يتوقع أن يقر مجلس النواب العراقي الموازنة التكميلية لعام 2012 ومقدارها تسعة تريليونات دينار تضاف إلى الموازنة الأصلية البالغة 117 تريليوناً (100 بليون دولار). وقد يكون أحد الأسباب المهمة لصدور الموازنة التكميلية الحاجة إلى زيادة الإنفاق بعد الانخفاض الملحوظ في قيمة الدينار في مقابل الدولار (من 1170 ديناراً للدولار عند إقرار الموازنة الأصلية بداية 2012 إلى 1270 ديناراً حالياً). ولا شك في أن الفترة الاستثنائية التي مرّ بها الاقتصاد العراقي بين 1980 و2003، تجعل أي تقويم تقليدي لتأثير السياسة المالية خلال تلك الفترة غير ذي جدوى. فتوسع الإنفاق الحكومي خلال الحرب العراقية - الإيرانية فاق عائدات العراق من تصدير النفط كما استهلك كل احتياطاته الأجنبية البالغة آنذاك 37 بليون دولار وأدخل العراق في نفق الديون الداخلية والخارجية. ثم جاءت العقوبات التي أعقبت احتلال الكويت فانخفضت صادرات النفط في شكل حاد وتوقف معظم النشاطات الصناعية وبدأ التدهور السريع في سعر صرف الدينار. وكان واضحاً لمواكبي الشأن الاقتصادي العراقي للفترة التي سبقت تلك الظروف الاستثنائية، إن السياسة المالية في العراق خلال ستينات القرن العشرين كانت محكومة بحجم إيرادات النفط المتواضعة بسبب قانون العملة الذي كان معمولاً به آنذاك ويلزم المصرف المركزي بالحفاظ على الدوام على غطاء من الذهب والعملات الأجنبية للعملة المصدرة يعادل 70 في المئة من حجمها. وبذلك كان حجم الإنفاق الحكومي مقيداً بميزان المدفوعات وكان التأثير يتجه من ميزان المدفوعات إلى الموازنة الحكومية وليس العكس كما هو متعارف عليه. ولذلك كانت الحكومات تنفق أقل مما تطمح إليه خصوصاً على المشاريع الاستثمارية لأن مستوى التخلف الاقتصادي ومعدلات الزيادة العالية للسكان استدعت إعطاء الأولوية إلى الإنفاق الاستهلاكي من رواتب وأجور وخدمات صحية وتربوية على حساب الإنفاق الاستثماري. وفي فترة الطفرة النفطية والتي امتدت من 1973 إلى 1980 ظهرت حقيقة قيد ميزان المدفوعات على الإنفاق الحكومي، إذ فقد قانون العملة فاعليته وأدت زيادة إيرادات الصادرات النفطية إلى زيادة كبيرة ومفاجئة في حجم الإنفاق الحكومي في كل أشكاله، تجاوزت قدرة الاقتصاد العراقي على الاستيعاب. ولأن الحكومة لم تربط آنذاك التوسع بالإنفاق الحكومي بسياسات تجارية ونقدية ملائمة، أدى الوضع إلى ارتفاع غير مسبوق بالأسعار، على رغم سياسات التسعير من قبل الجهاز المركزي للأسعار، وظهور اقتصاد الشح وما يرافق ذلك عادة من ظاهرة السوق السوداء. وفي الوقت ذاته أدى الارتفاع الكبير في الإيرادات الحكومية في شكل تجاوز القدرة على الإنفاق إلى زيادة حجم الاحتياطات الأجنبية لدى المصرف المركزي إلى 37 بليون دولار في بداية الحرب مع إيران. من هذا الاستعراض التاريخي الموجز يبدو أن العراق يفتقر إلى الخبرة في إدارة السياسة المالية في شكل يجعل من الموازنة أداة فاعلة في إدارة السياسة الاقتصادية وفي تحقيق أهدافها. ولا يبدو أن الأمر قد تغير في الموازنات الحالية. ولا يختلف توزيع موازنة 2012 كثيراً عن موازنة 2011. ففي موازنة 2012 تأخذ النفقات الجارية أو التشغيلية نحو 70 في المئة من مجموع الموازنة البالغ 117.1 تريليون دينار، ويذهب 51.7 تريليون أي نحو 65 في المئة إلى رواتب العاملين ورواتب تقاعدية وإعانات ومنافع اجتماعية ويتوزع الباقي بين تعويضات حرب الكويت وخدمة الديون الخارجية ومشتريات. ويعود سبب الارتفاع الكبير في نسبة الأجور والرواتب إلى أن القطاع العام في العراق لا يزال المشغل الرئيس لليد العاملة وبالتالي مصدر الرواتب والأجور والرواتب التقاعدية وإعانات الضمان الاجتماعي. أما القطاع الخاص فلا يزال دوره ضعيفاً كمشغل لليد العاملة وازداد ضعفاً بعد الاحتلال. وبذلك ظلت الموازنة أداة مهمة لإعادة توزيع الدخل بين الحكومة والقطاع الخاص. ويعاني هذا الدور حالياً فروقاً شاسعة التي استجدت بين رواتب ومخصصات والاستحقاقات التقاعدية لأصحاب الدرجات الوظيفية العالية مقارنة بالمستويات الأدنى من الموظفين. وهذه قضية تستدعي معالجة قبل استفحال آثارها خصوصاً أن الخدمات التي كانت تقدم إلى الأفراد بأسعار رمزية لا تزال تعاني نقصاً حاداً يضطر الأفراد إلى شرائها من مصادر خاصة بأسعار عالية. أما النفقات الاستثمارية فهي في حدود 35 في المئة من الموازنة وتذهب لإعادة تأهيل المشاريع النفطية ومشاريع الكهرباء. لكن 50 منها يذهب إلى الاستثمار في كردستان بينما تأخذ تنمية بقية الأقاليم والمحافظات نصف ما يرصد لكردستان على رغم التحسن الذي ظهر في حصتها في موازنة 2012 مقارنة بموازنة 2011 ما يشير إلى أن هدف التوزيع الجغرافي للإنفاق الاستثماري يبدو سياسياً وليس اقتصادياً. وكي يتحقق الإنماء المتوازن لابد من ربط توزيع النفقات الاستثمارية بين المحافظات والأقاليم حسب نسب توزيع السكان بينها. ولا تزال موارد النفط الرافد الرئيس للموازنة إلى درجة تصل إلى أكثر من 95 في المئة ما يستدل منه على مدى انكشاف الاقتصاد العراقي لآثار التقلبات في أسعار النفط والطلب عليه وبالتالي للدورات الاقتصادية ما يستدعي معالجته وعدم تركه يتفاقم من خلال تحقيق الظروف الملائمة لنشاط القطاع الخاص ونمو القطاعات غير النفطية. أما العجز البالغ 14.8 تريليون دينار فليس هناك ما يشير إلى كيفية تغطيته لكن يرجَّح أن يكون من فائض صندوق التنمية العراقي في مجلس الاحتياط الفيديرالي في نيويورك والذي تأسس بعد 2003. * كاتبة متخصصة في الشؤون الاقتصادية - بيروت