كل قارئ مهتم بمدوّنة الرحلات الحديثة لا يخالجه شكّ في أن «ولفريد ثيسيغر» خلق ليكون أحد الرحالين المتميزين في القرن العشرين، فقد استوفى شرطا أساسيا في الانضمام إلى تلك النخبة، وهو أن يرمي بنفسه إلى الأقوام التي يعاشرها من دون خوف، فيودعها ثقته، وينال ثقتها به، ويفصح عن رغبة في التعلّم عبر المشاركة والمعايشة، ولا يشحّ في بذل الوقت والجهد والمال من أجل ذلك، فلكي يحوز الرحّالة صفته فلابد أن يتخطى عثرات العزلة، ويكون شجاعا في عبور الحواجز التي تفصله عن الآخرين، فيصبح جزءا من عالمهم من دون نسيان ذاته، إلى ذلك فالرحالة الحق مسكون بارتحال لا ينتهي فلا يركن لعمل يقعده في مكان إلا حينما يعجزه الزمن من السعي في تلك الرغبة الغامضة في الترحال، ولا ينبغي له تشويه الحقائق، ورسم صور ينتقص بها من جماعات تخالفه في الرؤية والثقافة والمعتقد والعرق واللون. أمضى» ثيسيغر» شطرا طويلا من عمره مترحّلا، بل أسرف في ذلك من دون أن يظهر عليه أي نوع من الإعياء، والملل، فطاقته كبيرة في مغالبة الصعاب، ومع أنه تعرض في كثير من الأصقاع للظمأ والجوع والإرهاق والخوف، وخامرته شكوك حول نهايات محتّمة في صحارى منقطعة عن العالم، لكن الروح الإنساني كان يستيقظ في أعماقه فيتغذّى بالأمل، وتلك حالات عبور نفسية ينبغي أخذها بالحسبان في أدب الرحلة، فليس الإقدام هو وحده الذي يفضي بالرحالة إلى جني ثمرة المغامرة في أرض الآخرين إنما تكالب الصعاب، وزحف الأخطار، والتشويش على الأهداف الكبرى، وكل ذلك مما عرفه «ثيسيغر». ولعل محنة العمر الطويل التي جاوزت به تسعين عاما جعلته في أخريات أيامه يغطس في حنين مشوب بالحسرة إلى أكثر من نصف قرن من الترحال، إذ اعتزل الحياة العامة، وأغلق بابه دون الآخرين، وتوفي في شقته بلندن في عام 2003، ومن المرجّح أن السنوات الخمس الأخيرة من حياته أمضاها في استعادة عالم أصبح نسيا منسيا لكثيرين، فمعظم ما رآه، وأسهب في وصفه لم يعد له وجود تقريبا، فقد انحسرت عن العالم روح الطبيعة التي شغف بها، وتهاوى سحر البراءة، وتفككت الروابط التقليدية الداعمة لقيمة الإنسان، وانفرط عقد كثير من الأعراف الضامنة للحماية الاجتماعية، ونشط التدين الراغب في محو التنوعات وتحويل المؤمنين إلى كتائب عقائدية، واستوت مؤسسة الدولة وقد ربطت رعاياها بتبعية لها تثير الخوف أكثر من الاطمئنان، وحلّت الحدود محلّ التخوم، وصار التجوال مثار ريبة، وانبثقت الفردية الطاغية، والأنانية المفرطة، وظهر إسراف في المتع العابرة، وعلى خلفية كل ذلك جرى تخريب الطبيعة في معمعة تمدين فوضوي شوّه وجه الأرض، ولوّث صفحة السماء، وحلّ ضجيج الآلة محلّ تأوهات الكون، ولكي يحتمل المرء كل هذه الزواجر فيجمل به معايشة الحزن ومغالبة القلق. ولئن عامت مثل هذه التأملات المضمرة والصريحة في صفحات كثيرة من كتب «ثيسيغر» فإنما لأنه حدس بأفولها المحتّم، وتنبأ بغيابها النهائي. على أنه لم يكن رومانسيا يرثي عالما آفلا، فهو رحالة مشغول بالإنسان ومحيطه، وفي كثير ما دوّن يمكن العثور على نزوع «أنثربولوجي» فلطالما عُني بوصف علاقات بشرية مآلها الزوال، فمبعث حنينه انحسار التنوع الطبيعي والبشري للعالم لا اليأس من الحداثة ومقاومتها. ومع كل هذا فقد كان «ثيسيغر» الابن المدلل للإدارة الإمبراطورية، فهو ابن السفير البريطاني في الحبشة حيث ولد في «أديس أبابا» في منتصف عام 1910، ولعلّ أبكر ما عرف في حياته ضروب الطاعة التي كانت تقدّم لأمثاله المرتبطين بكبار رجال الإدارة الاستعمارية، وما يتبع ذلك من فروض