من واجب المخلصين أن يدقوا نواقيس الخطر ويحذروا من الجرح الجديد الذي سيفتح في الجسد العربي لينزف دماً وناراً ويضيف هموماً جديدة لا علاج لها ولا دواء. فعلى رغم كل هموم الأمة وأزماتها ومشاكلها، وكل الآلام والمصائب التي خلفها الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين العربية الطاهرة ولأراض عربية أخرى، فإن الواجب يدعونا للتحذير من مخاطر ما يجري في السودان، البلد العربي الأصيل، وما يهيأ له من شراك ومؤامرات ومخططات جهنمية. فكل الدلائل تشير إلى أن المحظور قد وقع فعلاً وحتى قبل الموعد المحدد للمؤامرة المقرر في التاسع من كانون الثاني (يناير) 2011، التي تم تسويقها وتغطيتها بعنوان جذاب ومثير وهو الاستفتاء الشعبي في الجنوب لتقرير المصير، بينما الحقيقة تتمثل في بدء العد العكسي فعلياً لإتمام عملية فصل الجنوب عن الشمال بعد سنوات من الحروب المفتعلة والأزمات المشتعلة والعمل الدؤوب لشحن النفوس وتعبئة الأحقاد وتسليح العصابات وتدريب الانفصاليين على حروب العصابات ودعمهم سياسياً وعسكرياً ومالياً. إنها مؤامرة كبرى، بل هي فصل من فصول التآمر على الأمة العربية بدأت منذ مطلع القرن المنصرم واستكملت بوعد بلفور ثم بدعم قيام دولة اسرائيل مروراً بالحروب والفتن والأزمات المفتعلة لتفتيت الأمة وتقسيمها. ومع مطلع القرن الحالي أخذت المؤامرة أبعاداً وقحة وسافرة جديدة بعد أن تم ضمان توقيع مصر على معاهدة السلام مع اسرائيل وزرع صواعق التفجير وبذور فتن الحرب الأهلية المستمرة في لبنان وتحييد الأردن إلى أن وصل الأمر إلى تقسيم المقسوم والمحتل أصلاً، أي تقسيم فلسطين الافتراضية إلى ضفة غربية محتلة وقطاع غزة محاصر ومعزول ومحكوم بحركة إسلامية تعادي السلطة الفلسطينية التي تملك شرعية دولية منقوصة ومحددة إن لم نقل منتهية الصلاحية. وجاءت الضربة القاصمة لظهر الأمة عندما نجحت الولاياتالمتحدة باحتلال العراق ومن ثم ضرب كل مقومات دولته وتفكيك مؤسساته من جيش وأمن وهيئات حكومية وأهلية وزرع بذور الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية بحيث بات يمكن الجزم بالنهاية الحتمية لما يسمى بالعراق وفتح الأبواب على مصاريعها لكل ما يمكن أن يتوقع المرء من حروب وفتن وأزمات وجراح لا تندمل وتستمر عقوداً وربما قروناً. ومن دون أن ننسى الصومال وما أدراك ما الصومال وما يشهده من أحداث جسام وحروب عبثية لا تنتهي، واليمن وما أدراك ما اليمن وما يخبأ له من مؤامرات وفتن. ولا بد من أن نعترف بأن أغلب المصائب والويلات قد شاركنا في صنعها أو بتحولنا كعرب إلى أدوات لتنفيذها وإضعاف كيان الأمة وتشجيع الأجنبي والصهيوني على تنفيذ أغراضه الخبيثة، وكأننا نتلذذ بالتآمر على أنفسنا وتعذيب شعوبنا في سادية قلّ نظيرها أو كأننا أدمنّا استعادة عورات التاريخ وعار سياسات ومواقف وخزي أمراء الطوائف في الأندلس أو حكام الولايات العربية المتناحرة إبان الحروب الصليبية. وهنا بيت القصيد في السودان بالذات، فلولا تآمر المتآمرين وتخاذل المتخاذلين وانقلابات الانقلابيين وجشع الحكام الحاليين لما حصل ما حصل ولبقي السودان واحداً موحداً وحراً ومستقلاً يفتخر بديموقراطيته العزيزة ويتغنى بمؤسساته الحضارية من قضاء وجامعات وأحزاب وتجمعات وهيئات سياسية وأهلية وإعلامية وينعم بثرواته الهائلة التي رشحته يوماً ليكون «سلة الغذاء العربي» كما تنبأت له بثروات معدنية هائلة في الجنوب بالذات وفيها النفط والذهب والمعادن واليورانيوم. فقد جاء النظام الحالي على ظهر دبابة ليحكم السودان بالحديد والنار ويرهب السودانيين ببيوت الأشباح ويفرغ البلاد من شبابها وخبراتها وأدمغتها وينهك البلاد بحروب ما أنزل بها