من المنتظر أن تتضمن الحكومة الجديدة التي ستعلن في العراق الأسبوع الجاري وزارة تُعنى فقط بشؤون التخصيص، وتكون مسؤولة عن هذا الملف الشائك الذي سيضيف إلى لائحة المسرَّحين مئات الآلاف ممن سيجدون أنفسهم على قارعة الطريق. إذ تقرر بيع المنشآت الصناعية والخدمية الحكومية التي تعاني من خسائر مزمنة سبَّبتها إدارة متخلفة محكومة بالهاجس الايديولوجي والأمني. يعقد في الأسبوع الثالث من شهر كانون الأول ديسمبر المقبل مؤتمر عالمي في العراق يتركز البحث فيه على قضية التخصيص لبيع قرابة 200 مؤسسة حكومية متعثرة عانت كلها من الخسائر في ظل النظام السابق، الذي تميزت إدارته الاقتصادية بقدر كبير من البيروقراطية والجمود الإداري وسوء التخطيط الاقتصادي، بالإضافة إلى الشلل الناتج عن الحصار المفروض على البلاد على مدى أكثر من 12 عاماً. ومذ بدأ الحديث عن التخصيص، ثارت تساؤلات إلى حد توجيه اتهامات يقول بعضها إن سلطات الاحتلال، التي يرتبط مسؤولوها بمجموعات ضغط سياسية ومالية في واشنطن ولندن والعراق، تريد فتح العراق لرؤوس الأموال والشركات الأجنبية التي سيكون بوسعها الاستحواذ على المؤسسات الحكومية بأسعار زهيدة لا تعكس قيمتها الحقيقية، ليتم بيعها بعد ذلك بأسعارها الحقيقية، وليكون متاحاً لأصدقاء المسؤولين في إدارة الحكم المدني للاحتلال حصد الفارق في عملية منظّمة، ستجري وراء الكواليس وبطريقة تفتقد إلى الشفافية. إلا أن المطلعين على ملف المؤسسات الصناعية والمصانع التي ستعرض للبيع يعارضون ذلك، ويقولون إن هذه المؤسسات تشكل كارثة اقتصادية وهي نتاج عهد طويل من سوء الإدارة وسوء التخطيط الاقتصادي، والخوف من تقديم النتائج الحقيقية خوفاً من المحاسبة والمعاقبة. وقال ل"الحياة" بهنام الياس بطرس، المدير العام لدائرة التخطيط الاقتصادي في وزارة التخطيط، إن "عملية التخصيص ستتم في شكل مختلف للغاية عن السابق وبطريقة يفهمها الاقتصادي والمهندس والموظف وكل فئات المجتمع، وصولاً إلى المواطن العادي الذي يجب أن يفهم هذه العملية". وأشار إلى أن هذا الفهم "ضروري لأنه أحد عوامل نجاح عملية التخصيص، ذلك أن المواطن إذا لم يكن مؤمناً بها فسيؤدي ذلك حتماً إلى فشل سياسة التخصيص برمتها". وستتطلب عملية التخصيص تسريح قرابة 350 ألف عامل وموظف يعملون في مختلف المنشآت، وهو "ما يحتم تطبيق عملية التخصيص بطريقة تدرجية، وفي شكل يتيح استيعابهم في المجتمع من دون التسبب بتدفق أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل إلى الساحة السياسية، وهو أمر لا يمكن للعراق أن يتحمله في ظل ظروف التدهور الاقتصادي والاجتماعي التي يعاني منها". وقال بطرس: "هناك 186 معملاً ومؤسسة عراقية سيتم تحويلها إلى القطاع الخاص في إطار ما يسمى بتخصيص المؤسسات العامة. وكانت عملية التخصيص جرت في السابق بين عامي 1988 و1993، ولكنها لم تكن إلا بذرة بسيطة لمسيرة التخصيص بالمفهوم الاقتصادي الشائع، إذ أن المنشأة التي كانت تخضع للتخصيص تعمل بطاقة انتاجية تقل عن 30 في المئة، على رغم أنه كان من الممكن رفع طاقتها الانتاجية إلى 50 في المئة على أقل تقدير". وقال الدكتور موفق الربيعي، عضو مجلس الحكم