يُجبر عليها الأهالي صاغرين لرجال بيض مستعمرين مولعين بحفلات صيد الحيوانات في الربوع الإفريقية حاملين دعوى التمدين إلى شعوب تعيش على سجيتها الأولى. وكان أبوه قدّم خدمات جليلة للتاج الملكي في الحبشة، ومنها حماية وريث العرش من قتل مؤكد، فلا عجب أن يدعى الابن إلى حفل تتويج «هيلا سيلاسي» ملكا لملوك الحبشة، ردا على جميل أبيه، فرآه بعينه يُدهن بالزيت من قبل الكهنة، ويرسّم إمبراطورا لسلالة بعيدة الجذر تزعم أنها «من أحفاد سليمان الحكيم وملكة سبأ». ومع أن كل الظروف المحيطة به كانت تغريه لأن يرتقي سلم العمل الدبلوماسي في الإدارة الإمبراطورية التي كانت بحق لا تغيب عن أطرافها الشمس، لكنه فضّل اختيارا آخر منذ طفولته، فقد سُحر بالعالم خارج المركز الأوربي، وجذبته الغرابة، واكتشاف المجاهيل، واختار المغامرة على السكون، والتغنّي بالأمجاد الإمبراطورية، وقرأ بنهم كتب الرحلات متخيّلا ما أصبح قادرا على اكتشافه بنفسه حينما غدا شابا، فلم يمارس عمله الوظيفي إلا لسنوات قليلة من عمره الطويل الذي سلخه في ترحال لا نهاية له، فبعد أن ترحّل في شرق أفريقيا ووسطها، يمّم وجهه شطر شبه الجزيرة العربية خلال النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، فطاف في معظم أرجائها الصحراوية، وما أن غادرها إلا وجذبته مستنقعات العراق الجنوبي، فأمضى فيها نحو عشر سنوات بين 1948 و1958، وما لبث أن انجذب إلى الشرق الآسيوي. ولعل ما كان يثير الشغف في نفسه رغبته في معايشة جماعات لم تنخرط بعد في سلّم المدنيّة الحديثة، فكانت هانئة بحياة تحكمها تقاليد وطقوس، ولم تمتد بعد إليها يد السلطة الكاملة، فكانت تمتثل لأعرافها، وكان يخشى أن تخربها المدنية التي لا توقّر طقسا، ولا تحتفي بمعتقد، فتستبدل ذاك بهذا بحجة التمدّن التي لكثير من نتائجها من المساوئ ما يناظر الحياة البدائية لبعض الأقوام، والحال فلم يقبل» ثسيغر» باقتلاع هذه الجماعات عن مواطنها وحواضنها الثقافية، فقد سحر بعذريتها، وحياتها الخاضعة لأعراف الطبيعة أكثر من خضوعها لشروط الثقافة. حينما ننعم النظر في مدونات الارتحال التي خلفها» ثيسيغر» نجدها شاملة، ففيها رحلاته الإفريقية، والعربية، والآسيوية، والأوروبية، ومنها» رمال عربية» و»عرب الأهوار» و»صحراء، هور، جبل» و»آخر البدائيين» و»عبور الرمال» و»بين الجبال» و»أيامي في كينيا» و»عالم زائل»، وغير ذلك. ولعل النغمة الرابطة لكل رحلاته هي حرصه على تقدير الجماعات التي يرتحل إليها، فمن ذلك ما ذكره في تمهيد كتابه عن عرب الأهوار العراقية بأنه شعر كمن يقيم في بيته ووطنه، فتقبّلته العشائر كأنه فرد منها، ووفرت له المساعدة والحماية، وأقام معهم صلات غدت موضوع احتفاء دائم من طرفه، فكان يزورها بين وقت وآخر على مرّ السنين، ولذلك ما يناظره في إنشاء علاقات متينة مع البدو في الجزيرة العربية، إذ مكّنوه من مخر عباب الصحراء في تطواف شاق، ونادر المثيل، فلا غرابة أن يهدي كتابه «رمال العرب» لاثنين منهم، وهما ابن غبيشة وابن قبينة. في رحلته إلى الربع الخالي بعد الحرب العالمية الثانية التي فصّلها في كتابه الشائق «رمال العرب» انطلق «ثيسيغر» من عُمان صوب هدفه، فطاف في وسط شبه الجزيرة، وغربها، وجنوبها، وشرقها، وكتب عن أهلها بإعجاب لا يخفى معتقدا أن المدنيّة الغربية سوف تفسد نقاءهم، وتخرب العلاقات الاجتماعية، كما حدث لكثير من الشعوب الإفريقية، فتأسّى على التحولات التي سوف تلحق بالحياة البدوية في جزيرة العرب «ذهبت إلى جنوبي الجزيرة في الوقت المناسب تماما، وسيذهب