إحباط خطط توريث السلطة الرئاسية. هذا ما أسفرت عنه الثورة المصرية، التي أسقطت خطة توريث السلطة في ربع الساعة الأخير، والثورة التونسية التي أنهت ما تردد عن إعداد صهر الرئيس السابق بن علي لوراثة الحكم. وهذا ما سيترتب أيضاً على نجاح الثورة الليبية التي كشفت حقيقة سيف الإسلام القذافي بعد ان ارتدى قناعاً إصلاحياً في السنوات الأخيرة. فقد استيقظت شعوب طال سباتها، وأنقذت ثوراتها بلاداً من نفق أكثر إظلاماً كانت في الطريق إليه. وتبدو قصة مصر، التي كانت خطة التوريث فيها أكثر وضوحاً، الأشد إثارة أيضاً. والأرجح أن تختلف مصائر من أُعدوا لوراثة سلطة جمهورية بين المنفى والمحاكمة بعد أن كان بعضهم اقترب من القصر الرئاسي. فعندما انفجرت الثورة المصرية، كانت خطة نقل السلطة من الرئيس حسني مبارك إلى نجله جمال قد دخلت مرحلة العد التنازلي. وكان غلق أبواب البرلمان أمام المعارضة في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، والتضييق على الإعلام المرئي، خطوتين ضمن هذه الخطة التي بدأت خيوطها تُكشف في الأيام الأخيرة. كان مفترضاً أن تتعاقب خطوات هذه الخطة وصولاً إلى إعلان مبارك الأب في منتصف العام الحالي أنه صار زاهداً في السلطة وراغباً في أن يرتاح، وأنه يريد انتخابات حرة يسبقها تعديل دستوري، في الوقت الذي يسرع الحزب الوطني إلى ترشيح مبارك الابن في أجواء سابقة التجهيز. غير أن ثورة 25 يناير أسقطت الخطة بعد أن كان مبارك الابن قد تهيأ لخلافة والده في القصر الرئاسي. لم يكن قد بقي سوى ثمانية أشهر عندما حلم شبان مصريون بإنقاذ مصر من قبضة طُغمة بالغة الاستبداد أنتجها الزواج بين سلطة مطلقة وثروة منهوبة. كان بعض هؤلاء الشباب أكثر إحساساً بجدية مشروع توريث السلطة إلى مبارك الابن، وأوفر وعياً بنتائجه الكارثية التي تتجاوز توريث حكم جمهوري، مقارنة بشيوخ السياسة في المعارضة بأطيافها كافة. ولذلك قرروا تقديم موعد التظاهرة التي حلموا بأن تكون بداية تغيير من 4 أيار (مايو) يوم ميلاد مبارك الأب إلى يوم عيد الشرطة. ونجحوا فعلاً في تحقيق ما كان معظم المصريين، وربما جميعهم، يعتبرونه أقرب إلى معجزة، فأسقطوا مشروع جمال مبارك الذي صار رمزاً لطبقة سياسية اجتماعية اعتبرت مصر أرضاً بلا شعب، فصادرتها وأمعنت في نهبها. تشكلت هذه الطبقة حول جمال مبارك الذي كان قد عاد إلى مصر في منتصف تسعينات القرن الماضي بعد فترة عمل في لندن، باحثاً عن دور مميز يقوم به. وليس واضحاً بعد متى بدأ حلم الخلافة يراود مبارك الابن على وجه التحديد، وهل لازمه منذ ذلك الوقت، أم خطر له بعده. فقد اتجه إلى العمل العام بسرعة شديدة. وأسس جمعية اجتماعية عُرفت باسم «جمعية جيل المستقبل». وحرص جهاز الأمن، الذي اعتمد عليه في كل شيء مثله مثل مبارك الأب وأركان نظامه، على ضم مجموعات من الشباب إلى هذه الجمعية. وكان سلوكه يثير أسئلة، منذ البداية، عما يريده. ولذلك شاع عامي 1998 و1999 أنه يتجه إلى تأسيس حزب جديد يعتمد على