خطة ادارة الرئيس جورج بوش لفتح العراق أمام الاستثمارات الأجنبية، تعيد الى الأذهان مقولة قديمة: الاقتصاد لا يشابه قصص الأطفال التي تنتهي بسعادة الجميع. بل ان تحقيق مصلحة طرف ما يأتي على حساب مصلحة طرف آخر. وفي حال العراق، فمصدر الخسارة المحتملة واضح وهو، ببساطة، أن مصالح دوائر الاعمال الأجنبية لن تؤدي الى تحويل الاقتصاد العراقي الى الديموقراطية. لكن المسؤولين الأميركيين يستمرون في التأكيد على ان فتح العراق للاستثمارات الأجنبية يشكل خطوة مهمة في إعادة الاعمار، وان هذه، عمليا، تتطابق مع "تحويل الاقتصاد الى الديموقراطية". انها أيضا الرؤية التي يقدمها تقرير بول بريمر الى مجلس الحكم عن امكان استعمال الاستثمارات الأجنبية لإنعاش الاقتصاد. لكن ديموقراطية من ستكون هذه، وماذا سيكون هدفها؟ ان مصالح الشركات شيء يختلف عن المصالح الوطنية. هل للشركات الأجنبية واعتبارات السوق مصلحة راسخة في تحويل العراق الى الديموقراطية؟ ان على الولاياتالمتحدة التمعن في الخطوات التي تتخذها لاعادة بناء الاقتصاد العراقي المتهدم، لأنها تخاطر بالحاق خسارة بشعب العراق، مقابل المربح الذي تحققه المصالح الأجنبية. واذا اخذنا تعبير "تحويل الاقتصاد الى الديموقراطية" بمعناه الحرفي، فهو يعني أن الاقتصاد من شأن الشعب عموما، أي وقوع كل القرارات المرتبطة بالانتاج والاستهلاك والاستثمار تحت السيطرة السيادية. هذا بالطبع لا يعني رفض مساهمة الشركات الأجنبية في عملية اعادة الاعمار، بقدر ما يعبر عن ان العراق لا يستفيد من الاستثمارات الأجنبية الا اذا كانت تلك تصب في اقتصاد يسير وفق مصلحة الشعب، وأن انتفاء "ديموقراطية الاقتصاد"، بهذا المعنى، قد يفتح المجال لاجتياح رأس المال الأجنبي لدوائر الأعمال المحلية. وضع العراق ليس جديدا على الولاياتالمتحدة بتجربتها الغنية في تحويل دول الى الديموقراطية الاقتصادية والسياسية بعد الحرب والاحتلال. من الأمثلة الأهم سعيها الى احلال الديموقراطية في اليابان واعادة بناء اقتصادها المركنتيلي المنسوف، بشكل ضمن رجحان ميزان "الربح - الخسارة" الاقتصادي لصالح شعب اليابان. فقد أدرك حاكم اليابان الجنرال دوغلاس ماكآرثر مبكرا ان مشكلة الفقر تهدد مشروع التحول الى الديموقراطية بالفشل، وواجه القيادة الأميركية بخيار واضح: المزيد من الجنود أو المزيد من المساعدات! النتيجة كانت أن البرنامج الاقتصادي الشامل الذي طرحته الولاياتالمتحدة ركز على اعادة توزيع الثروة. السياسة الاقتصادية تخضع عادة للاهداف السياسية، خصوصا بعد الحروب - وهو اعتبار حاسم الأهمية. فالمطلوب إعادة تكوين الاقتصاد بما يدعم البيئة السياسية، مع أخذ طبيعة توزيع الثروة بالاعتبار وكيفية موازنة رأس المال الاجتماعي والسلطة. فاليابان كانت مجتمعا شبه اقطاعي ليس فيه لغالبية السكان مصلحة تذكر في الاقتصاد. وعاشت الغالبية تلك على مستوى الكفاف ضمن اقتصاد الاكتفاء الذاتي، فيما سيطرت المجموعات الكبرى زايباتسو على المرافق الاقتصادية الرئيسية. وكانت استراتيجية الاصلاح بسيطة وحاسمة: فاذا تم تحويل الاقتصاد الى الديموقراطية - أي عند كسر احتكار الشركات الكبرى وانشاء النقابات وتشجيع الملكية الخاصة - ستكون لغالبية السكان مصلحة اقتصادية في تحقيق الديموقراطية السياسية. لكن تغيير التوازن لصالح الشركات المتوسطة والصغيرة الحجم كان أكثر من سياسة اقتصادية صحيحة. فقد كانت على الأرجح القرار السياسي الأكثر حسما الذي اتخذته الولاياتالمتحدة في سعيها الى اعادة اعمار اليابان. ذلك ان تشجيع المستثمرين المحليين والنقابات والتعاونيات على القيام بالمشاريع الرئيسية، وليس الشركات الأجنبية، أدى الى خلق طبقة وسطى كبيرة ذات نفوذ سياسي واسع. أما في حال العراق فان استمالة "القلوب والعقول" عن طريق توزيع منصف للثروة الاجتماعية، أبعد ما يكون عما تعتزمه أميركا تجاه البلد. اذ لا بد من اقامة نظام سياسي قادر على دعم سوق اقتصادية حرة ومنصفة قبل القيام بالخصخصة المطلوبة واستجلاب الاستثمارات الخارجية. بكلمة أخرى: السياسة أولا ثم الاقتصاد. وعلى مجلس الحكم، مدعوما بكل ما لدى بريمر وادارته من الموارد، ان يتعلم درس يابان ما بعد الحرب. ان فتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الخارجية قبل اقامة البنى التحتية اللازمة لدعم المصالح الاقتصادية المحلية لن يؤدي الى الديموقراطية. فهو في النهاية ليس سوى اختيار "الربح" على المدى القصير مما تأتي به الاستثمارات الخارجية وما توفره من فرص العمل بثمن باهظ، الا انه هو "الخسارة" على المدى البعيد: السيطرة الأجنبية على الاقتصاد العراقي - ولن يكون في هذا الوضع أي ديموقراطية.