في أواخر الشهر الخامس من هذا العام، وبعيداً عن الوطن، تم في قاعة صغيرة في مدينة امستردام الهولندية افتتاح وإرساء دعائم المؤتمر القومي الكردستاني. العلم الكردي بألوانه الثلاثة الرئيسية، الأحمر، الأبيض والأخضر، والشمس المدورة الصفراء التي تزين قلب العلم كان مرفوعاً في أعلى موقع في القاعة، الى جانب شعارات مختلفة تؤكد على أن لشعب كردستان الحق في تقرير مصيره بنفسه. الحضور كان يضم أكراداً من العراق، إيران، تركيا وسورية، كما حضر المؤتمر أفراد يمثلون الأقليات القومية والدينية المتواجدة في كردستان. أكثرية الحضور كانوا من أكراد المهجر وبعضهم قضى أكثر من ثلاثة عقود من حياته خارج كردستان. الجميع يشارك في الحلم نفسه ألا وهو العودة الى الوطن، وهذا الحلم يكبر. المؤتمر القومي الكردستاني طرح نفسه كأعلى هيئة سياسية لكردستان ويدعو الى الوحدة القومية وحق تقرير المصير. وشكل المؤتمر العديد من اللجان للقيام بمهمات سياسية وديبلوماسية، وتم كذلك انتخاب هيئة رئاسية لقيادة المؤتمر. فالمؤتمر يطرح كآلية قيادية للعمل من أجل التعريف بالمشروع القومي الكردي وتعبئة الشعب الكردي والوصول الى الوحدة الكردستانية المنشودة. الحلم المشروع للعديد من المثقفين وبعض التنظيمات السياسية الكردية في تكوين دولتهم المستقلة قديم وقد يعود الى بداية هذا القرن. لكن المشكلة هي أن أحقية المشروع القومي في تكوين الدولة المستقلة لا تنعكس في مرآة الواقع. فالظلم التاريخي الذي نزل بألأكراد حينما تم تقسيم وطنهم بين مختلف الدول أدى بهم الى مواجهة عدو ثابت وهو جغرافية كردستان. فالجغرافيا لها دور رئيسي في رسم الكثير من الأهداف للأحزاب السياسية، بل انها تفرض وسائل العمل للوصول الى هذه الأهداف. ويطرح أصحاب النضال من أجل تشكل الوحدة الكردستانية، عموماً، السؤال التالي لتأييد وجهة نظرهم: هل للأكراد الحق في تشكيل الدولة الكردستانية الموحدة وحكومة مستقلة؟ ان الجواب عن هذا السؤال وخاصة إذا جاء على لسان الكرد سوف يكون حتماً بالايجاب، بل أن الكثير من المتضامنين مع الشعب الكردي ومن المختصين في هذا المجال يتعاطفون مع الكرد ويرون ان هذا الشعب يستحق أن يكون له مكان معترف به بين شعوب الشرق. ولكن القضية الكردية لا تتعلق، فقط، برغبة الأكراد في تشكيل الدولة الكردية وتضامن الضمائر الحية معهم. فهذه القضية متشابكة جداً بحيث يحتاج المرء أولاً الحصول على اجوبة لاسئلة عديدة أهم من هذا. وهذه الأسئلة تتمحور حول الأهداف والوسائل في نفس الوقت. وهي كالتالي: هل من الممكن تشكيل دولة مستقلة موحدة كهذه؟ وهل في الامكان إعادة تقسيم الحدود لصالح الشعب الكردي؟ وهل ان هذا المشروع القومي الضخم يتم انجازه بآليات تنظيمية مثل المولود الجديد في أمستردام؟ وهل ان المؤتمر القومي يمثل حقاً جميع أبناء كردستان؟ وهل كان الوقت ملائماً لتأسيس هذا التنظيم؟ إن العمل من أجل تشكيل الدولة الموحدة في كردستان يستند لدى البعض على أن الأكراد يشكلون قوماً كبيراً في العدد، وربما أكبر الأقوام في العالم حوالى ثلاثين مليوناً من دون دولة أو حكومة أو أي كيان معترف به. وأصحاب هذا الرأي يقولون ان النضال من أجل أبسط الحقوق يصطدم بالرفض من قبل بعض الحكومات التي تتقاسم كردستان. لهذا فمن الأجدر الذهاب رأساً الى الهدف الأكبر وهو الدولة الكردستانية، ما دام أن التضحيات الجسام التي يقدمها الأكراد ومن أجل التعايش مع الآخرين وعلى قاعدة النضال في سبيل الحقوق الديموقراطية