وقف عتبة بن غزوان على حافة منابت القصب، أي الأهوار بشمال البصرة، قائلاً لجيشه: "ليس هذه من منازل العرب". فاستبدال الحصان والجمل بزورق الهور الرشيق، والخيمة بصريفة القصب ليس بالأمر الهيّن. وبهذه الكلمة عبر عتبة عن قدم جغرافيا الأهوار وأهلها، بعد أن أنكر ذلك باحثون وسياسيون، كان ذلك فضلاً عن ذكرها في الملاحم السومرية: الخليقة وجلجامش والطوفان. قصد الأهوار مستكشفون أجانب عديدون، تبقى صلتهم بالمكان عبر رسائل وكتابات، ومنهم من يفاجئ بوصول صديق من أهل الهور الى لندن. فقد حدث ما لا يتوقعه البريطاني كافن يونغ: "رنّ هاتفي في لندن فرفعت السماعة لأسمع صوتاً يقول بالعربية: إني فالح بن جاسم، من؟ فقد بدا لي ذلك من دون معنى الى أن ادركت فجأة انه فالح الإبن الثاني للشيخ جاسم، فقلت: ماذا تعمل هنا في لندن؟ انا مريض وجئت للعلاج، هل يمكنك المجيء إليّ؟". وحينها قام الرحالة الإنكليزي بواجب الضيافة والعناية على أتم وجه. وللأسف ما كتبه عراقيون حول الأهوار لم يرق الى مستوى الحقيقة والمودة التي كتب بها الأجانب. فقد جاء كتاب شاكر سليم "الجبايش"، أقل من المرجو تجاه طبيعتها وأهلها، وما كتبه محمد الطائي في "اقليم القصب في جنوبالعراق" كان تحريضاً ضد بيئتها، ودعا من دون دراية بتاريخ المكان وجغرافيته الى تجفيفه، ومدّ طرق السيارات، ظناً منه ان الهور عبارة عن مستنقع من الماء الضحل! وفي تصوري ان تسمية الهور بهذا الإسم ليس لها علاقة بما يعرف بالمستنقعات، وبالتالي لم يكن مشتقاً من الفعل الثلاثي هار. فالهور مكان قديم، وتسميته بهذا الاسم كانت معروفة قبل تعرف سكانه الأصليين على اللغة العربية. ان تاريخ اكثر من خمسة آلاف سنة يجعل الهور في حل من ذلك المعنى، فالمصادر التاريخية تشير اليها ككيان له خصوصيته وحضوره الحضاري، بيد ان تسمية المستنقع تجعلها بركة مائية طارئة. وفي اصل تسمية الهور ارى ان الاسم له علاقة بأبرز ظاهرة مناخية، وهي سطوع الشمس الدائم، وانعكاسها على سطح الماء الشاسع، ومن ذلك يظهر الهور باللون الأبيض، رغم ان لون القصب والبردي الأخضر. وكثيراً ما يشير اهل الهور الى اماكن تدعى البياضة، وقد عبر يونغ عن هذه بياض الهور من دون قصد: "اني رأيت، على رغم بعد المسافة، النهايات البيض المتموجة للمقاصب الكبرى"، وبالتالي ان اسم الهور اسم آرامي، يعني البياض، فهورا الآرامية تعني "البياض، والنقاء" ومنها تكون حوران: اي الأرض البيضاء النقية. وكذلك نجد في القاموس المندائي مفردة HWR بمعنى Whiteness، مع علمنا ان الناطقين بالآرامية الشرقية، الصابئة المندائيين، اتخذوا من الاهوار مكاناً لهم منذ القدم، وقدّسوا ماءها مثلما قدّسه السومريون من قبل، ومع علمنا ايضاً ان الآرامية كانت لغة المنطقة قبل العربية. وفي السريانية الحية بالعراق، تعني كلمة حورو البياض أيضاً، وفي العديد من اللغات تحتل الهاء مكان الحاء. وفي الفارسية تعني كلمة الهور "الشمس"، أو النجم. والتسميتان تدلان على البياض ايضاً، والتنافذ بين اللغات المذكورة لم يكن بعيداً في ذاك الحيز الجغرافي. ما تقدم كان مجرد رأي، لكن الأهم من ذلك ان الاهوار لم تكن مستنقعات، تنتظر من يردمها، ويلغي بيئة، قال اهلها القدماء عنها: انها بداية الخليقة. من نظريات نشأة الاهوار: "ان ارض العراق قد تعرضت لحركة إلتوائية في الزمن الجيولوجي الثالث، كان