إن أقصر وأسرع الطرق لتحويل انتصار عسكري - أميركي - في العراق الى هزيمة سياسية في الشرق الأوسط هو تنصيب مندوب سام عسكري أميركي في العراق وبعده إقامه حكومة دمية عميلة، وبدلا من ذلك على إدارة جورج بوش ان تسلم الأمور في العراق الى إدارة موقته تحت إشراف الأممالمتحدة. هذا الاقتباس السابق منشور في أسبوع سقوط بغداد نفسه تحت الاحتلال الأميركي في التاسع من نيسان ابريل الماضي. وهو ليس اقتباساً من مقال افتتاحي لجريدة أميركية مهمة - هي "النيويورك تايمز"، وهو رأي حصيف ومبكر في حينها شاركتها فيه جريدتا "الفاينانشال تايمز" و"الاندبندنت" على الجانب الآخر من المحيط الاطلنطي كان هذا في نيسان ابريل الماضي. ومن يومها فإن السياسة الأميركية في العراق مضت بالضبط في الطريق نفسه السريع هذا الى الهزيمة السياسية، مصصمة على مدار الساعة على رفض أي طريق آخر يكسر احتكارها للسيطرة على العراق أو حتى يسمح بأي مشاركة دولية حقيقية. بالطبع كان في بغداد ممثل للأمين العام للأمم المتحدة - هو البرازيلي الراحل سيرجيو دي ميليو - مسايرة لبعض مضمون قرار مجلس الأمن 1483. لكن مبعوث الأممالمتحدة هذا، ورغم كل لغته الديبلوماسية، هو ايضاً الذي صرح في حوار صحافي قبل أن يلقى حتفه بأن الاحتلال الأميركي لبغداد "مذل، ويحمل في طياته الكثير من الاهانة لمشاعر العراقيين"، مؤكداً أنه "لا يريد أن يرى أي أثر للاحتلال في العراق، حيث المحتل لا يستطيع فرض الأمن" داعياً القوات الأميركية الى احترام التقاليد الاجتماعية للعراقيين وان تبدي المزيد من المراعاة لمشاعرهم خلال قيامها بالغارات على المشتبه فيهم. لم يكن قبول أميركا - في القرار 1483 - بممثل الأممالمتحدة في العراق سوى مجرد تنازل شكلي فارغ من المضمون لمجرد تسهيل تمرير القرار في المجلس، أما في أرض الواقع فإن الوحيد الذي يحوز السلطة النهائية في كل شيء هو المندوب السامي الأميركي أياه - بول بريمر كحاكم مدني أميركي حسب التسمية الرسمية. الدبابات والمصفحات الأميركية اصبحت جزءاً من الحياة اليومية للمواطن العراقي والغارات المسلحة المفاجئة على البيوت تجري على مدار الساعة. وحتى لا تكون هناك أوهام لدى أحد فإن بول بريمر نفسه هو الذي قرر استئناف صدور الجريدة الرسمية العراقية باسمها القديم نفسه "الوقائع العراقية" اعتبار من 17 حزيران يونيو الماضي. وفي العدد الجديد من الجريدة بعد استئناف اصدارها باسم وزارة العدل العراقية كالسابق اصبحت الطباعة أفخم والورق أكثر اناقة. انما المهم هو البدء بإعلان لبريمر موجه الى "المواطنين العراقيين" قال فيه: "تحت قيادتي قررت سلطة التحالف الموقتة إلغاء قوانين النظام القانوني العراقي ونشر وسائل قانونية جديدة لإقامة نظام قضائي عادل ومنصف للشعب العراقي"، متابعاً: "طلبت إعادة اصدار الجريدة الرسمية متضمنة الإجراءات والأوامر والمذكرات والبلاغات العامة التي تصبح نافذة فور نشرها، في العدد نفسه أربعة أوامر وقرارات من بول بريمر تنص كلها على ان سلطته تنبع من قرار مجلس الأمن 1483 الصادر في 22 آيار مايو 2003 ويمنح قوات الاحتلال وصاية اقتصادية وسياسية على العراق. وبقرار من بول بريمر أيضا صدر تشكيل مجلس الحكم الانتقالي من 25 عراقياً بعضهم عاش