والمساواة ضمن الوطن الواحد، لا تستقبل بالقبول من قبل أعداء الحق الكردي. إن التنظير لحق تقرير المصير وتكوين الدولة الكردستانية هو من الأمور الطبيعية والمتوقعة، بل انه من واجب المثقفين الكرد وضع دراسات قانونية، سياسية واقتصادية مستفيضة حول مواضيع الاستقلال والدولة الكردية وطرح النواحي النظرية والعملية لهذه المسألة وتقويم جميع السلبيات او الايجابيات المتوقعة من رفع شعار سياسي كهذا. ومن حق الأكراد الاعتقاد والإيمان بأن شعبهم، وكأي شعب من شعوب الكون، له كامل الاختيار والنضال من أجل تكوين دولة موحدة. ولكن هذه المسألة لا تتعلق فقط بأحقية القضية. كما أن ما يراه الأكراد حقاً، يراه مناهضو الحق الكردي وأكثرهم أصحاب قوة، تماماً بالشكل المضاد لرؤية الأكراد. فإذا اعتبر الأكراد أنفسهم وحدويين، وهذا بمفهوم الدعوة الى وحدة كل أجزاء كردستان وتكوين الدولة، فإن جميع الحكومات التي تتحكم بأرض كردستان والأكثرية المطلقة للأحزاب والفئات السياسية العربية، التركية والفارسية سوف تعتبرهم انفصاليين وأصحاب تجزئة، بل ان هذه الحكومات مستعدة للتعاون في ما بينها لضرب كل حركة تسعى الى هذا السبيل. وفي هذه الحالة فإن توازن القوى ليس لصالح الأكراد. إن مسألة صياغة الشعارات والأهداف ليست من الأمور الصعبة، ولكن الأهم في السياسة الكردية ترجمة الأهداف الى واقع ملموس. وبعض الأكراد يخلط بين حالة التمنيات في السياسة وبين الأهداف التي في الامكان وعلى المدى المنظور الوصول اليها. البعض يرى أنه لا حل للمسألة الكردية إلا بثورة شاملة وتغيير الواقع المعاش بصورة جذرية. وهؤلاء يؤمنون بحرق المراحل للوصول الى الهدف الأكبر. بينما هناك العديد من الفئات والتنظيمات الكردية التي تؤمن بسياسة الخطوة خطوة وبمحاولة تغيير جزء من هذا الواقع استناداً الى عدم امكان تغيير الكل. والاختلاف في الطروحات المستقبلية بين الأكراد هو نتيجة تعقيد المسألة الكردية وكونها بقيت لمدة طويلة من دون حل. وتعقيدات المسألة الكردية ترجع في قسم منها الى أنها كانت وما زالت مسألة متشابكة مع سياسات مختلفة وفي وقت واحد. فالسياسات المحلية القطرية، الاقليمية والدولية متشابكة في الساحة السياسية الكردية، اذ القضية الكردية قضية محلية، اقليمية ودولية في آن. فكل خطوة في المجال السياسي وفي اتجاه الحل، تحتاج الى قبول محلي وعدم معارضة اقليمية ومساندة وتضامن دوليين. ولهذا فإن مع كل خطوة يخطوها الأكراد وباتجاه الهدف المعلن، عليهم اعطاء قدر كبير من الأهمية للأفعال وردود الأفعال المحلية والاقليمية والدولية. إن القناعة الذاتية والإيمان بالوسيلة والهدف هي من الأمور المهمة والتي تساعد على الوصول، ولكن من دون توافر أكثرية الشروط الخارجية الأخرى فإن من الصعب تحويل الأهداف الى واقع ملموس. ان الدعم الاقليمي والعالمي لتشكيل الدولة الكردية غائب، كما ان فرض الأمر الواقع من خلال تحرير عموم أرض كردستان وبواسطة القوى العسكرية الكردية ليس في طاقة الأكراد. إن المشكلة في تبني مثل هذه الشعارات هي أنها تؤدي الى توقعات هائلة من قبل العديد من الأكراد. فالتوقعات البعيدة عن المنال والتي يتم طرحها بين آونة وأخرى وكأنها في متناول اليد، تؤدي الى رد فعل سلبي عندما لا تترجم الى الواقع. كما أن طلب الكل في السياسة يؤدي، في أحيان كثيرة، الى عدم الحصول على أي شيء. وبعض منظمات العمل القومي الكردستاني يدعو القيادة ويطالب الآخرين بالانضمام اليه، وهذا يعني ضمناً محاولة