متى سيتم فك الارتباط بين الجنيه المصري والدولار؟ سؤال يتكرر في أعقاب الأزمات، وكلما يتعرض الجنيه لصدمات فروق اسعار الصرف التي داهمته المرة تلو الأخرى منتزعة منه شرائح جديدة من قواه الشرائية. تتملك الأوساط النقدية وسوق الصرف الأجنبي في مصر حال من القلق الحاد خوفاً من أن يؤدي الطلب غير المبرر على الدولار في هذه الفترة إلى "بتر جديد" من قيمة الجنيه، لتتحقق الاشاعات التي اطلقها المضاربون منذ تحرير أسعار الصرف في 29 كانون الثاني يناير عن احتمال ارتفاع الدولار إلى نحو سبعة جنيهات. ويتزامن هذا الوضع مع صدور أحد التقارير الدولية في شأن متغيرات السياسة النقدية المصرية، أعده مصرف "ستاندرد شارترد" البريطاني ولمح من خلاله بأن الارتباط القوي للجنيه بالدولار زاد من صعوبات الأوضاع التي ترتبت على قرار تحرير أسعار الصرف، على رغم أهميته وضروراته، ما جدد طرح الجدل حول أهمية إيجاد سلة عملات لاحتياط النقد الأجنبي في المصرف المركزي، تعمل على توزيع مخاطر تقلبات أسعار الصرف، خصوصاً في ظل السياسة التحفظية التي ينتهجها المركزي في استخدام الاحتياط والدفاع عنه وعدم المساس به والتي مثلت كلفة باهظة لمراكمة الرصيد الحالي البالغ نحو 764،14 بليون دولار. في ظل هذه المعطيات التي سادت سوق الصرف الاجنبي طالب بعض الخبراء بتحرك سريع لتكوين سلة احتياط متعددة المكونات النقدية وقادرة في الوقت نفسه على إعادة هيكلة محتوياتها أو نصيب منها عند الضرورة. ويدافع عن هذا التوجه منذ فترة غير قصيرة وزير الاقتصاد الأسبق رئيس "مصرف الشركة المصرفية العربية الدولية" الحالي الدكتور حسن عباس زكي الذي سبق له التقدم بمشروع في هذا الصدد إلى الحكومة عند بدء تكليفها قبل نحو ثلاث سنوات وتضمن عرضاً لتكوين السلة والأوزان النسبية للعملات المكونة لها، والأهداف التي تحققها. ويؤكد زكي أن الحاجة ما زالت قائمة لتفعيل هذا الاقتراح الذي لم تنفذه السلطات النقدية على النحو المفترض حتى الآن، لأنها اكتفت بإدخال بعض المكونات على سبيل التحوط من دون أن تراعي الهدف من ضبط الأوزان النسبية التي تحدد بناءً على درجة المخاطر للسلة ككل ولكل عملة أو مكون على حدة، وهو ما يؤثر في فاعلية السلة في تأمين سعر صرف الجنيه مقابل الدولار. ويشدد زكي على أن التنوع الحقيقي في مكونات سلة الاحتياط ينبغي أن يتحقق من خلال وجود قوي لكل من اليورو والين، إضافة إلى المكون الرئيسي من الدولار، إذ لن توفر هذه المكونات توزيعاً أمثل لمخاطر تقلبات أسعار الصرف، خصوصاً في السوق الدولية وإنما ستضمن توظيفاً أمثل وأكثر ربحية لنقود الاحتياط. هيكل المدفوعات لكن فك الارتباط بين الجنيه والدولار لا يتحقق لمجرد إعادة هيكلة مكونات الاحتياط النقدي وحده، فهناك ما هو أهم، حسبما يرى زكي، من هذا الإجراء، وهو تغيير هيكل المدفوعات الوطنية وهذا التغيير لا يتعلق بأداء السياسات النقدية والأدوات التي تجتهد في ابتداعها وإنما يتعلق بطبيعة العلاقات التجارية والوزن النسبي للشركاء التجاريين من جهة، ومدى قبول عملة الاحتياط كأداة وفاء للالتزامات الدولية، وهذه المعطيات الأخيرة لفك الارتباط بين العملتين غير مكتملة النضج حتى الآن، إذ أن الدولار هو العملة التي تعرض بها مصر تبادلها التجاري مع العالم الخارجي قبولاً وسداداً. كما أن الولاياتالمتحدة ما زالت الشريك التجاري الاستراتيجي الأول لها على رغم تنامي العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. ومن