توفي قبل أيام في مستشفى لندني أحد أكبر رحّالي العالم ومكتشفيه ووصّافيه، ولكنْ أيضاً أحد أكبر رجعييه. فعن 93 عاماً قضى السير ولفرد ثيسيغر، آخر حبّات العنقود الذي شمل أسماء ليفينغستون وستانلي وسبِك وبيرتون و"لورانس العرب". ففي الترحال عاش سليل التقليد العريق معظم حياته، وفي أطوار مختلفة منها، نال أوسمة حملت أسماء الأسلاف العظام المذكورين. وثيسيغر، المولود في 1910، كان نمطياً في تمثيله إحدى العقليات الاستعمارية التي جمعت الخلفية الأرستوقراطية إلى الهوى الرومنطيقي. وبهذا المعنى، كره هذا الثري النبيل الحداثة وحضارتها، وعادى المرأة والمساواة معها، واكتشف العظمة والأصالة في حياة البدائيين. ففي المفوضية البريطانية بأديس أبابا ولد ولفرد لأب يشغل منصب وزير لدى عرش امبراطور الحبشة، قبل أن تُسمى أثيوبيا. ولئن عادت العائلة الى انكلترا في 1919، أعطته تربيته في شرق أفريقيا حساً بالأمكنة الإيكزوتيكية كما باحترام الثقافات القديمة والشعوب البدائية. وفي بلده درس في مدارس النخبة وجامعاتها، فأُرسل إلى إيتون وأكسفورد بيد أنه، في 1930، وكان لا يزال طالباً جامعياً، عاد إلى أديس أبابا ليحضر تنصيب هيلاسيلاسي. وإبان رحلته تلك التقى بالروائية الشابة آنذاك إيفلين واف، فنشبت بينهما مشاجرة حادة بسبب قلة اكتراثها بذاك الحدث الملكي الذي رآه عظيماً. والأهم أن ثيسيغر كان أول أجنبي يعبر الربع الخالي في المملكة العربية السعودية، ما فعله مرتين في 1946 و1948، حين كانت تلك الصحراء بكثيب رملها المرتفع بعض آخر مجهولات الكرة الأرضية. وبهذا كان الرحالة البريطاني أول من يدخل واحة اللوا التي يعرفها قراء الشعر الجاهلي، وأول من يرى الوعث، أي الرمل الرخو الذي تغرق الأقدام فيه، في أم السميم. وكان "الرمال العربية" الكتاب الذي ضم خلاصة تلك الرحلات والاكتشافات، وقد نشره في 1959 ليغدو سريعاً أحد الكتب الأكثر مبيعاً. وفيه أشهر ثيسيغر حبه للبدو وشظف عيشهم الذي شاركهم إياه في الربع الخالي. وفي كتابه الثاني الذي وازى الأول شهرة، وكان عن "عرب الأهوار"، استأنف جهده. فهذا العمل المطبوع في 1964 موضوعه السنوات التي قضاها بين 1951 و1958 بين عرب المعدان في الأهوار حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات. فهناك عاش ثيسيغر في بيوت واسعة من القصب تطفو على جزر عائمة بالخضرة. وهناك عبر الأهوار بزورق واصطاد بطاً وخنازير برية، كما وزّع أدوية كان يحملها على السكان المحليين. ولئن ابتدأ حياته في الرحلات مستكشفاً منطقة عفار شمال أثيوبيا، فإنه أنهاها بإعلان خيبته حيال الحداثة والآثار التي خلّفتها على المناطق التي اكتشفها. ذاك أن وسائل المواصلات وأنابيب النفط غدت تخترق الكثير منها، فيما اختفت الجِمال لصالح سيارات تويوتا ومثيلاتها. وبالطبع، ظل الأبشع والأكثر وحشية بين أفعال الحداثة في أكثر أشكالها قسوة تجفيف صدام حسين للأهوار. والحال أن ثيسيغر لم يُطق التقدم والتعليم والديموقراطية وحقوق الانسان مما قضى سنواته الأخيرة يهجوه. وقد أقام منزلاً له بين قبائل سامبورو البدائية في شمال كينيا رغم أنه لم يتعلم لغتها، على عكس تعلّمه العربية. وبدت إحدى مفارقات أفكاره وسلوكه أن هذا الذي صرف عمره يحضّ على رفض التقدم، علّم سامبورو الانكليزية وعرّف بعض أفرادها الى تقنيات ووسائط حديثة يمقتها. وفي آخر المطاف عاد إلى بلاده بريطانيا التي كان ينظر إلى حدائقها العامة فلا يرى إلا الصحراء.