تصر الولاياتالمتحدة - رغم كل التحديات - على أن تنفذ في العراق أهدافها وبرنامجها الخاص، حتى لو عارضها المجتمع الدولي كله. بل إن واشنطن حاولت أن ترغم المجتمع الدولي على مساندتها، وأن تطوع القانون الدولي لخدمتها، وأن تحول الأممالمتحدة عن الهدف أو الأساس لنشأتها، وهو حفظ السلم والأمن الدوليين. فبدلاً من أن تساند العراق الضحية، تريد الولاياتالمتحدة من المنظمة الدولية أن تساندها، فتقرّ لها بشرعية استخدام القوة من طرف واحد لأسباب تراها واشنطن وحدها مشروعة وسائغة. وتريدها ايضاً أن تبارك احتلالها للعراق ونهب ثرواته وإذلال سكانه وتحويله إلى مجتمع منزوع من أصوله وساحة سهلة لإسرائيل. وتريد أن تعترف الأممالمتحدة والعالم العربي بأن "مجلس الحكم الإنتقالي" في العراق هيئة مشروعة، بل لها الحق في أن تشكل مجلساً للوزراء، وأن يمثل وزير الخارجية الجديد الكردي هوشيار زيباري العراق في اجتماعات الجامعة العربية. وبذلت الولاياتالمتحدة من الضغوط والتهديدات والإغراءات ما أربك الساحة العربية، حتى إن الأمين العام للجامعة العربية السيد عمرو موسى اتخذ مواقف متناقضة، بدأ أولاً برفض لقاء ممثلي المجلس رسمياً وسمح بلقائهم فرادى بأشخاصهم، فردّ وفد المجلس برئاسة ابراهيم الجعفري برفض لقاء الأمين العام ما اضطره إلى لقاء المجلس. ثم أدلى موسى بتصريحات مؤداها أن الإعتراف لا يرد إلا بالنسبة الى الدول والحكومات وليس بالنسبة لهيئات كمجلس الحكم الإنتقالي، وهو ما يخالف النظرية العامة للاعتراف وما جرى عليه سلوك الدول. وعلى العكس تماماً بادر الأمين الالعام فور تشكيل الحكومة من جانب المجلس الذي رفض الاعتراف به إلى الاعتراف بها والترحيب بمقدمها، رغم أن المجلس هو المرجعية للحكومة، والحاكم المدني الأميركي بول بريمر هو المرجع الأعلى لكل من المجلس والحكومة. من ناحية أخرى، تعتقد الولاياتالمتحدة أن مجلس الأمن بقراره الرقم 1483 في 22/5/2003 أقر شرعية الاحتلال، وهذا غير صحيح، لأن المجلس لا يملك أن يسبغ شرعية على عمل باطل بطلاناً مطلقاً، ولو فعل لوقع قراره باطلاً لمخالفته لقاعدة آمرة في القانون الدولي، وهي حظر اكتساب أراضي الغير بالقوة، وهي القاعدة التي أكدها في ديباجته قرار مجلس الأمن رقم 242 في 22/11/1967 بشأن نتائج العدوان الإسرائيلي على الاراضي العربية العام 1967. وتعتقد الولاياتالمتحدة، خطأ أيضاً، أن مجلس الأمن عندما أصدر قراره الرقم 1500 في أواخر آب أغسطس 2003 الذي "رحب" فيه بمجلس الحكم العراقي، قد اعترف بالمجلس، وهذا الترحيب لا يعدو أن يكون اعترافاً بأمر واقع بدلاً من إغفاله واعتباره عدماً، وهو الاعتراف الواقعي de Facto المعروف في النظرية والعمل الدوليين. ولما كانت الولاياتالمتحدة بدأت أولى محطات مخططها في تمزيق العراق، فإنها تريد هدوءاً وقبولاً لوجودها العسكري يمكنها من استغلال النفط العراقي في إعمار العراق وتوزيع المنافع على أصدقائها، وفي مجاملات واسعة لمن تفهموا مواقفها، وكذلك تحصيل نفقات الحرب وكلفة الوجود العسكري وتعويضات المضارين من أفراد قواتها المسلحة وغيرهم، فإن المقاومة العراقية ظهرت وتطورت وشكلت أكبر تحد تواجهه واشنطن خاصة مع بدء المعركة الإنتخابية الرئاسية، إذ تتكبد قواتها خسائر في الأرواح والمعدات وتعرقل برنامج إستغلال النفط، في الوقت الذي حاصر الفشل تلك القوات حتى في أبسط واجباتها، وهو تأمين الشارع العراقي وضمان استمرار عمل المرافق. يضاف إلى ذلك أن الفتنة التي خلفتها واشنطن في صفوف الشيعة في ضوء نظرتها الخاطئة في التعامل مع هذه القوة الجديدة الكبيرة في العراق