أصبح العراق اليوم، بحسب الدراسات التي صدرت عن مراكز دولية رئيسية، في نهاية قائمة الدول من حيث نوعية مستوى الحياة والتعليم والصحة، بما في ذلك البلدان الأقل نمواً، فحجم البطالة «الكاملة» يقترب من 30 في المئة من قوة العمل، فيما البطالة المقنَّعة 20 في المئة، فتصبح النسبة 50 في المئة، وتشمل 7 ملايين نسمة. سبق أن قمتُ بدراسة النمو الاقتصادي والتغير البنيوي للاقتصاد العراقي في عام 1989 ونشرتُ الدراسة في مجلة OPEC Review، ومن نتائجها أن التغير في الإنتاج المحلي في العراق، ارتفاعاً أو انخفاضاً، يعود إلى خمسة متغيرات رئيسية: الطلب الاستهلاكي، الطلب الاستثماري، الصادرات، الإنتاج من أجل إحلال الواردات والتقدم أو التغير التكنولوجي. توصلت الدراسة إلى أن الزيادة في الإنتاج المحلي تعود في شكل أساسي إلى الزيادة في الطلب الاستهلاكي والاستثماري وفقاً للتوجهات التي رسمتها السياسات الاقتصادية في حينها، وجاء التوسع في الصادرات في المرتبة الثالثة وفي شكل أساسي المنتجات النفطية والبتروكيماوية وبعض المنتجات الزراعية والصناعية، كما لم يساهم إحلال الواردات في زيادة الإنتاج المحلي إلا في شكل بسيط جداً، وجاء التقدم التكنولوجي في المرتبة الخامسة في مساهمته في زيادة الإنتاج المحلي. ترتيب هذه المتغيرات لم يتغير خلال أكثر من أربعين سنة منذ 1968 حتى 2014، فلم يلعب التقدم التكنولوجي أو التصدير أو التصنيع من أجل إحلال الواردات أي دور قائد ورئيسي في زيادة وتنوع الإنتاج المحلي، بل أكثر من ذلك، فإنه في عام 2013 بلغت نسبة الاستثمار الإجمالي إلى الناتج المحلي الإجمالي 21.6 في المئة، وهو أقل من المعدل الضروري لتحقيق النمو السريع والذي يبلغ 35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، استناداً إلى التجارب الدولية في التنمية. ومن أجل النهوض بواقع الاقتصاد العراقي وتنمية قدراته، تشكل تنمية القدرات الإنتاجية في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية وغيرها، العامل الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي، ويكون في مقدوره تعبئة الموارد المحلية من أجل تمويل النشاط الاقتصادي وعدم الاعتماد على المعونات الخارجية، والعمل على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن تدعم عملية التنمية. ومن خلال تنمية القدرات الإنتاجية، سيكون بمقدور العراق أن ينافس في الأسواق الدولية للسلع والخدمات التي تتجاوز نطاق السلع الأولية والتي لا تعتمد على توافر أفضليات خاصة في ما يتعلق بالوصول إلى الأسواق. ويلاحظ في الاقتصاد العراقي، أن مساهمة القطاع النفطي هي الأكبر في توليد الناتج المحلي الإجمالي، بينما مساهمة القطاعين الزراعي والصناعي منخفضة نسبياً عند مقارنتها بالقطاع الأولي (النفطي). والتغيُّر الهيكلي للاقتصاد العراقي يعني ارتفاع مساهمة القطاعات السلعية (الزراعة والصناعة) في توليد الناتج المحلي الإجمالي، وفي المقابل انخفاض مساهمة القطاع النفطي لمصلحة هذه القطاعات السلعية، وهذه العملية تتم من خلال تنمية القدرات الإنتاجية من طريق التراكم الرأسمالي والتقدم التكنولوجي والابتكار. القيود التي تحد من تنمية القدرات الإنتاجية للقطاعات السلعية والخدمية في العراق تتمثل في حالة البنى التحتية للاقتصاد، والتي تعدُّ من أدنى وأسوأ نوعية في مجالات النقل والاتصالات والطاقة، خصوصاً الكهرباء، على مستوى العالم. هذا المستوى