الغاء دور هؤلاء. فالأكراد الذين يناضلون ويحاربون من أجل حقوقهم ضمن الجزء يرون أن أهدافهم أكثر واقعية وأن هذه الأهداف تدخل في الحسابات الملموسة وفي خلال فترة زمنية معينة. ان أكراد التجزئة، إذا صح التعبير، يضعون الدولة الكردية وتشكيلها في قائمة الأهداف غير المرئية. وعلى أساس هذه المعطيات حددوا أهدافهم في الحكم الذاتي أو الفيدرالي وفي حدود الدولة القائمة. فأكثرية الأحزاب الكردية في العراق رفعت شعار النضال من أجل اقامة نظام فيدرالي ديموقراطي في العراق على أن يتمتع اقليم كردستان بكامل الحقوق في اطار هذا النظام. والحزب الديموقراطي الكردستاني في ايران يسعى الى الديموقراطية في ايران والحكم الذاتي لكردستان. وحتى زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان المعتقل في تركيا، كان قد طرح وهو في المهجر مشروعاً لحل المسألة الكردية وكان هذا المشروع لا يتجاوز الحقوق الثقافية وضمان نوع من الحكم الذاتي للأكراد في اطار الدولة التركية. إن صياغة الأهداف وعلى شكل الحكم الذاتي أو الفيدرالي تعود الى ان هؤلاء الأكراد، واستناداً الى تجاربهم النضالية ودراستهم للخارطة السياسية الاقليمية والدولية وصولا الى القناعة التامة بأن رفع شعار تشكيل الدولة الكردية في هذا الوقت، يدخل ضمن حلقة التمنيات. والقيادات السياسية التي تتعامل مع الواقع المر ترى أنه من الصعب زج الأكراد في مسيرة نضالية خاسرة ومن أجل التمنيات. لقد شاهد المرء كيف ان الكثير من حدود الأوطان التي كانت مقدسة حسب القوانين الدولية، قد تطاير وخاصة في العقد الأخير من هذا القرن، وأدى الى ولادة العديد من الدول المعترف بها. وبعض الأكراد يرون أنه إذا كان في الامكان كسر الحدود وازالتها في أماكن مختلفة في العالم، فلماذا لا يمكن ذلك في كردستان. لكن الأكراد الذين يصارعون الواقع يتحججون بأن إزالة الحدود وتشكيل الدول الجديدة نجم أكثرها التغيرات الموضوعية وانهيار كيان المنظومة السوفياتية وليس فقط بسبب النضال الذاتي والاعتماد على النفس. والظروف الموضوعية المحيطة بكردستان تتعلق بأربع دول وليس بواحدة فيما تقسيم أو انهيار احدى هذه الدول لا يعني بالضرورة أن الحلقات الأخرى سوف تتفكك. وللوحدويين الكرد مقاييس أخرى تتعلق بأسباب صياغة الأهداف. فهم يرون أن سقف المطالب الكردية يجب أن يرتفع كلما ازدادت التضحيات. وبما أن الشعب الكردي في نضال مستمر منذ نشوء العديد من الدول القومية في المنطقة مع بدايات هذا القرن، وبما ان هذا النضال كلف هذا الشعب مئات الآلاف من الضحايا فإن من حق هذا الشعب أن يتمتع بدولته الواسعة الموحدة. لكن الأكراد "الاقليميين" يرون أن هذه النقطة بالذات تؤكد على أن صياغة الهدف يجب أن تكون أكثر واقعية، والا فإن بيادر الضحايا سوف تزداد، ويجب أن لا يتحول نضال الشعب الكردي الى حقل للتجارب. ولدى بعض الأكراد القناعة التامة بأن العلة في عدم الوصول الى الأهداف الكردية الشاملة، لا تتعلق فقط بعدم طرح أهداف القضية الكردية بصورة واضحة وصريحة اي العمل من أجل الدولة الكبرى، بل يعود أيضاً الى عدم وجود الآلية القومية التي تستطيع تعبئة الجماهير الكردية والرأي العام الداخلي والخارجي في سبيل الهدف المنشود. وبتأسيس المؤتمر القومي الكردستاني في أمستردام يعتقد قسم من الأكراد أن الأداة قد ولدت. وعلى رغم كون المؤتمر والإعداد له يعتبر عملاً ضخماً فيما التشكيلة الكردستانية التي شاركت تضم ممثلي عدد من الأحزاب الكردستانية كما