وامتداداتها السياسية في لبنان وإيران، وهي إحدى حلقات الوصل بين مأساة العراق ومأساة فلسطين، توشك أن تخلق جديداً خطيراً، وهو إنشاء ميلشيات شيعية بخلاف "لواء بدر" الذي لم يشترك حتى الآن في عمليات معينة، جنباً إلى جنب مع سعيها الى إنشاء جيش عراقي يتعاون مع الاحتلال لحفظ الأمن ضد المجرمين وضد المقاومة. ثم أضفت الولاياتالمتحدة بعداً جديداً على الجانب الأمني في العراق عندما أعلن المسؤولون الأميركيون أن الساحة العراقية أصبحت ساحة مواجهة مع "العناصر الإرهابية" التي تصنفها واشنطن إلى أربع طوائف، وهي بقايا نظام صدام، والميلشيات المرتبطة به، وعناصر تنظيم "القاعدة"، وعناصر إيرانية، ومن تسميهم بالمتسللين العرب من الدول المجاورة خصوصاً من الحدود السورية العراقية. إزاء كل ذلك سعت واشنطن إلى إشراك الأصدقاء معها بقوات تساند قوات الاحتلال ضد هذه الفئات الأربع، ولما فشلت المحاولة، لجأت أميركا إلى مجلس الأمن لتشكيل قوات متعددة الجنسية تعمل إلى جانب قوات الاحتلال لحفظ السلام ضد مثيري الشغب والفتنة حتى تتهيأ الظروف للإدارة الأميركية في العراق لتنفيذ أهدافها. ولكن الدول الكبرى، وكذلك الأمين العام أدركوا ما في هذا الإقتراح من خلط للأوراق، فلم يؤيدوا المسعى الأميركي، وكان البديل الجاهز لدى واشنطن هو تشكيل مجلس الحكم الإنتقالي العراقي، ودفع مجلس الأمن والعالم العربي وبقية دول العالم إلى الإعتراف به حتى يمكنه أن يتصرف بوجه عراقي، ولكن بتوجيه أميركي، فيسهل دعوة هذا المجلس لمجلس الأمن لإرسال قوات حفظ السلام. ولكن مجلس الأمن إكتفى بالترحيب بالمجلس العراقي، كما لم يتحمس معظم دول العالم للإعتراف بالمجلس، فسارعت واشنطن إلى تشكيل حكومة عراقية ليس لها رئيس وزراء تتلقى تعليماتها من مجلس الحكم، حتى تدفع العالم إلى قبول الحكومة الجديدة والالتفاف على الاعتراض الأساسي، وهو أنه لا يمكن الاعتراف بحكومة عميلة شكلتها سلطات الاحتلال حتى لو آمنت واشنطن بمشروعية احتلالها وما تشكله من أجهزة بالمخالفة للتقاليد التاريخية في باب الاحتلال الحربي. ولم يفت واشنطن وهي تقدم المجلس الإنتقالي إلى مجلس الأمن أن تقدم تنازلاً في ما يلح المجتمع الدولي عليه، وهو حلول الأممالمتحدة بالكامل محل الاحتلال الأميركي، أو أن يكون لها دور يتسع تدريجياً على حساب سلطات الاحتلال، ولكنه تنازل محدود لا يؤثر على انفراد الأممالمتحدة بالقرار في العراق. ثم خطت واشنطن خطوة بالغة الجرأة في سياق هذا السباق المحموم في وقت يمر في غير مصلحتها، وهي محاولة استخلاص قرار من مجلس الامن يسمح بتحويل قوات الاحتلال الأميركية إلى قوة متعددة الجنسية توضع تحت قيادة موحدة يكون قائدها، طبعاً، أميركياً. وهذا هو جوهر الفكرة، ولكن تسويقها تطلب تقديم عناصر أخرى تشجع أعضاء المجلس على قبولها مثل دعوة مجلس الحكم إلى التعاون مع الأممالمتحدة ومع المسؤولين الأميركيين في بغداد للتوصل إلى جدول محدد لوضع دستور جديد وتنظيم انتخابات ديموقراطية، ومطالبة ممثلي الأممالمتحدة في العراق بتسهيل الحوار الوطني والتوصل إلى إجماع للإسراع بإجراء الإنتخابات. ثم حاول مشروع القرار الأميركي الإلتفاف مرة أخرى لانتزاع الاعتراف القانوني بمجلس الحكم العراقي - الجهاز الأساسي للإدارة الإنتقالية للعراق -، ودعم جهوده لتعبئة الشعب العراقي، وأخيراً يطالب المشروع دول المنطقة بمنع تسلل الإرهابيين وتسريب الأسلحة لهم ومنع تمويل الجماعات الإرهابية. غير أن ما يلفت النظر بخلاف محاولة استخلاص الاعتراف بالمجلس العراقي، هو تحويل قوة الاحتلال الأميركية إلى قوة متعددة