل الأهلي إلى الحزبي مع تولي بشار الأسد الرئاسة في سورية خلفا لوالده عقب وفاته في العام 2000، وشيوع التوقع بامكان تكرار ذلك في بلاد عربية أخرى. وأصبح هذا الموضوع بندا أساسيا على جدول أعمال كثير من المناقشات بدءا من أحاديث المقاهي الهادئة وحتى معارك الفضائيات الصاخبة. هكذا أخذت قصة التوريث في النظم الجمهورية تنتشر عربيا، وتقدم مادة متجددة لمروجيها في مصر. وكان آخر فصولها في العراق وليبيا، إذ طُرحت أفكار كان أحدها تنازل الرئيس السابق صدام حسين عن الحكم لإبنه قصي. وربط معظم المحللين قرار التخلي الليبي عن برامج تطوير أسلحة الدمار بصفقة مع الولاياتالمتحدة لضمان استمرار النظام. وأضاف البعض شمول الصفقة توريث السلطة في ليبيا. وراج هذا التفسير الوراثي عربيا رغم عدم معقوليته لأن أية إدارة أميركية قادمة لا يمكن أن تلتزم بصفقة تقضي بتوريث الحكم في ليبيا، فضلا عن إصرار إدارة بوش على استبدال النظام العراقي بكامله وليس فقط رئيسه. ويبدو أن تردي الممارسة السياسية العربية عموماً يساعد على استهلاك مثل هذه القصص. وهذا هو ما ساهم في تغذية الجدل حول توريث الحكم في مصر. لكن هذا الأثر الإقليمي لا بد أن يقل مع تغير الأجواء داخل مصر في حالة تسريع عملية الإصلاح التي بدأت مقدماتها في تطوير الحزب الوطني الحاكم والشروع في حوار وطني. فهذه العملية تخلق تفاعلات سياسية إيجابية تملأ الفراغ الذي انتشرت في ظله قصة التوريث وتضخمت. فالحوار الوطني، الذي بدأ الإعداد له في تشرين الأول أكتوبر الماضي، ستطرح فيه قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي والتطور الاجتماعي. أي القضايا الحقيقية التي غابت أو تضاءلت مساحتها في الحوار العام، ما أتاح الفرصة لخلق وترويج قضايا مصنوعة أو إضفاء أهمية مبالغ فيها على قضايا صغيرة. وستزداد حيوية هذا الحوار إذا تم الإسراع بتعديل قانون الأحزاب لتخفيف القيود على تأسيس أحزاب جديدة. وعندئذ سيحدث تغير ملموس في خريطة النظام الحزبي القائم يجعلها أكثر حيوية وتنافسية، الأمر الذي يجذب قطاعات متزايدة إلى ساحة العمل السياسي وما يشهده من حوار حول قضايا حقيقية. وفى هذا السياق يصبح منطقيا أن يقل الإقبال على النميمة السياسية التي يزداد انتشارها كلما تراجع الحوار العام الجدي. وإذا واكب ذلك استمرار تطوير دور الحزب الوطني ليصبح حزبا حاكما فعلا وليس فقط إسما، ستكون هذه هي النقلة الحاسمة في اتجاه ترشيد الجدل حول مستقبل النظام السياسي في مصر عموما. فهذا التطوير في دور الحزب الوطني سيحدث تغييرا في آليات عمل النظام السياسي ينهي الغموض في شأن قضية الخلافة، والذي كان أحد العوامل التي ساهمت في ترويج قصة التوريث استغلالا لغياب إجابة واضحة محددة عن السؤال عمن سيخلف الرئيس مبارك الذي لم يعين نائبا له. صحيح أن الدستور المصري ينص على أن مجلس الشعب يرشح الرئيس الجديد ويطرحه للاستفتاء العام. لكن السؤال الذي ظل من دون إجابة هو: كيف يتم هذا الترشيح وعلى أي أساس ووفق أي مرجعية؟ ومغزى السؤال أن الحزب الوطني الذي يحظى بالغالبية في المجلس، لم يرشح من قبل رئيس حكومة أو حتى وزيراً، فكيف يمكن له ترشيح رئيس الجمهورية؟ فباستثناء فترة قصيرة في بداية الثمانينات عندما جمع فؤاد محيي الدين بين رئاسة الحكومة والأمانة العامة للحزب الوطني، كان هناك انفصال كامل تقريبا بين الحزب والحكومة التي يفترض أنها حكومته. ومنذ ذلك الوقت، حدثت تغييرات وتعديلات وزارية عدة لم يكن للحزب الوطني فيها أكثر من دور المتفرج. وقد بدأت مقدمات تغيير في دور الحزب، بما في ذلك علاقته مع الحكومة، في مؤتمره العام الثامن ومؤتمره السنوي الأول اللذين عقدا في 2002 و3200. فإذا تواصل هذا التغيير وأصبح الحزب الوطني حاكما بمعنى الكلمة يصبح منطقيا أن يؤول إليه ترشيح الرئيس القادم عندما تكون هناك ضرورة لذلك. ولكي يكون كذلك لا بد أن يستعد لتشكيل الحكومة القادمة أيا يكن موعدها، أو للقيام بدور رئيس في تشكيلها على الأقل. عندئذ يصبح واضحا للجميع أن هناك حزبا قادرا على القيام بدوره الواجب عليه في الترشيح للمناصب العليا بحكم تمتعه بالغالبية، إلى أن يتم التوافق على تغيير طريقة اختيار الرئيس من الاستفتاء إلى الانتخاب بين أكثر من مرشح. فهذا التغيير ينبغي أن يكون تتويجا للتطور السياسي الذي يحدث الآن، كي لا تختل موازينه أو ينحرف مساره. ومن أهم شروط نجاح هذا التطور استمرار الدور الذي أضفاه حسني مبارك على مؤسسة الرئاسة، وهو دور الحكم بين السلطات والمؤسسات، والحارس للتوازن الاجتماعي في مرحلة تشتد فيها العواصف الدولية التي تهب على المنطقة العربية أكثر مما على غيرها في عالم اليوم.