المتدني للبنى التحتية هو انعكاس لسوء أحوال صيانة المرافق القائمة ولنقص الاستثمار في إنشاء مرافق جديدة، لا سيما بعد تدميرها كلياً أو جزئياً أثناء احتلال العراق، وهذا يعكس أيضاً حال الاستثمار العام. ويحتاج العراق في الوقت الحاضر إلى استراتيجيات وطنية متماسكة ومتقنة التصميم للتعلم التكنولوجي من أجل زيادة إمكانية الحصول على التكنولوجيا وتحسين فعالية التكنولوجيا المستوردة، والاستفادة من إقامة الروابط بالمعارف العالمية، وهناك فرص كبيرة متاحة للمزج والتزاوج بين المعارف الحديثة والمعارف التقليدية في المجالات كافة في العراق. ولا يمكن تطوير القدرات الإنتاجية للقطاعات الاقتصادية المكونة للاقتصاد العراقي من دون التصدي للقيود القائمة من جانب الطلب، باعتبار أن الطلب مصدر مهم من مصادر النمو الاقتصادي، إذ إن الطلب المحلي القوي في الولاياتالمتحدة واليابان والصين والهند، ساهم في شكل كبير في نموها الاقتصادي في عام 2005 على سبيل المثال وليس الحصر، وعليه فإن ضعف نمو الطلب المحلي يحد من القدرات الإنتاجية في العراق، كما أن الطلب المحلي البطيء والمصحوب بالبطالة والفقر يشكل أحد النواقص الرئيسية التي تشوب مناخ الاستثمار في العراق. وأمام السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي في هذا الوضع، أن يوظف الزخم الشعبي ودعم رجال الدين والمرجعية لتحقيق الإصلاحات المطلوبة، ولا بأس أن تأتي تدريجاً خلال فترة أقصاها سنتين من خلال: أولاً: العمل على تحسين مناخ الاستثمار، والذي يحتل فيه الجانب الأمني والقضائي ركناً أساسياً، على اعتبار أن إصلاح القضاء يمثل المرتكز الأساسي لإصلاح باقي مؤسسات الدولة، ودستور حديث ومتطور يواكب التطورات في العالم، وهذا يتطلب إزالة الاجتثاث والإقصاء والتهميش والطائفية من دستور العراق الذي أقر عام 2005 ومشاركة العراقيين من دون استثناء أو إقصاء في بناء بلدهم، آخذين في الاعتبار أن الديموقراطية تعني حكم الشعب، حرية الرأي، حرية الفكر، حرية الانتماء الحزبي، الأمن الإنساني، أمن الفرد. هذه جميعاً تمثل مقدمات أساسية وضرورية لتحسين مناخ استثمار مناسب لتحقيق التنمية الاقتصادية وجلب الاستثمار الأجنبي المباشر. ثانياً: قيام الحكومة بإجراءات صارمة لمكافحة الفساد، والتهرب الضريبي للشرائح الاجتماعية القادرة، إذ تشكل نسبة الإيرادات الضريبية إلى الإيرادات العامة في العراق عام 2013 (2.5) في المئة، وهذا يشكل خللاً بنيوياً في هيكل الاقتصاد العراقي لا بد من معالجته. ثالثاً: العمل في إطار برنامج زمني محدد على استغلال الإيرادات النفطية لأغراض الاستثمار في مجالات تُساهم مباشرة في التنويع الاقتصادي وتطوير الصادرات غير النفطية، وانتهاج سياسة انتقائية في دعم أو تحفيز النشاطات التنموية وتوجيه الدعم والحوافز للنشاطات التي تساهم مباشرة في تحقيق هدف التنويع الاقتصادي، وجعل رفع الإنتاجية على رأس الأولويات الوطنية مع ضمان اتساق كل السياسات مع هذه الأولوية، وتوفير البيئة التي تخدم هذه التوجهات. رابعاً: العمل على بناء الدولة المدنية شريطة توفير أساس اجتماعي واقتصادي لها، في ظل اقتصاد يتدهور ويفقد هويته، فلا هو اقتصاد سوق ولا هو اقتصاد مختلط ولا هو اقتصاد الدول المركزية أو الرأسمالية. هنا ندعو إلى انتهاج سياسة الاقتصاد المركزي مع دور فاعل جداً ومدعوم للقطاع الخاص، على غرار التجربة الصينية، دولة مركزية قوية مع قطاع خاص فاعل يعمل