الجنسية تحت قيادة موحدة، وتخضع لتوجيه الأممالمتحدة. هل معنى ذلك أن قوة الاحتلال ستدمج في قوات لحفظ السلام لها قيادة يعينها مجلس الأمن ويقرر المجلس سياسات وأنشطة وأهداف القوة المتعددة الجنسية، أي إنهاء الاحتلال الأميركي للعراق وتسليم العراق للمنظمة الدولية، أم أن القوة الأميركية هذا الموقف قد يستدعي إلى الذاكرة الحرب الكورية العام 1950، عندما تمكنت الولاياتالمتحدة من انتهاز فرصة خروج المندوب السوفياتي من جلسة مجلس الأمن احتجاجاًُ على عدم مناقشة مسألة تمثيل الصين الشعبية في الأممالمتحدة، واستصدرت قرارين من المجلس بتشكيل قوات دولية، هي في الواقع خمس عشرة دولة حليفة للولايات المتحدة كانت تشارك القوات الأميركية ضد العدوان الكوري الشمالي على كوريا الجنوبية عند خط عرض 37 درجة. وانعقد لواء قيادة هذه القوات من الولاياتالمتحدة، وأصبحت تعمل تحت علم الأممالمتحدة، ولكنها في الواقع قوات غربية تواجه الغزو الكوري الشمالي الذي كان يعد من المواقع الأسيوية المبكرة للمواجهة العسكرية بين العملاقين السوفياتي والأميركي في إطار الحرب الباردة. وقد انقسم الفقه الدولي حول اعتبار هذه القوات السابقة الاولى للتصدي للمعتدي في إطار المادة 39 من الميثاق، خصوصاً أن المجلس قرر أن هذا العدوان يعد تهديداً للسلم والأمن الدوليين غير أن أغلب الفقه الدولي، بما في ذلك موقفنا في دراستنا في هذا الشأن لا تعتبر أن هذه القوات تدخل في إطار أعمال القمع العسكرية التي يقررها مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة، رغم أن مجلس الأمن قام بتغطية الموضوع من الناحية القانونية، وذلك على تفصيل قدمناه، لا أظن أن هذا مجاله أو ساحته. ثم ان هناك فارقاً كبيراً بين الحالتين الكورية والعراقية. ففي كوريا كانت الولاياتالمتحدة تحتل كوريا الجنوبية في إطار التوزيع الإقليمي للقوى العسكرية المتحالفة والتي حاربت جنباً إلى جنب ضد دول المحور، وكان تصدي واشنطن وحلفائها لزحف كوريا الشمالية، هو محاولة لمنع توسيع دائرة الإنتشار الشيوعي فيما عرف بعد ذلك بمذهب الاحتواء أو الحصر، ولم تكن هناك علاقة بين الأممالمتحدة، وبين هذا الموقف، وهذا الصراع الأيديولوجي الذي حكمته قواعد الحرب الباردة خارج إطار ميثاق الأممالمتحدة. ولذلك كان خط عرض 37 هو خط فاصل بين الشرق والغرب، وليس فقط بين المعتدي والضحية، وهو فارق كبير بين الحلف الغربي وبين عمل القمع الجماعي في إطار الأممالمتحدة. أما في العراق، فالولاياتالمتحدة قوة احتلال، وهو احتلال بطبيعته غير مشروع. أما القوات الدولية التي تطالب الولاياتالمتحدة بأن تصبح قواتها المحتلة جزءاً منها على غرار القوات الأميركية في كوريا الجنوبية العام 1950، وعلى أساس أن الاحتلال سيغلفه إطار مشروع، وهو الغطاء الدولي، فإنها خيار لا يجوز لأنه يخلط بين أمر غير مشروع هو الاحتلال، وأمر مشروع هو قوات حفظ السلام التي لا تتوفر فيها الشروط اللازمة الآن ولا المهمات الواضحة لعملها، فضلاً عن أنها محاولة مكشوفة من الولاياتالمتحدة لكي تحكم العراق باسم المجتمع الدولي، وتوريط الأممالمتحدة في تقديم مسوغ لاستمرار الاحتلال والاستغلال لثروات العراق وشعبه واستغلال اسم الأممالمتحدة في كل الأعمال غير المشروعة من جانب الولاياتالمتحدة. لهذا السبب بالذات فإن توسيع دور الأممالمتحدة يجب ان يكون سياسياً على حساب سلطات الاحتلال وليس عسكرياً بحيث تحل الأممالمتحدة بالتدريج محل الولاياتالمتحدة، وهذا أمر قد يتحقق في المستقبل في ضوء المصاعب المتزايدة للوجود العسكري الأميركي في العراق. * كاتب مصري.