في الخارج لعقود ويحمل جنسيات أخرى. ومن اللحظة الاولى أوضحت سلطة الاحتلال أن مهمة مجلس الحكم الانتقالي استشارية وأن للحاكم الأميركي بول بريمر سلطة إلغاء ونقض أي من قراراته في أي وقت. وحتى حينما يتولى المجلس تشكيل حكومة عراقية فإن اختياراته ستكون محصورة ضمن مئة وخمسين اسما يرشحها له بول بريمر. كذلك فإن بول بريمر هو أيضا الذي يحدد موازنة المجلس ورواتب اعضائه ويعتمد البدلات المالية التي تصرف لهم حينما يكلفون بسفريات خارجية... إلخ. على أن الأكثر أهمية من هذا كله هو أن المجلس - حتى بصفته الاستشارية - ليس له أن يتدخل بالمرة في الشؤون الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تظل فقط في سلطة الحاكم الأميركي. وحدث مثلا أن قامت شركتان من البحرين والكويت بتشغيل شبكة للهواتف النقالة في العراق عقب الاحتلال. لكن الحاكم الأميركي سرعان ما أغلقهما بحجج أمنية. بعدها فاجأ بول بريمر الجميع بإعلان عطاءات لمنح ثلاثة امتيازات لشركات تقوم بإنشاء وتشغيل شبكات للهاتف النقال في العراق، على أن يتم البت في هذه العطاءات خلال عشرين يوماً. لقد جرى تصميم شروط العطاءات الجديدة بحيث يتم - عملياً - استبعاد أي شركة عربية أو حتى عراقية من الفوز بأي من العطاءات الثلاثة. فقط أعلن بول بريمر أن سلطة "التحالف" هي التي ستقوم بتقويم هذه العروض من الناحية الفنية والإدارية والتكلفة وفق قانون الاتصالات العراقي وقانون الملكية الأميركي وإجراءات التنافس المعمول بها دولياً. وبينما أقر أعضاء مجلس الحكم الانتقالي بمفاجأتهم بتلك التطورات التي ستترتب عليها أرباح ضخمة للشركات الفائزة، إلا أنهم برروا عدم اعتراضهم بأن أموراً إجرائية وتشريعية كثيرة "تشغلهم عن متابعة الملفات الاقتصادية". لم يكن هذا الملف سوى جانب واحد من الجوانب العديدة التي احتكرتها لنفسها سلطة الاحتلال الأميركي والبريطاني. مع ذلك فإن أميركا هي أيضا التي وضعت كل ثقلها وراء السعي لحصول مجلس الحكم الانتقالي باعتراف عربي على وجه الخصوص، وبالذات بعد فشلها في استخراج هذا الاعتراف بالمجلس دولياً من خلال مجلس الأمن الدولي، هكذا بدأ وفد من مجلس الحكم الانتقالي أول رحلة خارجية الى ثلاث دول عربية انتهت بسبع دول، كان الالحاح على هذا الاعتراف أميركياً يتصاعد يوماً بعد يوم من دولة الى أخرى، وصولاً الى الذروة التي اعلنها رئيس المجلس في القاهرة من أن العراق سيشارك بوزير خارجية - العضو في حكومة لم تشكل بعد - في الاجتماع المقبل لوزراء الخارجية العرب في التاسع من ايلول سبتمبر. بعض المسؤولين العرب في الدول المعنية أنكر علناً وجود أي ضغوط أميركية للاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي رغم أن الوقائع المعلنة المؤكدة تثبت العكس تماماً هناك تصريحات معلنة سابقة لكولن باول وزير الخارجية الأميركي، وهناك أخيراً ما أعلنه السفير الأميركي في بيروت من أن "الولاياتالمتحدة طلبت من لبنان أن يعمل مع مجلس الحكم الانتقالي في العراق وأن يستقبل ممثليه ويتعامل مع وزارة الخارجية العراقية". احد المفارقات الملفتة هنا هي أن وفد مجلس الحكم الانتقالي أعلن أن المجلس يتطلع الى تمثيل ديبلوماسي بأسرع ما يمكن لدى مصر والدول العربية، لكنه