الجمعية التي رأسها، على أن يحمل اسم «حزب المستقبل»، لتكون هذه بداية نوع من تبادل السلطة بين حزبين رئيسين على نسق النظام الحزبي البريطاني الذي كان هو مغرماً به. ولكن الحديث عن هذا السيناريو تبخر عقب انتخابات مجلس الشعب عام 2000 حين فشل مرشحو الحزب الوطني الرسميون في الحصول على أكثر من 38 في المئة من المقاعد، بعد أن سقط معظمهم في مواجهة منشقين عنه خاضوا تلك الانتخابات مستقلين. وهكذا صُنعت صورة جمال مبارك في ذلك الوقت كما لو أنه «الفارس» القادم على حصانه ليأخذ الحزب الوطني في طريق «الفكر الجديد». لكن هذه الصورة لم تلبث أن توارت عندما أخذ وجهه الحقيقي في الظهور تدريجاً خلال العامين الأخيرين، في حين لم يسقط القناع عن سيف الإسلام القذافي إلا بعيد نشوب الثورة. لذلك لم يكن التغيير في صورة مبارك الابن صادماً، بعكس القذافي الابن الذي قال عنه بورس اندرس في «فاينانشل تايمز» إنه بدا عندما التقاه قبل عامين مختلفاً تماماً عن «الشخص العجيب الأرعن الذي ظهر على الشاشات أخيراً». فلم يمض سوى وقت قصير حتى تبين أن التوجه الاقتصادي الليبرالي الذي ارتبط بشعار «الفكر الجديد» في مصر لم يكن إلا غطاء لتسويغ الزواج بين السلطة والثروة، وما اقترن به من تغير في أنماط التفاعلات داخل نظام الحكم. عندئذ أصبح مبارك الابن المحور الذي تدور حوله «أوليغارشية» جديدة نقلت ممارساتها في عملية نهب الموارد العامة إلى مرحلة أكثر تقدماً. وكان تشكيل حكومة أحمد نظيف الأولى في 2004 بداية نقطة تحول أخذت معالمها تكتمل مع توزير بعض حيتان المال والأعمال ووضع موارد الدولة بين أيديهم، بعد أن صاروا هم الرافعة الأساسية لمشروع التوريث. وعلى رغم أن الكثير من تفاصيل عملية بناء النواة الأساسية لهذا المشروع سيظهر تباعاً في الفترة المقبلة، كان واضحاً قبيل ثورة 25 يناير أن هذه النواة اعتمدت على ربط مصالح حيتان مال وأعمال كبار ضالعين في فساد عظيم بمبارك الابن، إلى جانب تكبير مستثمرين آخرين عبر فتح منافذ جديدة للإفساد ليكونوا قوة فاعلة في مساندته. وهكذا اقترن مشروع التوريث بظهور أشكال جديدة للنهب المنظّم للموارد العامة على نحو أدى إلى تركيز الثروة، في الوقت الذي اشتد غرور بعض «أركان حرب» هذا المشروع ليدفعهم باتجاه فرض هيمنة كاملة على الساحة السياسية اعتماداً على سطوة جهاز الأمن السابق. وهم لم يفهموا أن صبر كثيرين من المصريين ينفد، وأن هناك جيلاً جديداً يمتلك من أدوات التغيير ما لم يتوافر لأجيال سابقة، وأن العالم يتغير. لم يدركوا أنه عندما يفيض الكيل يصبح بعض المقهورين مستعدين للتضحية، وأن هذا هو درس التاريخ منذ أن أطلق باتريك هنري قائد الثورة الأميركية في فرجينيا شعار «أعطني حريتي... أو أعطني الموت» في القرن الثامن عشر، خلال النضال ضد الإنكليز. لم يُرفع هذا الشعار في ثورة 25 يناير، وربما لم يعلم به أحد من شبابها الذين وعوا أكثر من الشيوخ في بلدهم أن مشروع جمال مبارك قد يكون أشد خطراً من أي احتلال.