من جرائها ان ارتفعت بعض الاجزاء مكوّنة مرتفعات العراق الشمالية الشرقية، بينما حدث تقعر في مناطق العراق الوسطى والجنوبية، ادى الى توغل مياه الخليج العربي لتغطي ذلك المنخفض". ووفقاً لهذه النظرية اعتقد العلماء: "ان رأس الخليج كان في عام 4000 قبل الميلاد على مسافة نحو 96كلم، الى الجنوب الغربي من مدينة بغداد، وأنه كان عند موقع مدينة الناصرية الحالية زمن السومريين، في الألف الثالث قبل الميلاد، وكانت اور تقع عليه آنذاك". وهذا الرأي كان معروفاً بين العارفين من اهل المنطقة، ونقل الى الاهالي حتى اصبح معلومة شعبية ملخصها: ان موانئ البصرة الحالية كان في مدينة الناصرية شمالاً في زمن ما. لكن هناك من الجيولوجيين من يسقط هذه النظرية، ويرى ان مدينة أور كانت تقع على جرف الفرات "الذي كان يخترق هذه المنطقة في طريقه الى ساحل الخليج، وأنه لا يوجد اثر لساحل البحر قريباً من أور". ويذكر، ان المنقبين الأثريين بأور وجدوا "بقايا مشروع سد قديم، ومعالم رصيف ميناء، وقد أقيم هذا السد لتوزيع مجرى الفرات الى فرعين". ومقابل الرأي السالف، في نشأة جغرافية الأهوار، اعتقد جورج رو بحداثة اكبر اهوار المنطقة، هور الحمّار، أي كان نشوئه بحدود العام 1870م، ونشر اعتقاده هذا في مجلة "سومر" 1957. ودليله على ذلك ان بعثة جيسني التي قامت بدراسة أنهر العراق في ذلك الوقت لم تفرد وصفاً للهور المذكور في تقديرها، وأن ما ورد في كتاب البحرية البريطانية حول فيضان نهر الغراف أشار الى خراب ضفاف الفرات حينذاك. ويرد احمد سوسه على ذلك بقوله: "هذا لا يتفق وواقع الحال للأسباب التالية: ان مهمة بعثة جيسني كانت تنحصر في دراسة إمكانات الملاحة على انهار العراق، وكان مجرى نهر الفرات الرئيسي في زمن قيامها بهذه الدراسة، اي بين 1835 - 1837، يجري في الاتجاه القديم بين سوق الشيوخ والقرنة، وكان مجراه في هذا الاتجاه آنذاك من السعة، بحيث كانت تمر فيه السفن والبواخر بسهولة، لذلك لم تهتم البعثة بهور الحمّار، وقد حصرت دراستها بمجرى النهر الرئيسي. أما ما جاء في كتاب البحرية البريطانية من ان مياه فيضان شط الغراف قد خربت ضفاف الفرات اليمنى، على اثر انضمامها الى مياه الفرات، فهذا الحادث ان وقع فعلاً يكون قد ادى في الحقيقة الى تغيير مجرى الفرات من اتجاهه بين سوق الشيوخ والقرنة الى اتجاهه الحالي، داخل هور الحمّار بين سوق الشيوخ وكرمة علي". وخلاف جورج رو أكد الباحثون: "ان هوراً كبيراً مثل هور الحمّار كان في العصور القديمة يقع بالقرب من أور وأريدو". وأن آثار هذا الهور، قرب المدن السومرية المذكورة أوهمت المنقبين الأثريين "عن اتصال هاتين المدينتين بالبحر، وليس لأن حد ساحل الخليج كان يصل الى هذه المنطقة". وعلى العموم، ان وجود آثار البردي والقصب كما ظهرت في الألواح السومرية وفي الأدب والفن السومريين لا يحتاج الى دليل على قدم المكان، حتى ان السومريين جعلوا للأهوار والمياه العذبة إلهاً خاصاً هو الإله آنكي. ومن تركة اللغة السومرية في لهجة اهل الاهوار، الحالية، كلمة ايشان وتعني التل المحاط بالماء، وفي هذا المجال ذُكر ان تسمية الاهوار السومرية "الأكامي والتي تكاد تكون قريبة من لفظة الأجمة، التي تعني المسطحات المائية، التي تنمو فيها نباتات القصب والبردي". وقد ورد أجمة القصب في ملحمة "العلي عندما": لم تكن بعد مراع خضر، عندما لم تكن بعد أجمات القصب". والأجمة هي تسمية من التسميات العربية للأهوار، كما سيأتي ذكره في ما بعد. وفي هذا الصدد اشار عالم الآثار العراقي طه باقر الى قدم الاهوار في دراسته حول تاريخ نبات البردي، المعروف ب"أربتو" عند السومريين، كما وردت في كتابات الملك الآشوري شيلمنصر الثالث 858 - 824 ق.