جانبه يرى نائب رئيس "المصرف الوطني المصري" القائم بأعمال رئيس المصرف حالياً أحمد قورة أن إعادة هيكلة مكونات سلة الاحتياط إجراء غير كافٍ على الاطلاق لفك الارتباط بين الجنيه والدولار لأنه مطبق منذ فترة تصل إلى نحو سنتين ولم يستطع أن يؤثر في وقف تدهور الجنيه الذي خسر خلال الفترة نفسها ما لم يخسره من قبل على مستوى القوى الشرائية. وأياً كانت حرفيات التطبيق، الذي لم يصل بعد إلى مستوى التنوع المطلوب، فإن أزمة الارتباط بالدولار ليس سببها السوق الخارجية وما تتعرض له العملة الاميركية من تقلبات يصبح معها توزيع المخاطر على عدد من العملات الدولية أمراً لا مناص منه، وإنما الذي يحدث هو أن التراجع أمام الدولار يحدث داخلياً ولا علاقة له بما يدور في الخارج ولهذا يجري الحديث عن قيمة حقيقية للجنيه تفوق حالياً سعره أمام الدولار بما يقرب من 15 في المئة. الدولرة لهذا يرى قورة أن فك الارتباط ينبغي أن يحدث من الداخل من خلال وقف معدلات نمو "الدولرة" وتشجيع الجنيه، وزيادة معدلات النشاط ومواجهة المضاربين، وزيادة معدلات التصدير والأنشطة الاقتصادية ذات العوائد بالنقد الأجنبي وتنمية الشراكة التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وكل هذه الخطوات لا يمكن أن تحدث فجأة خصوصاً في أوقات الأزمات، إذ غالباً ما يكون الدور الاكثر فاعلية للسياسات النقدية، ولكن حتى لا يستمر الجنيه في نزيف سعر الصرف الذي يعاني منه، لا بد من البدء بهذه الإجراءات لتفادي تفاقم الأزمة مجدداً. ويلفت نائب المدير العام في "المصرف العربي الأفريقي الدولي" أحمد سليم، إلى أن المصرف المركزي ومن ورائه الحكومة يصران منذ فترة غير قليلة على عدم المساس برصيد الاحتياط من النقد الأجنبي، ما خلق شعوراً عاماً لدى المواطنين والمضاربين - على نحو أكثر خطورة - بأهمية مصادر النقد الأجنبي وإمكان الرهان عليها كمخزن للقيمة، ومن ثم تحولت الإجراءات الحمائية للاحتياط الى عامل ضغط من جهة أخرى، لأن ذلك الحرص دفع المضاربين للضغط على الجنيه عن طريق زيادة معدل الطلب والحد من حجم المعروض ليفقد الجنيه أكثر مما ربح من تأمين أرصدة الاحتياط النقدي بالعملات الأجنبية. وانطلاقاً من التصور السابق، يرى سليم أنه من الضروري تغيير النظرة إلى الاحتياط على الاقل من الناحية النفسية التي منحت على مدار العامين الماضيين ثقة هائلة للتعاملات الدولارية على حساب التعاملات بالجنيه، حتى إن بعض المصارف لجأ في الفترة الماضية إلى تكوين مخصصات خسائر بالدولار في أرصدة يتم تجنيبها لمواجهة حالات التعثر والقروض المشكوك في تحصيلها. لهذا فإن اللجوء إلى تكوين سلة من العملات الدولية للاحتياط قد يكون له تأثير في الحد من الميل الحاد إلى طلب الدولار ليس للاستخدام وحده وإنما للإكتناز كذلك. كما أن تعدد المصادر النقدية لرصيد الاحتياط من القطع الأجنبية يعمل على تفكيك مخاوف السلطات النقدية من المساس بأرصدة الاحتياط. وتشير الأوساط النقدية إلى أنه على رغم الجدل الدائر إلا أن الظروف التي تمر بها سوق الصرف الأجنبي والاستحقاقات العديدة التي تواجهها السلطات النقدية، مع سريان تشريع المصارف الجديد والضغوط التي تواجهها الحكومة في مطلع العام المالي الذي بدأ منذ شهرين، تبطئ من التجاوب مع هذه التطلعات التي تحتاج في الأساس إلى حال من الاستقرار النسبي كتلك التي سادت خلال الفترة من نيسان ابريل وحتى حزيران يونيو الماضيين للشروع في إجراء من هذا النوع.