تحظى عملية انتقال السطة في سورية بساحة واسعة من الاهتمام العربي الراهن. ويتركز جزء معتبر من هذا الاهتمام على احتمالات تكرار توريث الرئاسة في جمهوريات عربية أخرى. وأهم ما يكشفه الجدل العام حول ما يحدث في سورية هو ضعف، بل ربما هشاشة القيم الديموقراطية في العقل العربي. بما في ذلك لدى بعض من لا يكفون عن الدعوة الى ترسيخها. فقد انقسم المشغولون بظاهرة الأسد الأول والأسد الثاني بين رفض توريث السلطة وقبوله باعتباره ضرورة، لا لكونه مرغوباً فيه أو نموذجاً يحتذى. وإذا وقفنا عند السطح وأخذنا بظاهر هذا الجدل العربي، يجوز استنتاج أن الديموقراطية هي القيمة العليا فيه، بل ربما هي مرجعيته الأساسية. غير أن الانتقال من السطح إلى ما تحته يُبدد هذا الاستنتاج أو يُحد منه على الأقل. فعلى رغم كثرة المفردات الديموقراطية في خطاب رافضي توريث الرئاسة، فهي لا تخفي أن الرفض ينصب أساساً على أن التوريث يتعارض مع النظام الجمهوري، فالأصل هنا هو موقف سلبي من النظام الملكي وليس حب النظام الديموقراطي. وهذا الموقف من النظام الملكي كان جزءاً لا يتجزأ من الدعاية الثورية التي غمرت العالم العربي منذ الخمسينات. ولا يزال كثيرون متأثرين به رغم ثبوت أن أداء معظم النظم الملكية كان أفضل من معظم الجمهوريات الراديكالية. نحن، إذن، إزاء تشبث بشعار من الشعارات التي تحولت أصناماً مقدسة، ولسنا أمام إيمان بالديموقراطية. ولذلك فمن الطبيعي ألا يسأل رافضو توريث السلطة في سورية السؤال الآتي: هل هناك فرق جوهري بين أن يورث الرئيس سلطته إلى نجله أو إلى أحد أعوانه المخلصين؟ وهكذا، يجوز القول إن المنطق الغالب لدى رافضي ما حدث في سورية هو منطق راديكالي معادٍ للملكية وليس منطقاً ديموقراطياً مناهضاً للاستبداد. ولذلك يبدو حضور مفردات ديموقراطية في مجادلات أصحاب هذا المنطق إقحاماً لها في غير موضعها وتزييفاً لخطاب بعيد في مضمونه عن المعنى الحقيقي للديموقراطية. هذا بالنسبة الى معظم رافضي توريث الرئاسة الى بشار الأسد. أما من يقبلون هذا التوريث باعتباره ضرورة فلم يتخلفوا بدورهم عن تأكيد أهمية الديموقراطية. بل حرص بعضهم على إبراز أنهم لا يوافقون على توريث الرئاسة من حيث المبدأ، ويرفضون تكراره في أي بلد عربي آخر، ولكنهم يؤمنون بأن هناك ضرورات تبيح المحظورات. ويجري، في هذا السياق التشديد على ضرورة الحفاظ على وحدة سورية الوطنية وحمايتها من خطر الانقسام، وهو ما لا يقدر عليه إلا بشار الأسد. فالمنطق الغالب هنا، إذن، هو الذي يضع وحدة الجماعة فوق كل اعتبار ويرى في أي انقسام أو حتى خلاف في الرأي تهديداً تصير مواجهته غاية نبيلة تهون في سبيلها أي وسيلة. وهذا المنطق - كسابقة - هو جزء من الميراث الراديكالي الذي لا تزال أكتاف كثير من العرب تنوء بثقله. فالخلاف بين الفريقين لا علاقة له بالديموقراطية الناقصة لدى كليهما، وإنما بترتيب أولويات الشعارات الثورية التي لا ترتفع إلا على مذبح الحرية. إنه خلاف بين من يرفعون شعار العداء للملكية فوق غيره، ومن يضعون وحدة الأمة قسراً فوق كل اعتبار. ولذلك لم يختلف معظم هؤلاء واولئك في آن معاً على رفض تكرار ما حدث في سورية في جمهوريات عربية أخرى. ولكن لأننا إزاء خطابين يتشابهان في غلبة الشعار على المضمون، فقد توزع اصحابهما بين ميْلين: أحدهما يتمنى أن تكون للظاهرة السورية خصوصية لا تتعداها الى غيرها، والآخر يخشى أن تكون هذه الظاهرة مؤسسة لنمط جديد في انتقال السلطة. الأول يحاول أن يبدو متفائلاً، والثاني لا يستطيع إخفاء تشاؤمه. غير أن الخطأ الأساسي الذي يقع فيه بعض هؤلاء واولئك هو التعميم عند الكلام عن الجمهوريات العربية. وينبع هذا الخطأ من المبالغة في أهمية تصنيف نظم الحكم الى ملكية وجمهورية. رغم أن هذا التصنيف قليل الفائدة في أي تحليل سياسي مقارن. ولا يقتصر ذلك على العالم العربي، فالأدوات التحليلية في حقل النظم السياسية المقارنة عموماً لا تعتد بهذا التصنيف. فالأنماط الأساسية للنظم السياسية تتباين أو تتشابه حسب بنية هذه النظم والعلاقة بين السلطات فيها، أو وفقاً لوظائفها، أو تبعاً لتفاعلاتها الداخلية، أو من زاوية مستوى تطورها، أو من منظور مدى اقترابها من الديموقراطية. وهكذا نجد الكثير من أوجه الشبه بين النظامين السوري والعراقي مثلاً، الأمر الذي قد