م. قال باقر: "ذكر نوع من القوارب صنعت من نبات أربتو، وميزت عن نوع آخر من القوارب كانوا يستعملون فيها الجلود المنفوخة، اي ان النوع الاول من القوارب هو الذي يشبه القوارب التي تصنع في العراق الآن من البردي والقير، كالمشاحيف والقارب المدور المسمى في العراق الآن باسم القفة، كما ذكرت المصادر المسمارية الحُصُر المصنوعة من هذا النبات، وقد سمّتها باسم أرشو أربتي، اي فرش البردي". وعرفت الأهوار في التاريخ العربي الاسلامي بالبطائح او البطحية، والأجمة او اجمة البريد، وبالهور، والتسمية الاخيرة كانت محدودة. والاهوار على حد وصف ابن منظور: ماء لا يرى طرفاه من سعته، وهو مغيض دجلة والفرات. واهتم المؤرخون والجغرافيون المسلمون في بيئة الاهوار لطبيعتها المثيرة، بما فيها من تفاصيل غامضة تثير الفضول، اضافة الى انها كانت ملجأ للمعارضين والهاربين من السلطات، الافراد والجماعات. وعلى حد علمي ان كل ما ظهر اسلامياً عن الاهوار او البطائح كان اساسه رواية المؤرخ البلاذري التي جاء فيها: "ثم كانت السنة التي بعث فيها الرسول عبدالله بن حذافة السهمي الى كسرى أبرويز، في السنة السابعة للهجرة، ويقال السنة السادسة، زاد الفرات ودجلة زيادة عظيمة، لم ير مثلها، قبلها وبعدها، وانبثقت بثوق عظام، فجد أبرويز ان يكسرها فغلبه الماء ... فاتسعت البطيحة وعرضت". ويعلّق المحقق شارل بلا على رواية المسعودي في نشأة الأهوار بقوله: "ذكر المؤلف انها تكونت في صدر الإسلام، وذلك غير صحيح، لأنها كانت موجودة منذ عهد طويل، وإنما أخرب الناحية فيضان سنة 16 وسنة 17 للهجرة، ووسع البطائح". واستناداً الى ما نصطلح عليه بالنظرية الإسلامية في نشأة الأهوار قال الحموي في "معجم البلدان": "استفحل امر البطائح، وانفسدت هكذا وردت مواضع البثوق وتغلب الماء على النواحي، ودخل العمال بالسفن، فرأوا فيها مواضع عالية لم يصل الماء إليها، فبنوا فيها القرى، وسكنها قوم وزرعوها رز". ولو كان الحموي رحالة شهد الأمكنة ما قال ذلك، لأن شتلات الرز لا تنبت في اليابسة، وإنما تزرع في ماء عمقه ذراع على الأقل، فهو نبات مائي، ويحصل حصاده بعد انسحاب الماء بالموسم، على وجه الشتاء. كذلك ان وجود نبات الرز بالبصرة عند فتحها يؤكد قدم هذا النبات في المنطقة، فحسب رواية الحموي نفسه في "معجم البلدان" مادة البصرة ان العرب تعرفوا عليه اول مرة فيها. اما اهل الاهوار فلهم حكاياتهم بنشوء المكان، ومن هذه الحكايات تذكر الباحثة الألمانية هلبوش ونؤكد سماعنا لمثل تلك الحكايات، مع صعوبة التحقق من موضوعيتها، منها: "ان النار الهائلة شبّت منها ولم يستطع الناس الذين اسرعوا على ظهور الخيل إطفاءها، ثم اندفعت المياه الى هذا المكان قبل مئتي سنة". والباحثة المذكورة، التي عاشت في الاهوار ما يقارب العام، توصلت الى النتيجة التالية: "ان منطقة الأهوار هذه كانت مسكونة منذ اقدم العصور التاريخية، وكانت هدفاً لهجرات مجموعات من الناس في ادوار ما قبل التاريخ، واستطاعت ان تحافظ على