يمكن الإشارة إلى تدرج في الانحدار الخطابي في بعض الأوساط المسيحية المحافظة في الولاياتالمتحدة، منذ اعتداء 11 أيلول 2001، سواء في الإشارة إلى الإسلام والمسلمين، أو في الموقف من القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. وفي حين أن هذا الانحدار ينتقل من حضيض إلى حضيض، فإنه أمسى يشكل، من باب المفارقة، فرصة سانحة لصفحة جديدة من التواصل الثقافي بين الإطارين الأميركي والعربي. حين وقف المبشّر الأميركي بات روبرتسون في هرتزيليا، في عمق إسرائيل، الشهر الماضي، ليطلق بما يتراوح بين الهذر والهذيان، كلامه النابي الذي يجعل من المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية، لا صداماً سياسياً، ولا حتى صراع حضارات، بل قتالاً بين إلهين، "إلههم وإلهنا"، فإنه وجد دون شك قدراً من الترحيب لدى بعض الأوساط الإسرائيلية المهيأة لقبول أي طرح يشيد بموقفها ويحط من قيمة خصمها. وإسرائيل، لدى روبرتسون وعدد من أمثاله، رأس الحربة في صراع مفترض بين الحق والباطل ضمن إطار الملاحم والفتن التي ما فتئوا يعدون ويتوعدون بقرب تحققها. ورغم أن قراءة روبرتسون وصحبه للأحداث المنتظرة تتبدل مع تحقق وقائع جسام تغيب حكماً عن شطحهم وتكهناتهم، فإن مركزية إسرائيل فيها تبقى قائمة. وفي حين أن روبرتسون، ومن نهج نهجه، لا يشكل قطعاً الصيغة المعيارية لرجل الدين المسيحي في أميركا، فإنه كذلك ليس حالة شاذة. فلا بد لإدراك أهمية خطابه ومدى تأثيره من وضعه في سياقه الفعلي ضمن الإطار الأميركي الديني العام. لا تتضمن الإحصاءات الرسمية الأميركية الجانب الديني أو المذهبي من التوزيع السكاني في الولاياتالمتحدة، إلا أن التقديرات والاستطلاعات المختلفة تشير إلى أن الحضور الديني المسيحي يبلغ قرابة تسعة أعشار المجتمع الأميركي، فيما تتوزع سائر الأديان الإسلام واليهودية والديانات الشرقية وغيرها والمعتقدات الروحانية والإلحادية وغيرها العشر الأخير. أما التوزيع المذهبي ضمن هذا الحضور المسيحي، وباستثناء الكنائس القومية الأرثوذكسية التي تشكل هامشاً ضيقاً عددياً إنما ببروز ثقافي مشهود، فإن قرابة الربع ينضوي في إطار الكاثوليكية، والنصف تتقاسمه الكنائس الانجيلية التقليدية الأسقفية والمعمدانية والمشيخية والمنهجية وغيرها. أما الربع الأخير، فهو مضمار الكنائس الانجيلانية، أي تلك القائمة على قراءة أصولية إحيائية للكتاب المقدس. وفي حين يتسم هذا الربع الانجيلاني بالتنوع، فإن ثمة نفوذاً في إطاره للآراء اللاهوتية المحبذة لاقتراب الملاحم والفتن، وثمة إبراز لدور خاص فيها لإسرائيل المعاصرة، كتجسيد جديد لإسرائيل الكتابية، موضوع العهد القديم. وتعود جذور هذا الإبراز إلى القرن التاسع عشر، أي إلى ما قبل الحركة الصهيونية، مع صدور نظرية التحقيب الغيبية في الفكر اللاهوتي الانجيلي، والتي اعتبرت أن حقبة الأغيار، أي غير اليهود، سوف تنتهي مع عودة اليهود إلى أرض الميعاد وإعادة بناء الهيكل، تمهيداً للنزول الثاني للسيد المسيح. وكان لإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 أهمية بديهية لمؤيدي هذه النظرية، إلا أن الزخم الفعلي وإطلاق العنان للتفاسير التنبؤية جاء مع احتلال الجيش الإسرائيلي القدس عام 1967، وسقوط الحرم الشريف بقبضة من بوسعه إقامة الهيكل على أنقاضه. فإسرائيل، لدى العديد من المبشرين الانجيلانيين هي الأداة والإرهاص للخلاص القادم، وإعلان الحب لها يرتقي إلى مقام الصلاة. والنشاط السياسي الداعم لإسرائيل قد نجح جماهيرياً في ترجمة هذه الأفكار الغيبية والمشاعر الدينية إلى دعم غير مشروط لها. طبعاً، لا يقتصر التأييد للسياسة والمواقف الإسرائيلية على المنتسبين إلى الكنائس الإنجيلانية، لكنه يكتسب مع العديد