ننشر هنا مقاطع من كتاب "عرب الأهوار" الذي يصدر قريباً عن منشورات الجمل كولونيا - المانيا في ترجمة عربية أنجزها الروائي العراقي حسن ناصر المقيم في استراليا. صاحب "عرب الأهوار" المنشور للمرة الأولى بالانكليزية سنة 1964، الرحالة البريطاني ولفرد ثيسيغر توفي الأسبوع الفائت في أحد مستشفيات لندن، عن 93 عاماً. أن يكون كتابه اللافت هذا عرف مجداً وشهرة في الغرب، من دون أن يظهر في العربية وينتشر، فهذا ليس إلا مفارقة أخرى محزنة من مفارقات حياتنا وثقافتنا. الأهوار عالم مائي نادر، ونمط عيش تواصل آلاف السنين، ثم أُلغِي بأمرٍ رئاسي. جُفِفت الأهوار واختفت تلك المستنقعات بين دجلة والفرات. اختفت حقول واختفت أكواخ واختفت مراكب واختفت حياة كاملة. كتاب ولفرد ثيسيغر يصف هذا العالم الذي اختفى من الوجود. أقام الرحالة البريطاني في أهوار العراق بين عامي 1951 و1958، قبل سنوات طويلة من وصول الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين الى سدّة الحكم. صوَّر هذا العالم فوتوغرافياً انظر الصورتين في الاسفل وكتب عن هذه الأهوار بحبٍٍ كما كتب بحبٍ قبل ذلك عن "الرمال العربية" 1959. عاش ثيسيغر في "الربع الخالي" وشاطر البدو حياة الشظف والشمس والكثبان التي تتكرر الى ما لا نهاية. كتب عن ذلك. ثم عاش بين عرب الأهوار جنوبالعراق، حيث يلتقي الرافدان. وكتب عن ذلك. عالم الأهوار ليس الصحراء. في الصحراء وَصَفَ الإبل. في الأهوار وصف الزوارق ودجاج الماء وأسراب البط والأوز ومالك الحزين وجزراً تظهر ثم تغرق. في الحالين وصف ثيسيغر حياة بدائية شدَّته اليها بجاذبية لا تقاوم. حياة بدا انه يفضلَّها على الحياة في الغرب. الرجل الذي عُرِف بعدائه للحضارة الاستهلاكية الحديثة يذكرنا ربما بغربي آخر اكتشف في الشرق حياة أقرب الى السكينة والحكمة التي يبحث عنها: محمد أسد صاحب "الطريق الى مكة". عاش ثيسيغر في الصحراء ثم في الأهوار ثم في أثيوبيا ثم في كينيا. كان يبحث عن عالمٍ بعيدٍ عن هذا الزمن الحديث. الآن انتهت رحلته. عاش عمراً توراتياً 93 عاماً. ثم انتهت رحلته. ما ننشره هنا من حياة الأهوار التي خَبرها في خمسينات القرن العشرين يدّل الى قوة الكلمات التي لا يمحوها الوقت، ولا تندثر. الكلمات القادرة على استعادة عوالم أزالها طغيان الطبيعة أو... البشر.