تحضر شخصيات كردية مستقلة عديدة، إلا أنه يمكن القول إن ولادة المؤتمر كانت مبكرة وناقصة. فالولادة مبكرة بسبب عدم نضج الظروف السياسية للكرد وعدم قدرة الأكراد على رعاية المولود الجديد نتيجة الخلافات الداخلية ونتيجة الظروف الاقليمية المعادية لهذه الطروحات والطموحات. والمؤتمر ولد مشلولاً وناقصاً نتيجة عدم اشتراك الأحزاب الكردستانية الكبيرة وخاصة من كردستان العراقوايران. فالحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لم يشتركا في المؤتمر. والحزب الديموقراطي الكردستاني الايراني والحزب الاشتراكي الكردستاني في تركيا امتنعا أيضاً عن الاشتراك. وبسبب عدم اشتراك هذه الأحزاب فإن المؤتمر ترك انطباعاً لدى العديد من المراقبين أنه تنظيم تم إعداده وتأسيسه وفي النهاية قيادته من قبل حزب العمال الكردستاني ب.ك.ك.. وهناك عنصر اضعاف آخر لهذه الآلية القومية يتعلق بتشكيلة الهيئة الرئاسية لقيادة المؤتمر للمرحلة المقبلة. فليس هناك أي عنصر من كردستان العراق في هذه الهيئة القيادية الكردستانية، لأن الأكراد العراقيين الذين كانوا في الاجتماعات لم يوافقوا على بعض المسائل التي كانت متعلقة بالهيكل القيادي للتنظيم. من نافلة القول إن العمل القومي لا يحتاج في كل زمان ومكان الى الاجماع التام أو مشاركة الكل، وأن النضال السياسي لا يبدأ عادة بموافقة الجميع. كما أن وجود الخلافات الفكرية والسياسية من الأمور الطبيعية في مجتمع واسع كالمجتمع الكردي. ولكن في هذا المجال فإن من الضروري بناء الحد الأدنى من العمل المشترك وخاصة إذا كان التنظيم قومياً ووحدوياً ويدّعي تمثيل كافة أجزاء كردستان. إن المرحلة التي تمر بها القضية الكردية مرحلة مهمة وفريدة في التاريخ السياسي الكردي. ففي مجرى هذا التاريخ لم يكن هناك فهم ودعم للمسألة الكردية كما عليه هي الآن. فلو أخذنا الحكومة العراقية كمثال، فإن الأكراد لم يواجهوا حكومة منعزلة اقليمياً ودولياً بهذا القدر الرهيب. بل ان أكراد العراق لم ينعموا في كل تاريخ تجربتهم السياسية بكيان ذاتي، على رغم كونه ناقصاً من نواح عديدة، كما هو عليه الآن. كذلك فالجالية الكردية في المهجر لم تكن أبداً بهذا الحجم الكبير وهذا الثقل المؤثر وهذا الشكل من التنظيم. فالفرصة السياسية أحسن بكثير من السابق وأكراد المهجر سوف يلعبون دوراً مهماً في رسم السياسة الكردية في المستقبل. لكن هذا الدور يجب أن يبقى دور مساندة وتضامن مع الأكراد في الداخل. فالتنظيمات القيادية تبقى في أيدي تنظيمات الداخل ولأكراد الخارج دور ريادي في مجال الطروحات الفكرية والنظرية ولهم كل الساحة في مجال العلاقات العامة وتوسيع "اللوبي" الكردي في الخارج. ان العمل في الخارج يحتاج، في أكثر الأحيان، الى منطلقات وتنسيق كردستاني بعيد عن التعصبية الحزبية والعصبوية وكل هذا من موقع التضامن مع الداخل. وعلى أكراد المهجر العمل أولاً لمساندة وتشجيع مبادرات العمل التنسيقي بين الأحزاب الكردستانية في الداخل. إن مهمات أكراد الخارج محددة وبقدر رقعة المناورة السياسية الدولية المفتوحة في الوقت الحاضر للأكراد، وهذه لا تتجاوز الحقوق القومية داخل الأوطان التي يعيش فيها الشعب الكردي. أما محاولة دفع البعض حدود هذه الرقعة الى الخلف، فإن تلك المحاولة تستند الى فهمهم الثوري للسياسة والتي تعني عندهم فن تحويل المستحيل الى الممكن. وأما أكراد الداخل فإن أكثرهم ما زالوا يتعاملون مع السياسة من المنظور المتعارف عليه وهو فن الممكنات.