منهم عمقاً دينياً يبقى غائباً لدى معظم الأميركيين. وقد مكّن هذا العمق بعض الشخصيات السياسية الدينية من تعبئة قطاع واسع من القاعدة الشعبية الانجيلانية لتشكيل ثقل سياسي محافظ داعم لإسرائيل وضامن لاندراج حكومة الرئيس بوش في ما يتوافق مع الصالح الإسرائيلي. وكان تشرين الأول أكتوبر الماضي قد شهد مظاهرة حاشدة في العاصمة الأميركية تحت شعار "التضامن المسيحي مع إسرائيل"، نظمها "الائتلاف المسيحي" الذي كان قد أسسه روبرتسون. وفي غضون أيام من المظاهرة، شاركت 16 ألف كنيسة في حملة "الوقوف مع إسرائيل" التي نظمها رالف ريد، المدير التنفيذي السابق للائتلاف المسيحي، والمسؤول عن حملة الرئيس بوش الانتخابية في الولايات الجنوبية. فواقع الأمر أن المنظمات الانجيلانية المسيّسة تمعن في التنافس على إظهار نفوذها السياسي في التصدي لأية ليونة قد تبديها الحكومة الأميركية إزاء الشأن الفلسطيني، وترابط بدور الراصد والرقيب لاعتراض أية عبارة قد تتضمنها خطب الرئيس توازن ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وعلى رغم الاختلاف الديني المبدئي بين هذه المنظمات واليمين الديني والقومي اليهودي في إسرائيل، لا سيما أن معظم القراءات الغيبية الانجيلانية للأحداث المرتقبة تتضمن إما قبول اليهود للمسيحية أو هلاكهم، فإن التحالف بين الجانبين قد توطد في الأعوام الماضية، بل تشكل المنظمات الإنجيلانية المؤيدة لإسرائيل، والتي تطلق على نفسها صراحة صفة "الصهيونية المسيحية"، الحليف الأول داخل أميركا لليمين الإسرائيلي في مسعاه إلى إفشال "خريطة السلام" وفي إطلاق يد السلطات الإسرائيلية في قمعها للانتفاضة. وقد تمكن خطاب الصهيونية الانجيلانية من الاندراج في إطار الساحة الفكرية الأميركية لاستقائه العديد من مقوماته من الإرث الثقافي الأميركي المشترك الغربي المسيحي الإنجيلي، ونجح في ترطيب جوانبه الغيبية المثيرة للريبة في تأييده المطلق لإسرائيل عبر تطعيمها بإشارات إلى معالم إسرائيلية تلقى القبول العام، مثل ديموقراطية إسرائيل وغربيتها وتعرضها للإرهاب. وبقي هذا الخطاب ملتزماً الحذر إلى أن وقع اعتداء 11 أيلول. فإزاء ما بدا وكأنه استعداد أميركي عام للإصغاء إلى طروحات سلبية بشأن الإسلام والمسلمين والعرب، استفاض جهابذة الانجيلانية الصهيونية في إصدار الآراء المؤذية. فهذا يصنّف الإسلام على أنه عبادة للشيطان، وذاك يرى أن أخلاق المسلمين أساس الإرهاب. ومع غياب الرادع، يستمر هؤلاء في التطاول على الدين الإسلامي وطقوسه وشخصياته وعقائده فيما يعد البعض منهم العدة لدخول "دار الحرب" في أفغانستان والعراق وفلسطين، فاتحين مبشرين بقرب هلاك الانسانية في ملحمة صاعقة. على أن هذا الإمعان والتطاول يكاد أن يخرج هؤلاء ضمنياً من نطاق المقبول ثقافياً. فثمة تململ وامتعاض إزاءهم في الأوساط الفكرية الأميركية، سواء المعارضة لسياسة الرئيس بوش والداعية إلى العودة إلى التعددية والانفتاح على العالم، أو المؤيدة له والداعية إلى إبراز الحق الأميركي أمام العالم. فالتعسف الفكري الذي يعتنقه الانجيلانيون الصهاينة يناقض الصورة الذاتية الأميركية التي توازن بين قناعة ضمنية بالتفوق ولياقة في القبول بالآخر. ورد الفعل، عربياً، إزاء الطروحات الواهية للانجيلانيين الصهاينة وإزاء الاعتراضات عليها، يمكن أن يسير في أحد اتجاهين. فإما تجاهل الاعتراضات واعتبار الطروحات الشاذة انكشافا لحقيقة جوهرية أميركية تقوم على تأييد أعمى لإسرائيل وبغض لكل ما هو عربي وإسلامي، وتوظيفها بالتالي في إطار ضوضاء كلامية لا جدوى منها، أو السعي إلى مخاطبة المعترضين عليها لإنضاج اعتراضاتهم وتثميرها في الثقافة الأميركية على طريق التواصل بين العالمين الثقافيين العربي والأميركي.