عانى الاقتصاد العراقي منذ عام 1980 من تدهور في النشاط الاقتصادي وتفكك النسيج المؤسسي القائم على ذلك وتآكل البنى التحتية نتيجة ما أصابها من تخريب بسبب الحروب والسياسات غير المتوازنة والحصار الاقتصادي. نتيجة لذلك وبسبب انحسار المورد النفطي وتزايد تكاليف التسلح ونفقات الحروب، تراجعت برامج الاستثمار الانتاجي، ما أدى إلى عدم تحقق زيادة في الطاقات الانتاجية وتراجعها عن مستويات عقد الثمانينات. في المقابل، فإن زيادة الطلب الناجم عن زيادة السكان أدى إلى حصول عجز القاعدة الانتاجية عن استيعاب القوى العاملة وحصول البطالة في مختلف أشكالها وتزايد نسبتها حتى زادت على 50 في المئة من حجم القوى العاملة، وكانت أحد أهم أسباب هجرة العقول إلى الخارج. أدى هذا التدهور إلى تراجع في اجمالي الناتج المحلي الحقيقي الذي سجل انخفاضاً متواصلاً منذ عام 1980 بمعدل 7.1 في المئة خلال الفترة 1980 - 1990، و5.0 في المئة في التسعينات 1990 - 2000. وبذلك حُرم العراق من فرص النمو الاقتصادي خلال عقدين، في الوقت الذي كان فيه العالم يتسابق للحصول على أعلى معدلات النمو الاقتصادي. وانعكس هذا الانخفاض على دخل المواطن العراقي، فبعدما كان معدل دخله السنوي عام 1980 نحو 4600 دولار، أصبح لا يتجاوز 1000 دولار عام 2002، وحتى هذا المستوى فإنه مؤشر احصائي رقمي لا يعكس واقع حال دخل المواطن العراقي. إن النظام السابق اتبع ما يسمى بسياسة "الأجر الحديدي النقدي" غير المرن نحو الأعلى من جهة، حتى أصبح الراتب الشهري لموظف خريج الجامعة حامل شهادة البكالوريوس لا يزيد على خمسة دولارات في السنوات التي سبقت تنفيذ برنامج "النفط مقابل الغذاء" مع الأممالمتحدة. إن تجميد رواتب الموظفين من جهة، واتباع سياسة التضخم المتعمد الذي بلغ معدل 58 في المئة في التسعينات من جهة ثانية، أديا إلى خفض المستوى المعيشي لغالبية المواطنين العراقيين إلى دون الحد الأدنى، ولهذا أصبح أكثر من 60 في المئة من الشعب العراقي يعيشون على البطاقة التموينية المتكونة من المواد الغذائية الرئيسية التي توفرها الدولة بأسعار رمزية. ولهذا السبب وغيره من الأسباب هاجر معظم العقول العراقية إلى الخارج وتفشى الفساد الإداري والرشوة في الجهاز الحكومي بعدما كان العراق يُعتبر من أنظف دول العالم في هذا المجال. إن من نتائج سياسة إفقار المواطن العراقي حصول النظام على الفائض الاقتصادي ووضعه تحت تصرف الحاكم لاستخدامه كيفما يشاء من دون حساب ليستخدمه كوسيلة لتثبيت كرسي حكمه عن طريق شراء الذمم من أجل تأليهه في داخل العراق، فأغدق ما شاء أن يغدق على قلة قليلة من حاشيته، وحرم غالبية الناس من حقوقها وحرم الاقتصاد من الانتفاع به، كما استخدم هذا الفائض في شراء ذمم كثير من السياسيين والإعلاميين العرب والأجانب، لتحسين صورته والدفاع عن نظامه في الخارج، وما تبقى من هذا الفائض استخدمه في بناء قصوره الفارهة وتأثيثها التي زاد عددها على أربعين قصراً وبناء الجوامع الضخمة لذر الرماد في عيون المسلمين. أما في القطاع الخارجي، فإن المركز المالي الدولي للعراق شهد انهياراً كاملاً في العقدين الماضيين، وتحول العراق من دولة ذات فائض احتياط من النقد الأجنبي والذهب يُقدر بحدود 40 بليون دولار عام 1980، إلى دولة مدينة