غيري إلى هناك ليدرسوا علم طبقات الأرض وعلم الآثار والأطيار والنباتات والحيوانات، وليدرسوا إلى جانب ذلك أولئك العرب أنفسهم، إلا أنهم سينتقلون في سيارات، وسيتصلون بالعالم الخارجي عن طريق الهاتف، وسيأتون بنتائج أهم مما أتيت أنا بها، ولكنّهم لن يعرفوا روح البلاد وعظمة العرب. ولو ذهب أحدهم الآن إلى هناك، بحثا عن الحياة التي عشتها فلن يجدها، لأن الفنيين قد ذهبوا قبله منقّبين عن البترول، والصحراء التي سافرت فيها تركت عجلات الشاحنات فيها آثارا بغيضة، واتّسخت ببقايا البضائع المستوردة من أوروبا وأمريكا. ولكن هذه الأقدار المادية ليست مهمة إذا ما قورنت بالانحطاط الذي وصل إليه البدو أنفسهم، ولمّا كنت معهم، لم يكن لديهم أية فكرة عن عالم غير عالمهم، ولم يكونوا متوحشين جهلاء، بل على العكس، كانوا الورثة المتعصبين لحضارة قديمة جدا، ولقد وجدوا ضمن إطار مجتمعهم هذا الحرية الشخصية والتهذيب النفسي الذي تاقوا إليه.. أما اليوم فإنهم يدفعون خارج الصحراء إلى المدن، حيث لم تعد تكفيهم المزايا التي منحتهم الجلد والسيطرة في الماضي على قوى لا تقهر، كالجدب الذي طالما قتلهم في الماضي، وحطم نظام حياتهم». طاف «ثيسيغر» في كثير من أرجاء شبه جزيرة العرب، ومخرها طولا وعرضا في أربعينيات القرن العشرين، وواجه صعابا كثيرة في معرفة الربع الخالي، لكنه ظل يعترف بأن ذلك كان أشبه بالمستحيل لو لم يمدّ البدو له يد العون، في سائر ما قام به من رحلات في تلك الأصقاع النائية، فقد وفروا له الحماية حيثما كان، فوصف تضامنهم الأخلاقي، وكرمهم الذي ارتقى إلى كونه سجية طبعت حياتهم حتى لو كانوا فقراء لا يملكون شيئا، ففكرة المشاركة في الأشياء، وبخاصة الطعام، تتجاوز كثيرا التقاليد الحديثة القائمة على الاستئثار والجشع والنهم، ولهذا جعل البدو من الكرم عادة تتحقق بها هويتهم، ولعل كل هذا يضع تحت الضوء مفهومي وفرة الطعام وندرته، فما دام تداول الطعام في الصحراء خاضعا للصدف، فلا يجوز أن يبخل به أحد على عابر سبيل، فمن كان يتوفر عليه اليوم سيكون بحاجة إليه غدا، وعلى هذا فلا يجوز الشحّ به، بل المسارعة إلى منحه مهما كان قليلا، ومهما كانت الحاجة ماسّة إليه، فذلك تعبير مباشر عن مشاركة ضمنية بظروف يكاد يتساوى الجميع فيها، لكنه تأسيس لعلاقات رمزية تصونهم وقت الكفاف، وعند الحاجة. من الصحيح أن»ثيسيغر» قد واجه صعابا حقيقية أفاض في وصفها، واظهر صبرا في مواجهتها، لكن الحماية البدوية وفرت له قدرة على تخطّي تلك الصعاب، فزاد تعلقه بالصحراء، فما يكاد ينتهي من رحلة إلا ويستأنف أخرى مؤجلة، فعرف عُمان واليمن والحجاز ثم الصحراء الشاسعة في قلب جزيرة العرب وشرقيها، وطوال ذلك كان يرحل بحماية جماعة من البدو المتمرسين بالمشاق، والعارفين، في الغالب، بالطريق الصحراوية المخادعة التي لا تبيت على حال، فكانت الاتجاهات هي الدليل الموجّه لهم وليس العلامات الطبيعية المتغيرة، ومع التقتير العام في كل ما يتصل بحياة البدوي، وفقد سعى لحمل المئونات الضرورية من حبوب وزيوت له وللجماعة الحامية، وفي بعض الأحيان كانت تلتحق به عنوة جماعة من عشرات البدو، لكنه لم يتبرّم، ولم يسخر، وما لاح عنده أي نوع من الازدراء لحياتهم، على النقيض من ذلك ظلّ مشغولا بضرورة انقطاعه عن نسق حضري من الحياة والاندراج في نسق طبيعي. وكانت الحصيلة كبيرة، فلم ينجح في وصف أطراف كثيرة من تلك المناطق النائية، فحسب، إنما وصف المتع الكبيرة التي أحس بها وهو يمخر أطرافها طولا وعرضا. وقد انغمر في حياة الناس حيثما ذهب.