ليس غريباً أن تحظى المسألة الكردية باهتمام خاص في السجالات والحوارات السياسية الدائرة اليوم في سورية ربطاً مع الجديد الحاصل بعد الحرب على العراق وبحثاً عن موقع تستحقه في مسار الإصلاح والتغيير الديموقراطي وبسبب من ارتفاع حرارة النضال الكردي والاعتقالات التي طاولت العشرات من ناشطيه في مدينتي دمشق وحلب جراء مطالبتهم بأبسط الحقوق الإنسانية، حق المواطنة! لعل من البديهي أن نسلّم بوجود شعب كردي في سورية، يشكل القومية الثانية بعد العرب، ومتجذر في تاريخها وحياتها السياسية والاجتماعية منذ القدم، لكن ما يطعن هذه الحقيقة ويتركها أسيرة الالتباس، محاولات الإلغاء التي دأبت عليها قوى التطرف والتعصب القومي، إن خارج السلطة أو داخلها، ومغالاتها الشوفينية في تغييب دور الكتلة القومية الكردية في التاريخ السوري والادعاء بأن ما هو قائم من تشكيلات قومية واجتماعية ليس إلا صنيعة الاستعمار أو التسويات التي توصلت إليها القوى الإقليمية المتصارعة في المنطقة. إن مثل هذه القراءة الشوفينية لتاريخ المجتمع السوري هي قراءة خطيرة تؤسس لشروخ عميقة في النسيج الاجتماعي وتفضي إلى إشكالات وصراعات لا تحمد عقباها بفعل تبلور وجهات نظر متباينة وحتى متناقضة، علمياً وعملياً، حول أحقية أو مشروعية القوى القومية المتعددة التي تشكل بنية هذا المجتمع، من دون أن نلمس ماهية الضرر الناجم عن اعتراف الجميع بالحقائق الراهنة والاحتكام إلى وقائع عمرها مئات السنين تؤكد أن لحمة هذا المجتمع هي خليط من قوميات مختلفة، عرب وكرد وأرمن وشركس وغيرهم، ساهموا جميعهم في صوغ تاريخه وإيصاله إلى ما وصل إليه اليوم، ما يعني ضرورة الإقرار الواضح والصريح بوجود الشعب الكردي جزءاً عضوياً من تركيبة المجتمع السوري، وبالتالي الإقرار بحضور مسألة سياسية نضالية ما زالت برسم الحل ترتبط بحقوقه القومية المشروعة، كحق المواطنة وحقوقه الثقافية والسياسية. يقودنا الحديث عن الحقوق القومية الكردية في سورية ومشروعيتها، إلى الحديث عن هزيمة الرؤية الاستراتيجية القديمة التي اعتمدتها كل القوى السياسية الكردية على مختلف مشاربها كي تصل إلى أهدافها وحقوقها القومية. استراتيجية العمل عبر مختلف الوسائل، وبخاصة الكفاح المسلح والبؤر الثورية من أجل كسر حلقة ضعيفة من السلسلة التي تؤلف كردستان التاريخية مرة في إيران، وأخرى في العراق، وثالثة في تركيا. استراتيجية تغليب الغاية القومية على ما عداها، وفي شكل خاص على هدف النضال الديموقراطي، بصفته الهدف الوحيد الذي يعالج المعضلات القومية تلقائياً ويحل الإشكالات المرتبطة بها مهما كانت صعبة ومعقدة. صحيح أن نتائج الحرب العالمية الثانية ومرحلة الحرب الباردة، والانتصارات التي حققتها حركات التحرر في البلدان المتخلفة بوسائل العنف الثوري، هي عوامل تفسر الحضور القوي والمتفرد للاستراتيجية السابقة الذكر في توجيه النضالات القومية الكردية. لكن الصحيح أيضاً أن جديد المتغيرات العالمية، كانهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية، وسيادة النظام العالمي الجديد أطاح موضوعياً، مثل هذه الاستراتيجية وبرهن عدم جدواها النضالية. وما عزز ذلك في الخصوصية الكردية، الدروس والعبر المستخلصة من الهزائم والانكسارات التي شهدها النضال الكردي في ثوراته المعاصرة، ودور العوامل العالمية والإقليمية في إجهاض طموحه القومي بعد أن وصلت "اللقمة إلى الفم" في غير لحظة من لحظات تاريخه جمهورية مهاباد في إيران 1947، اتفاق آذار مارس في العراق 1975، غموض مستقبل الحال الكردية في عراق اليوم. الأمر الذي يدفع الى الأمام رؤية استراتيجية جديدة تستند أساساً الى النضال الديموقراطي طريقاً آمناً لانتزاع الحقوق القومية للكرد، بما في ذلك حقهم في تقرير مصيرهم، ما يضع الشعب الكردي وقواه الحية في صلب قوى العمل من أجل بناء مجتمع ديموقراطي في كل بلد يوجد فيه، واعتماد هذا الخيار نهجاً ثابتاً وأصيلاً، لا مجرد عمل تكتيكي ظرفي وموقت. أن يختار الشعب الكردي المخرج الديموقراطي وتتبنى قواه الحية هذه الاستراتيجية لحل المسألة القومية وتعقيداتها، يؤكد حقيقتين مهمتين: الحقيقة الأولى: إن النضال الديموقراطي يعني بداهة في أحد وجوهه، نضالاً من أجل مساواة جميع القوميات في نظر المجتمع والقانون، وهو في الحال الكردية تثبيت الحقوق المشروعة لهذا الشعب المضطهد، كحقه في المواطنة، حقوقه الثقافية والسياسية، وحقه المتساوي في المشاركة في إدارة السلطة والدولة، بما في ذلك أيضاً، حقه في تقرير مصيره بالوسائل والأساليب الديموقراطية. الحقيقة الثانية: إن تبني الديموقراطية طريقاً رئيساً لحل المسألة القومية الكردية سيعمق، بلا شك، حال التلاحم النضالي بين كل القوى السياسية والاجتماعية التي يوحدها هدف التغيير الديموقراطي، ويبني أواصر ضرورية من الثقة والاطمئنان بين الشعب الكردي والشعوب التي يقاسمها العيش المشترك، مزيلاً عند العرب "شعور التوجس والشك" بأن الكرد يخفون وراء نضالاتهم حسابات ومصالح ذاتية ليس إلا، وأنهم يترقبون الفرصة المناسبة لتحقيقها دون اعتبار لمصلحة المجتمع الذي يعيشون في كنفه. كما يزيل في المقابل الإحساس لدى الشعب الكردي بأنه كان جسراً عبرت فوقه أحزاب وتنظيمات نحو أهدافها السياسية الخاصة وتناست في ما بعد ما رفعته من شعارات لنصرة حقوقه القومية. * كاتب سوري.