بمقدار 130 بليون دولار وطلبات تعويضات عن أضرار ناجمة عن حرب الخليج الثانية مقدارها 320 بليون دولار، منها 50 بليون دولار تمت الموافقة عليها من قبل لجنة التعويضات. لذلك من الصعب التصور بأن الاقتصاد العراقي قادر على أداء التزاماته الخارجية ضمن المدى المنظور بكل المقاييس الاحصائية. إن هذا التدهور كان بيّناً على المستوى القطاعي حيث شهد القطاع الزراعي انحساراً في الرقعة الزراعية بسبب الملوحة، ما ساهم في زيادة المشاكل في المناطق الأكثر فقراً في العراق. كما عانى القطاع الصناعي من شح في النقد الأجنبي، ما أدى إلى تعطل طاقاته الانتاجية بسبب اعتماد هذا القطاع على المواد الأولية المستوردة، كما أدى بمرور الزمن إلى تقادم تقنيات هذا القطاع بحيث أصبح من المشكوك فيه جدوى تشغيل كثير من منشآته ما لم تتوافر موارد كافية لإعادة تأهيله. والحال كذلك بالنسبة لقطاع الكهرباء، فإن معظم محطات التوليد أصبح متقادماً وتعاني شبكات التوزيع الكثير من النواقص، بالإضافة إلى عجز طاقة التوليد المتاحة عن سداد الطلب، خصوصاً القطاع العائلي. وإذا أريد استئناف النشاط الاقتصادي لمستوياته العادية، فإن ذلك يتطلب إضافة طاقات توليد جديدة وتجديد الشبكة الوطنية. وتعاني شبكة مياه الشرب هي الأخرى من فواقد كبيرة تصل إلى 40 في المئة من المياه المصفاة، بسبب تقادم الشبكة، كما يفتقر حوالى 60 في المئة من سكان مدن العراق إلى خدمات شبكات تصريف المياه الثقيلة، بالإضافة إلى عجز الشبكات القائمة عن العمل بالمستوى المطلوب، مما أدى إلى طفح المياه الثقيلة وتفاقم مشكلة التلوث في المدن. أما قطاع الاتصالات فلا يزال يعمل بتقنيات عقد السبعينات بعدما عمد النظام السابق إلى عدم تحديثه، وفي قطاع المواصلات أصبحت المدن تعاني مشاكل النقل ولا يملك العراق اسطولاً جوياً. ويعاني قطاع السكن من أزمة سكن شديدة حيث أن تزايد السكان وانسحاب الدولة من هذا القطاع، أديا إلى حصول عجز في عدد الوحدات السكنية يقدر بحدود مليون وحدة سكنية. أما قطاعات الصحة والتربية والتعليم، فإنها هي الأخرى ليست أفضل حالاً من قطاعات الخدمات والتوزيع والانتاج أعلاه. المهمات الأساسية للإعمار تُقدر المؤسسات الدولية تكاليف إعادة إعمار العراق لوضعه على منصة الانطلاق واستعادة دوره الاقتصادي الدولي والاقليمي بحدود 100 بليون دولار للسنوات 2004 - 2007. إن العراق لا يستطيع بمفرده توفير مثل هذه الموارد بهذا الحجم خلال هذه الفترة، ولذلك لا بد للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً لمساعدته في تجاوز محنته. وبقدر تعلق الأمر بالجانب العراقي، فقد بادر باتخاذ اجراءات عدة تشمل الآتي: 1- زيادة الطاقة التصديرية للنفط نظراً إلى كون القطاع النفطي هو الممول الرئيسي الداخلي لقطاعات الاقتصاد الوطني كافة، لذلك اتخذت الاجراءات الكفيلة بإعمار منشآت القطاع النفطي بمساعدة شركة أجنبية تقوم حالياً بتجهيز المواد والمعدات، في حين تتولى شركات القطاع النفطي تنفيذ أعمال النصب والتشييد، وذلك من أجل استعادة طاقات التصدير السابقة وصولاً بها إلى طاقة تصديرية مقدارها 2.3 مليون برميل يومياً في بداية سنة 2005. إن تطوير طاقات التصدير إلى ما يزيد على ذلك يتطلب استثمارات كبيرة ليس بمقدور الاقتصاد العراقي توفيرها على المدى المنظور. إن هذه الاجراءات ستنعكس ايجاباً على عائدات العراق النفطية وتجاوز مرحلة العجز الراهن في موازنة الدولة خلال فترة لا تزيد على السنتين المقبلتين. 