يقود الى توريث الرئاسة في بغداد إذا بقي صدام حسين في السلطة حتى نهاية عمره. وحتى في هذه الحال، سيختلف سيناريو الوراثة وما يترتب عليه من نتائج. وهناك، في المقابل، اختلاف واسع بين النظامين السوري والمصري الى حد يستحيل معه تكرار ما حدث في دمشق لأسباب موضوعية تتعلق بطابع كل من هذين النظامين، وليس فقط لأن الرئيس حسني مبارك أفصح عن موقف واضح في هذا المجال غير مرة. وكان آخرها في حديثه الى صحيفة "الباييس" الأسبانية في نهاية آيار مايو الماضي، عندما بادر هو وسأل الصحافية التي أجرت المقابلة معه لماذا لم تسأله عن قضية الخلافة. وأجاب موضحاً أن "مصر لا تقارن بدول أخرى في المنطقة.. ونحن لا نستطيع أن نحدد الخلافة وفقاً لأهوائنا لأن الدستور يحددها". ويعني ذلك أن انتقال السلطة في أي نظام سياسي لا يحدث في فراغ، وإنما يرتبط بمحددات هذا النظام، وكثيرة هي الفروق بين النظام الساسي في البلدين. في مصر نظام تعددي مقيد، وفي سورية نظام أحادي مهيمن. وفي الأولى مؤسسات يجوز القول إنها ضعيفة، ولكن الأكيد أنها لا تقتصر على الأجهزة العسكرية والأمنية التي هي عماد النظام السوري. والنظام السياسي في مصر منفتح على المجتمع، فيما هو في سورية مغلق. الأول يتأثر بتفاعلات المجتمع كما يؤثر فيها، فيما الاتصال في الثالث من أعلى إلى أسفل فقط. وفي مصر، بخلاف سورية، بدايات مجتمع مدني قابل للنهوض رغم تفشي الفساد فيه. وفيها بخلاف سورية أيضاً، صحافة تتمتع بهامش من الحرية يصعب تجاهله. ولكل ذلك، يبدو السيناريو السوري لانتقال السلطة بعيداً جداً عن مصر. وحتى ما يتردد من وقت إلى آخر عن دور جمال مبارك يختلف جوهرياً عما كانت عليه الحال في سورية خلال السنوات الأخيرة. ويتيح النظام السياسي في مصر طرح مثل هذا الموضوع علناً والجدل حوله في المنتديات العامة ووسائل الإعلام. وحدث ذلك مرات كان آخرها في شباط فبراير الماضي عندما تم ضم جمال مبارك الى الأمانة العامة للحزب الوطني الحاكم. كما أثير الموضوع مجدداً هذه الأيام لمناسبة ما حدث في سورية. وبدا أن هناك اتفاقاً عاماً على أن ما قاله الرئيس مبارك للصحيفة الأسبانية حسم الأمر. ولكن هناك اتفاقاً أقل على حدود الدور السياسي الذي يمكن أن يلعبه جمال مبارك. غير أن من يفضلون تقليص هذا الدور لا يجدون سنداً معقولاً لتبريره. فهم محقون في تأكيدهم أنه لا يجوز له الحصول على موقع لا يستحقه لمجرد كونه ابن الرئيس. ولكن هذا لا يعني معاقبته وحرمانه من التنفس للسبب نفسه. والعمل السياسي ليس تنفيذياً فقط. فهناك النشاط الحزبي الذي لا يمكن منع أي مواطن من ممارسته بحكم الدستور. وقد نشط جمال مبارك في اللجنة الاقتصادية للحزب الوطني منذ سنوات، قبل أن يثير انضمامه الى أمانته العامة أخيراً بعض المخاوف. ولكن يتبين الآن أن وجوده في هذا الموقع مفيد في ترشيد الأداء الحزبي. ويشعر بذلك أعضاء الحزب أكثر من غيرهم، خصوصاً الراغبين منهم في خوض الانتخابات البرلمانية التي ستجري في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. وهم يطمحون الى أن يكون لوجوده في الأمانة العامة أثره في اختيار مرشحي الحزب وفق معايير أكثر موضوعية من ذي قبل، وفي وضع حد لغلبة المصالح الخاصة في هذه العملية. ولكن هذا الدور الحزبي الذي بدأ جمال مبارك يلعبه يثير التساؤل عما بعده. وهذا سؤال مفتوح بطابعه. ولكن دلالته تؤكد الفرق بين مصر وسورية. ففي دمشق لم يكن هناك سؤال، وإنما إجابة قاطعة، ولم يلعب بشار دوراً حزبياً رغم أن حزب البعث هناك أهم من الحزب الوطني في مصر. فقد تم تدريب بشار على ممارسة السلطة السياسية من البداية. كما أن السؤال عن دور جمال الحزبي وما بعده يمكن أن يثار بالنسبة إلى آخرين غيره. وحتى إذا أجاب البعض بأن الطريق مفتوحة أمامه، فهذا يعني أنه ليس وحده على الطريق. والأكيد أنه لن يتم فرضه من أعلى. والأهم أن النشاط الحزبي هو جزء من المجتمع السياسي لا السلطة السياسية. ومن يرنو إلى ترسيخ الديموقراطية في مصر يتمنى أن يأتي الرئيس المقبل عن طريق دوره في المجتمع السياسي، أي أن يصعد من أسفل، وليس عبر تنصيبه من أعلى. وهذه هي الطريق المؤدية الى الديموقراطية بغض النظر عن اسم من سيمضي فيها حتى يصل إلى قصر الرئاسة. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي"، الاهرام.