حينما سئل عن إمكان اعادة فتح السفارة المصرية في بغداد سريعاً، ردّ بأن هذه الخطوة قد تتأخر لأسباب مرتبطة بالوضع العراقي في ظل الحاجة الى تأمين الحماية الكاملة لاعضاء البعثات الديبلوماسية. إذن الكلام الجاد يوجه الى عنوان آخر. اما المفارقة الأخرى فهي التحول المفاجىء في أولويات مجلس الحكم الانتقالي في العراق. هذا مجلس استشاري وموقت ومن دون سلطات حقيقية وبخطوط حمراء تمنعه من "التطفل" على سلطة الاحتلال في ممارستها المطلقة للأمن والاقتصاد والسياسة والسيادة، كان مفترضاً حقاً أن يركز مجلس الحكم الانتقالي أولاً على انتزاع اختصاصات حقيقية له من سلطة الاحتلال، وكذلك سلطات فعلية للحكومة العراقية الوشيكة خصوصاً أن الشعب العراقي بمجموعه أصبح يعاني من جحيم انقطاع الكهرباء والمياه وتفشي البطالة وانعدام الامن وانتشار السلوك الإجرامي ضد المواطنين في حياتهم العادية. كان مفترضاً أيضاً أن يلحّ مجلس الحكم الانتقالي على سلطة الاحتلال بتشكيل المجلس الدولي لمراقبة ايرادات البترول العراقي - وهو التزام اقرّت به الولاياتالمتحدة امام المجتمع الدولي في قرار مجلس الأمن 1483 ولا تريد أن تفي به حتى الآن. كان مفترضاً كذلك أن يكون عدم اعتراف الدول العربية بمجلس الحكم الانتقالي عنصراً ضاغطاً يستخدمه اعضاء المجلس - لو استقامت النيات - من أجل انتزاع سلطات حقيقية لهم من الحاكم الأميركي للعراق... إلخ. بدلاً من ذلك قفزت الى السطح فجأة مسألة التعجيل أولاً بالاعتراف العربي في المجلس وضمان مشاركة الحكومة العراقية حتى الآن في علم الغيب في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة في التاسع من أيلول سبتمبر وبموازاة رحلة وفد المجلس الى سبع دول عربية كانت تتلاحق الإلحاحات الأميركية للاعتراف بالمجلس سريعاً كمساهمة مطلوبة ضمن مساهمات أخرى لإعطاء شرعية لسلطة الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق. لقد تزايدت هذه الحاجة الأميركية الى الشرعية مع تدهور الأوضاع داخل العراق واحتياج الولاياتالمتحدة فجأة الى الأممالمتحدة مرة أخرى بعد طول تجاهل وغطرسة. اصبحت الحاجة الأميركية ماسة الى أي قدر من التعاون داخل مجلس الأمن من ناحية، والحاجة الى مساهمات عسكرية من دول أخرى لتخفيف عبء الاحتلال من ناحية أخرى. هناك دول بحجم الهند مثلاً ترفض اي مشاركة بقواتها العسكرية إلا بقرار من مجلس الأمن وبإشراف من الأممالمتحدة. دول أخرى تريد أن تعرف مقدماً ما المكافأة التي تتيحها أميركا مقابل تدويل احتلالها للعراق، وهو تدويل يقتصر فقط على حماية استمرار الاحتلال الأميركي بالدرجة الاولى. ربما يؤدي الإلحاح الأميركي - حيث لا يعترف الساسة العرب بوجود ضغط - الى تطورات وشيكة. لكن الخيار الذي لا ينفك يؤجل أميركياً منذ التاسع من نيسان أبريل الماضي لا يزال على ما هو عليه: إما تحمل أعباء ونتائج الاحتلال المباشر للعراق، وإما "تسليم الأمور الى إدارة موقتة تحت إشراف الأممالمتحدة" على حد تعبير "النيويورك تايمز" قبل شهور. ولأن مشروع الإدارة الأميركية الحالية في العراق وخارجه هو مشروع امبراطوري، فإن المرجح هو أن تصرّ الولاياتالمتحدة على المضي في طريقها الخاص حتى إشعار آخر. * كاتب وصحافي مصري.