2- اعتماد سياسات واتخاذ اجراءات للتحول لاقتصاد السوق، وكما يأتي: أ- السماح للمصارف الأجنبية بالعمل في العراق، حيث سمح للمرة الأولى منذ نصف قرن لهذه المصارف بالعمل في العراق، اما كمصارف تابعة للمصرف الأم بملكية كاملة تصل إلى 100 في المئة، أو العمل في العراق كفروع للمصرف الأم. وحددت رؤوس أموالها بما لا يقل عن 25 مليون دولار، كما حدد عددها خلال السنوات الخمس المقبلة بستة مصارف. وسمح للمصارف غير العراقية بفتح مكاتب تنفيذية للقيام بدور الوساطة في عقود الصفقات التجارية الخارجية والترويج لفرص الاستثمار الأجنبي في العراق. ب - ولتعزيز القدرة التنافسية للمصارف الأهلية العاملة في العراق حالياً، التي يبلغ عددها 18 مصرفاً، تم الطلب من هذه المصارف لزيادة الحد الأدنى لرؤوس أموالها إلى ما يعادل خمسة ملايين دولار ومنحها مهلة 18 شهراً لاتخاذ ما تراه مناسباً للوصول إلى الحد القانوني المطلوب. وسمح للمصارف المحلية ببيع ما لا يزيد على 50 في المئة من موجوداتها إلى المصارف العربية والأجنبية والدخول في مشاركة معها، حيث يتوقع قيام الكثير من المصارف العربية باتخاذ خطوات سريعة للاستفادة من هذه الفرصة والدخول في مشاركات معها للاستفادة من الهياكل القائمة لهذه المصارف وفروعها المنتشرة في أنحاء العراق. ج - دعوة شركات أجنبية لإدارة وتطوير أساليب وصيغ عمل المصارف الحكومية العراقية. د - إصدار قانون خاص بالبنك المركزي يضمن استقلالية البنك عن الحكومة بما يؤمن استقرار قياداته وإبعادها عن التدخلات الحكومية. ه - إصدار عملة موحدة جديدة محل العملة الحالية واستبدالها اعتباراً من 15 تشرين الأول اكتوبر 2003. و - اصدار قانون للاستثمار الأجنبي يسمح للمشترين الأجانب الاستثمار في مختلف قطاعات الاقتصاد العراقي عدا الصناعات الاستخراجية، ومن دون حدود عليا لحصة الأجنبي في المشاريع، مع اعطاء الضمانات اللازمة كافة لتحويل حقوق المستثمرين ورؤوس أموالهم من دون تأخير. 4- اتباع سياسة الباب المفتوح أمام الاستيرادات إن سياسة الانغلاق التي كان يتبعها النظام السابق تجاه العالم الخارجي زادت من آثار الحصار على الاقتصاد والمواطن العراقي، مما أدى إلى زيادات كبيرة في الأسعار بسبب شحة المعروض من السلع المستوردة واستنفاد الخزين لدى التجار، وعالجت حكومة العراق الجديدة هذا الموقف عن طريق فتح باب الاستيراد أمام التجار والمواطنين من دون أية قيود على السفر أو أية رسوم جمركية مع رفع كل قيود الكمية والنوعية أمام الاستيرادات، مما أدى إلى تدفق سلعي كبير جداً إلى العراق، خصوصاً من الدول المجاورة فاستعادت مخازن التجار ومعارضهم حيويتها، وساعد ارتفاع سعر صرف الدينار العراقي تجاه الدولار في الشهور الأربعة الأولى من سقوط النظام السابق وزيادة القدرات الشرائية للمواطنين نتيجة زيادة رواتب الموظفين على انتعاش الطلب وزيادة المبيعات وانتعاش التجارة الداخلية. 