من سلطان كانت آخرها حروب دارفور التي أفسحت المجال للدول الأجنبية للتدخل السافر في شؤون السودان وصولاً إلى تسليط سيف المحكمة الجنائية على رأس رئيسه عمر البشير. جاء النظام، أو بالأحرى الفوضى، قبل عشرين عاماً باسم ثورة الإنقاذ فإذا به يدمر البشر والحجر ويحرق الأخضر واليابس، وحمل راية الإسلام كوسيلة للهيمنة فأساء الى الإسلام ولم يطبق من الشريعة إلا القشور، فيما السودانيون يرزحون تحت وطأة الفقر والعذاب والخوف أو يعيشون هاجس رمي أولادهم في أتون الحروب التي لم تصمت مدافعها بعد. كان السودان، على رغم كل المآخذ والانتقادات، يعيش حياة ديموقراطية حقيقية ويتنفس أوكسجين الحرية بكل نعمها وامتيازاتها وضماناتها. كما خاض تجربة الأحزاب الكبرى والانتخابات الحرة وشهد فصولاً من تداول السلطة وتنافس المعارضة والموالاة. ولكن الرياح لم تجر بما يشتهي الشعب السوداني العريق والحضاري، بل جرت وفق ما يشتهي الانقلابيون في الداخل والمتآمرون في الخارج وتكالب هؤلاء على الإمعان في طعن السودان بسكاكين الغدر إلى أن وصل إلى ما وصل إليه وجر إلى منصة الإعدام تحت عنوان استفتاء تقرير المصير زوراً وبهتاناً. فالمؤامرة المستدامة منذ عقود عدة قامت من أجل تحقيق هدف واحد وهو فصل الجنوب عن الشمال وربما تقسيم السودان في حال تفاقم أزمة دارفور وظهور حركات مماثلة في الشرق ومناطق النوبة. وتعددت أسباب المطامع الأجنبية والموت واحد وأولها صهيونية لأن إسرائيل ساهمت في شكل سافر في المؤامرة منذ زمن بعيد ودربت وسلحت الانفصاليين ضمن خطتها الخبيثة لتفتيت الدول العربية والتي جاهر بها السيئ السمعة هنري كيسنجر بعد نصر حرب أكتوبر عندما هدد بالتفتيت والتقسيم للقضية وللأمة ولكل ما يمت اليها بصلة. واللاعبون كثر، منهم من تآمر لأسباب عدائية وهم جيران السودان ومنهم من شارك تنفيذاً لمطامعه وجشعه حيث ينعم السودان، وفي الجنوب بالذات، بثروات نفطية هائلة تم اكتشافها منذ زمن ثم طمرت آبارها بانتظار ساعة الصفر. وبدا ذلك واضحاً في «الحماسة» الدولية المنقطعة النظير للاستفتاء والغيرة الأميركية على الشعب السوداني والتي تمثلت في تهديد الحكومة بالويل والثبور إذا عرقلت الاستفتاء أو تلاعبت بنتائجه التي باتت محسومة سلفاً بحسب مزاعم شريك الحكم سيلفاكير الذي ما انفك يجزم بأن المجال الوحيد المتاح أمام الجنوبيين هو الانفصال ويهدد بالحرب في حال منح قبيلة المسيرية العربية حق التصويت في أبيي الغنية بالنفط مدعياً أن هذا الحق محصور فقط بقبائل الدينكا الأفريقية كأمر غير قابل للنقاش. أما النظام المتمثل في حزب المؤتمر الوطني فيحاول وضع شروط مضادة في وجه شريكه في الحكم الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يسيطر جيشها الشعبي على معظم أرجاء الجنوب. والمشهد يبدو مأسوياً والأجواء مكفهرة وملبدة بالغيوم السوداء التي تنذر بالشؤم لأن السودان يقف اليوم بين مصيرين لا ثالث لهما: الانفصال القاتل أو الحرب المدمرة وهذا يستدعي التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، محلياً بحشد كل القوى والأحزاب في هبّة قومية ووطنية لمنع التقسيم، وعربياً بالوقوف إلى جانب السودان ودعم وحدته ومحاولة مواجهة المؤامرة الكبرى ومنع استكمال المشهد المأسوي العربي المتمثل في انحسار الدور العربي لمصلحة القوى الإقليمية التي أصبحت صاحبة الأمر والنهي في المنطقة العربية تاريخاً وحضارة وأصلاً وفعلاً. إنه نداء أخير قبل أن يقع الفأس في الرأس، إن لم يكن قد وقع فعلاً لعلّ التحرك والعمل الجاد ينقذان ما يمكن إنقاذه ويمنعان حلول كارثة الانفصال ويوقفان نزيف شلال الدم العربي المسفوك على امتداد الأوطان. * كاتب عربي