الانتقالي، ل"الحياة": بعدما اطلع على ملف الشركات والمؤسسات التي ستعرض للتخصيص، بصفته عضواً في اللجنة الفرعية للمجلس للشؤون المالية: "ما حدث في الماضي كان كارثة حقيقية. ومديرو هذه المؤسسات كانوا يتلاعبون بالأرقام لإظهار انها رابحة. إنها في الواقع كانت جميعاً خاسرة. وكانت وسيلتهم للتلاعب استغلال الحسابات الدفترية لتقويم الدخل والأرباح بسعرين مختلفين للدولار: أحدهما سعر شراء منخفض وثانيهما سعر بيع مرتفع. إلا أن الواقع يظهر ان هذه المؤسسات كانت كلها تخدم اقتصاداً حربياً غير منتج". ورفض فكرة أن تكون هذه المؤسسات خسارة للاقتصاد العراقي إذا بيعت لمشترين أجانب. وقال: "من سيشتري هذه المصانع والمؤسسات المفلسة، عليه أن يستثمر الكثير فيها قبل أن يحقق أرباحاً، باستثناء بعض المصانع والمؤسسات القليلة". ولا تثير عملية التخصيص قلقاً فقط حول درجة الشفافية التي ستتمتع بها اجراءات البيع وتوزيع أصول عراقية وطنية على مستثمرين أجانب لم يكونوا مدينين بالتزامات مباشرة تجاه الاقتصاد العراقي والمجتمع العراقي، بل هي تثير أيضاً قلقاً حول مدى قدرة القطاع الخاص العراقي على الاستفادة من سياسات اقتصادية تشرف عليها سلطات الاحتلال ومسؤولون لديهم مصالح متنوعة في بلدانهم الأم. وفي وثيقة خاصة حصلت عليها "الحياة" وتتعلق ب"العناصر المؤثرة في نظام الاستثمار الأجنبي المباشر" الذي سيطبق في العراق، قال الحاكم المدني للعراق، السفير بول بريمر، إنه ينوي "في غياب أي عتراض من قبل مجلس الحكم"، وضع مسودة نظام للاستثمار الأجنبي المباشر للحصول على مصادقة المجلس عليها اعتماداً على المبادئ المهمة الأربعة الآتية: استثمار أجنبي غير محدود في القطاعات المصادق عليها، واستحداث لجنة عراقية استثمارية لغربلة كل الاستثمارات المحتملة لما يزيد على 40 مليون دولار، بموافقة تلقائية بعد مرور 60 يوماً، إن لم يكن هناك أي اعتراض، على أن يتم استثناء الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاعات النفط والمصادر الطبيعية الأخرى والكهرباء والماء والسكك الحديد، والسماح بإعادة رؤوس الأموال والأرباح". واعتبر بريمر "ان هذه الاقتراحات ستفيد الاقتصاد العراقي الذي يشهد مرحلة انتقالية، اذ سيكون دور الاستثمار الأجنبي بمثابة "ماكنة لخلق الثروات"، وللتشغيل بين الشركات الخاصة الصغيرة. وكذلك ضخ الرساميل التي يحتاجها الاقتصاد المنهك الخارج من الحرب، في وقت ليست معدلات التوفير ولا معدلات ايرادات النفط "كافية بحد ذاتها لسد الفجوة"، وجعل الاقتصاد العراقي يتحرك مرة أخرى. ومن شأن عملية التخصيص ان تكون الجسر الأول الذي سيتيح تعزيز حركة التنمية الاقتصادية في العراق إلا أن الشروط التي تجري فيها عملية التخصيص، وفي ظل غياب أي عملية توضيح كافية، وبعيداً عن نصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين سيشاركان في مؤتمر العام المقبل واللذين يطالبان بتسريع عملية التخصيص، ستؤدي الى إثارة جو من القلق وسيل من الاشاعات التي سترافق عملية التخصيص، في ظل جو سياسي ملتهب وغياب ثقة المواطنين بالسلطات المشرفة على هذه العملية والتي تعتبر مقصرة في تأمين الحد الأدنى من الخدمات للسكان.