5- النتائج السريعة المتوقعة حشد الموارد الداخلية وتعبئتها إن هذه الاجراءات السريعة وغيرها من السياسات والاجراءات الاقتصادية والمالية التي هي في طريق التشريع والتنفيذ ستساعد على حشد الموارد المالية وتعبئتها لدعم المراكز المالية للمستثمرين العراقيين من أجل زيادة قدراتهم التنافسية في المساهمة بتنفيذ حملة إعمار العراق مع المستثمرين الأجانب على أسس تنافسية. انتعاش الطلب المحلي إن اعتماد الحكومة سياسة تحسين المستوى المعيشي للمواطنين بشكل عام والتخلي عن سياسة تحديد الأجور الحديدية التي كان يتبعها النظام السابق يتوقع أن تفرز آثاراً ايجابية على حال الطلب المحلي وانتعاش الاقتصاد الوطني، مما يشجع القطاع الخاص العراقي على الاستثمار لتلبية الطلب المحلي، وان خفض الضرائب على الدخول والأرباح وكذلك خفض الرسوم الجمركية على الاستيراد عوامل رئيسية مشجعة لهذا الاستثمار، ثم ان تحسين الدخول يتوقع أن يقود على المدى المتوسط إلى تحويل الفائض الاقتصادي من الدولة إلى الأفراد أو زيادة الادخارات الأهلية. تحسين مناخ الاستثمار الأجنبي وعلى صعيد الاستثمارات الأجنبية، فإن العراق، بعد تشريع قانون الاستثمار الأجنبي، يفتح أبوابه على مصراعيها أمام المستثمرين العرب والأجانب للاستثمار في قطاعات الانتاج والتوزيع والخدمات كافة، ولكل قطاعات الاقتصاد الوطني وبحدود عليا مفتوحة أمام المستثمرين بمفردهم أو بالمشاركة مع مستثمرين اخرين وتمتع بحرية تحويل لرؤوس الأموال وعوائدها من دون تأخير. إننا واثقون أن العراق، بما يملكه من موارد طبيعية وفيرة وأيد عاملة متدربة وحجم سكاني مناسب وسوق تجارية واعدة، يعتبر من أفضل بلدان العالم الواعدة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصاً أنه مازال بكراً وجديداً في هذا المجال، وان احتياجاته لهذه الاستثمارات ضخمة ومتنوعة وعديدة جداً. تكافل المجتمع الدولي مع العراق ونغتنم هذه المناسبة لنعبر باسم الشعب العراقي عن شكره وتقديره لكل الدول والمنظمات الإنسانية التي تقدم يد العون والمساعدة لتمكينه من تجاوز محنته وتخفيف الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة على الشعب العراقي الذي عانى من ويلاث ثلاث حروب وحصار عالمي دام أكثر من اثني عشر عاماً، بالإضافة إلى الحصار الذي فرضه النظام السابق على شعبه والاستبداد الذي مارسه ذلك النظام الزائل على الشعب طوال العقود الثلاثة الماضية، خصوصاً خلال عقد التسعينات حيث لم يشهد أي شعب أو بلد مثيلاً له في تاريخ البشرية الحديث. إننا ندعو دول العالم الشقيقة والصديقة والمنظمات الإنسانية القطرية والدولية إلى الاستمرار في تقديم مساعداتها للشعب العراقي لتمكينه من استرداد عافيته، وذلك بوضع خطة شاملة لإعادة إعمار العراق تضم مشاريع إنسانية وبنى تحتية في قطاعات المياه والكهرباء والاسكان والاتصالات وفي الرعاية الصحية والتربوية والتعليمية. إن توفير الموارد المالية للمشاريع في هذه القطاعات وتنفيذها بسرعة ستساعد على تحويل العراق من دولة متسلمة للمساعدات الدولية إلى دولة مانحة لها، مما يقلل من أعباء التكافل على الدول المانحة في المستقبل، كما أن تنفيذ خطة الإعمار ستساهم في تعزيز موقع العراق في جغرافية الاستثمارات الدولية وتدفقات رؤوس الأموال، إضافة إلى استقرار أسعار الطاقة في السوق. * وزير التخطيط العراقي. كلمة ألقاها في دبي على هامش اجتماعات الدوليين.