في إطار هذه الدولة. خامساً: توفير البيانات والمعلومات المطلوبة والتي تدرج في تقرير التنافسية العالمية والذي يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، لأن العراق من الدول العربية القليلة، التي لا تقدم هذه البيانات، إما لعدم توفرها أو لأنها تمثل مؤشرات سلبية. سادساً: أن يكون النظام السياسي، ديموقراطياً ومستقراً، يلبي حقوق المواطنين وينظم حياتهم عبر تشريعات رصينة، وأن تكون السلطة الحكومية موزعة على مؤسسات الدولة العراقية، لا على تنظيمات وقوى وأحزاب. سابعاً: في إطار الإصلاح النقدي، لا بد من تحديد سعر صرف الدينار العراقي من خلال السعي إلى تقريب سعر الصرف من واقع السوق، وعلى البنك المركزي ممارسة «إدارة فاعلة» في حال حصول تقلُّبات واسعة في سعر الصرف. ثامناً: تخفيض أسعار الفائدة، والسماح للشركات الاستثمارية التي لها علاقة مباشرة مع الحكومة بمراكمة الديون بهدف الاستثمار في المشاريع الإنتاجية ذات الأولوية للاقتصاد العراقي. تاسعاً: اتباع سياسة صارمة للغاية في شأن الموازنة، بحيث تحقق الأهداف المرجوة منها. عاشراً: أن وجود سوق محلية كبيرة في العراق تتكامل فيها المقومات والمعطيات الاقتصادية والبشرية، هو ركيزة مهمة لنمو النشاطات الإنتاجية والخدمية القادرة على المنافسة في الأسواق الخارجية. فاقتصادات الحجم مهمة جداً ولا بد من توفير أسواق كبيرة توفر قاعدة للصناعات والنشاطات المحلية الأخرى. أحد عشر: التمسك في الوقت الحاضر وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها العراق باستراتيجية دعم الأسعار والابتعاد عن استراتيجية دعم الدخول. وفي هذا الخصوص، نؤكد أهمية الاستمرار في العمل بالبطاقة التموينية، وتأجيل النظر في إلغائها حتى تتحسن ظروف العراق الاقتصادية والسياسية، فمن الصعب الآن التمييز بدقة بين من يستحق البطاقة التموينية ومن لا يستحقها لتعويضه مالياً ودعم دخله، إذ إن الدخول في هذا الموضوع الآن سيضيف مشكلة أخرى إلى مشاكل العراق الكثيرة. اثنا عشر: ومن الأهمية قيام البنك المركزي العراقي مستقبلاً، بتحويل جزء من احتياطاته النقدية إلى صناديق استثمار سيادية لإدارة الثروة الوطنية بنشاط أكبر، وهو اتجاه قد يعزز أصول السوق في العراق على حساب الدولار، وقد استخدمت دول مثل النروج والإمارات العربية المتحدة وسنغافورة مثل هذه الصناديق بهدف التنويع في استثمارات السيولة الوفيرة بعيداً من الأصول التقليدية مثل سندات الخزانة الأميركية. ثالث عشر: ومن أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمني والاجتماعي، لا بد من بناء عملية سياسية جديدة تعتمد على المواطنة والدولة المدنية، وتعديل التشوهات التي يتضمنها الدستور، ومن دون هذه المستلزمات الضرورية لا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية في العراق. رابع عشر: الاستفادة القصوى من الإيرادات النفطية لإعادة إعمار البنية التحتية للاقتصاد، الكهرباء، الماء، الصرف الصحي، الاتصالات والطرق والجسور، السكن المناسب للمواطنين البسطاء. خامس عشر: ثمة مجال للأخذ بالأشكال الجديدة للسياسة الصناعية التي وضعت أخيراً في الدول المتقدمة والدول النامية المتقدمة والتي تستند إلى نموذج مختلط قائم على السوق، حيث تعمل المشاريع الخاصة والحكومية معاً على نحو وثيق من أجل نوع من التكامُل بين القطاعين العام والخاص. * مدير إدارة العلاقات الاقتصادية - جامعة الدول العربية