عنصريتها، وأصلها القديم الذي نجده اليوم". ويقال ان التلال المنتشرة في عرض الأهوار كانت مزروعة بأشجار الفاكهة. ويتذكر السكان، بحسرة، ما قيل لهم عن مزارع الرمّان والكروم على حافة الهور، حتى ظنوا ان اسم منطقة ابو سوباط في اطراف هور الحمّار انه من بقايا سوابيط عرائش العنب. وفي تاريخها الزراعي ونشوئها الحديث قال ابو عبيدة البكري 487ه في "المسالك والممالك" ص236: "ثم انها دجلة خرقت الأرض حتى مرّت بين يدي واسط، حتى صبّت ماءها في هذه البطائح، والبطائح يومئذ ارض تزرع متصلة بأرض العرب". وأعتقد ان ذلك التصور لا صحة له، وهو مجرد الحلم بالجنة، فجزر الهور لا تصلح للبساتين لضيق مساحتها، وغمرها بمياه الفيضان سنوياً. وقد تأثرت الألمانية هلبوش بتلك التصورات فراحت تقول: "ويستدل من التلول الأثرية الكثيرة الممتدة على شاطئ الهور على ان ارض الهور كانت في زمن ما بارزة ومزروعة تعج بالقرى والحياة الريفية". ويصف المسعودي الاهوار بقوله: "صارت البطائح الى هذا الوقت مسيرة أيام، وذلك بين واسط والبصرة، واسمها في هذا الوقت في ديوان السلطان آجام البريد". وقال البلاذري: "لما تبطحت البطائح سميّ ما استأجم من شق طريق البريد آجام البريد، وسمّي الشق الآخر آجام اغمربشي، وفي ذلك الآجام الكبرى". وجاء في يوميات ثورة الزنج بالبصرة تاريخ الطبري السنة 262ه: "توجه رجال الزنج الى البطيحة ودستميسان العمارة حالياً. وجاء ايضاً: "فكتب الجبائي الى قائد الزنج يخبر بأن البطيحة خالية من رجال السلطان". وقال ابن رستة 290ه في كتاب "الأعلاق النفيسة": "ويحمل بعض ما فيها من الزواريق، فتمرّ في شبه أزقة تصل بين الأهوار. وبين هذه الأزقة مواضع متخذة من قصب عليها اكواخ من قصب يكتنون بها من البق، وفيها مسالح مفارز مسلحة يعمل رجالها على تطهير المجرى وحماية الملاحين، لأن البطائح مكامن طبيعية تختبئ فيها اللصوص". ان المواضع التي اشار اليها ابن رستة تسمى في الاهوار، اليوم، بالجباشات مفردها جباشة والدبون مفردها دبن وتتكون من تراكمات البردي والقصب على مرّ السنين، وتتحرك بما عليها من كوخ وإنسان وحيوان، وكان اسمها الآرامي طهيثا ومعناها: "قرية تائهة لوجودها بين الأهوار". وحسب المصدر السابق، ذكر ابن سيرابيون احد الاهوار باسم البصرة الآرامي بصرياثا وهور بحصى، وهور بكمص، وهور المحمدية، ولعل الهور الأخير هو الحمّار، فهناك على جرف ذلك الهور ضريح قديم اسم صاحبه محمد، ما زال مزاراً. وورد الهور بهذه التسمية وبالأجمة، عند الجاحظ بقوله: "حدثني ابراهيم النظّام، قال: وردنا زقاق الهفة في أجمة البصرة، فأردنا النفوذ فمنعنا صاحب المسلحة، فأردنا التأخر الى الهور، الذي خرجنا منه فأبى علينا". وذكر ابن رستة مساحة الاهوار وجغرافيتها، وطريقة الملاحة في نقل ما يأتي من الخليج ودجلة بقوله: "انها منطقة واسعة تؤلف سلسلة بحيرات ومستنقعات، وهي ثلاثون فرسخاً، وكانت تكتنف هذه الاهوار القرى والقصبات، فكثير فيها البردي والقصب، وهي تستقي الماء من الترع التي تأخذ من الأهوار، وكانت هذه الأهوار متصلة بعضها ببعض بترعٍ صالحة للملاحة، فكانت السفن تأتي بحمولتها فتفرغها في سفن اصغر منها لقطع الأهوار، والترع المؤدية الى شط العرب". وذكرها البكري بالبحيرة التي بين البصرة وواسط، وقدّر مساحتها بقوله: "ثلاثون فرسخاً الفرسخ نحو ستة كيلومترات في ثلاثين".