ما زلت أذكر اليوم الأول الذي التقيت فيه بسيد قطب. كان ذلك في عام 1945 وكنت قد بدأت آنس لمجموعة من الشباب أبرزتها لجنة النشر للجامعيين التي أنشأها عبدالحميد جودة السحار 1913 - 1974 قبل ذلك بعامين وضمت أدباء كانوا إذ ذاك في بدايات الطريق منهم نجيب محفوظ عبدالعزيز وعلي أحمد باكثير 1910 - 1969 وعادل كامل أطال الله بقاءه، ولم تلبت الدائرة أن اتّسعت فضمّت محمد عبدالحليم عبدالله 1913 - 1970 وأمين يوسف غراب 1910 - 1974 ومحمود البدوي 1912 - 1986 وصلاح ذهني 1909 - 1953 وغيرهم. وهناك قابلت سيد قطب الذي كان قد سبق هؤلاء الشباب بأشواط في عالم الأدب، ولكنه لم ير بأساً من تشجيعهم، سواء بنشر مؤلفاته ضمن مطبوعات هذه اللجنة، أو بالكتابة النقدية عن آثار أعضائها. وقد خصّ هذه اللجنة بثلاثة كتب، هي "الأطياف الأربعة". وهو مجموعة من الأقاصيص انفرد بكتابة كل قصة منها آل قطب، وهم سيّد واخوته محمد وحميدة وأمينة، وكتاب "طفل من القرية" وهو ذكريات سيد قطب عن الحياة في قرية موشا في صعيد مصر حيث ولد ونشأ، وكتاب "العدالة الاجتماعية في الاسلام". ومع انني كنت بدوري في بدايات الطريق، فقد عاملني سيد قطب بحفاوة كريمة اختصرت الطريق الى صداقة وثيقة، وأهداني هذه الكتب، كما عرّفني بشقيقه محمد. وعندما هممت بالانصراف من مقر لجنة النشر للجامعيين، رافقني، ثم سألني عن وجهتي فقلت: الجيزة، في حين كانت وجهته ضاحية حلوان، فاتفقنا على أن نستقل نفس سيارة الأجرة بحيث نفترق في منطقة باب اللوق، فيركب هو القطار الذاهب الى حلوان، وأركب أنا مطية الكهرباء الترام المتجه الى الجيزة. وفي أثناء الطريق استوضحني عن دراستي وعملي ونشاطي، وشجعني على متابعة العمل الأدبي حتى لا يجور العمل الصحفي على الجانب الأدبي، وقال لي انه يُقتّر على نفسه في معيشته كي يستطيع شراء ما يحتاج إليه من كتب، ولو كان عليه أن يختار بين شراء جورب عوضاً عن جوربه المثقوب وبين شراء كتاب، لفضل شراء الكتاب. كان سيّد قطب وقتها على شُهرة أدبية عريضة باعتباره ناقد مجلة "الرسالة" لصاحبها أحمد حسن الزيات 1885 - 1968، وان كانت مقالاته تُنشر في عدد غير قليل من المجلات منها "صحيفة دار العلوم" و"المقتطف" و"الكاتب المصري" و"الكتاب" و"البلاغ الاسبوعي" و"مجلة وزارة الشؤون الاجتماعية" وغيرها. وعندما استقال يوسف شحاته من عمله في دار المعارف، واتخذ لنفسه دار نشر جديدة أطلق عليها اسم "العالم العربي"، رغب في اصدار مجلة شهرية تحمل اسم "العالم العربي"، فعهد الى سيد قطب في رياسة تحريرها. وقام سيد قطب بتوجيه رسّام المجلة لكي يصمم غلافها حاملاً رسماً لمسجد الى جوار كنيسة وكنيس، وقال لي وقتها ان هذا آية على التسامح الديني. وقد ظهر العدد الأول من هذه المجلة في شهر نيسان ابريل 1947، ورجاني أن أكتب للمجلة مقالاً اختار له عنوان "اللغة العربية تصارع" أسجّل فيه المراحل التي مرت بها اللغة العربية في مصر حتى صارت اللغة السائدة في المدارس على يدي وزير المعارف سعد زغلول باشا 1860 - 1927 وفي الحياة العامة على يدي عبدالحميد عبدالحق باشا وزير الشؤون الاجتماعية، وفي المحاكم على يدي المستشار الدكتور عبدالسلام ذهني بك. وعندما أعددت المقال، كان سيّد قطب قد اختلف مع صاحب المجلة وهجرها، فنشرته في مجلة "الرسالة" بنفس هذا العنوان المقترح في عدد 12 كانون الثاني/ يناير 1948 وأثبت على هامشه عبارة "لأردّ الفضل لصاحبه، أقرر ان صاحب فكرة هذا المقال هو الأستاذ الصديق سيد قطب". لم أزر سيد قطب في بيته في ضاحية حلوان - التي اختارها للاقامة فيها بسبب جوها الدافئ الجاف ولا سيما في فصل الشتاء بعدما أصيب بداء الصدر - إلا مرة واحدة في عام 1948 مستصحباً الشاعر نزار قباني 1923 - 1998 الذي رغب في اهداء ديوانه "طفولة نهد" الى ناقد "الرسالة"، ولكن كان من رأي سيد قطب، الذي أعرب لي عنه بعد ذلك، ان نزار قباني نقل الشعر الى المخادع، فتحرّج هو من إدارة أي مقال نقدي حوله ترفقاً به. وان كان سيد قطب لم يترفق بأستاذ الفلسفة الدكتور عبدالرحمن بدوي عندما أصدر ديواناً بعنوان "مرآة نفسي" فكتب عنه في عدد 3 حزيران يونيو 1946 من "الرسالة" قائلاً: "انه مدهش - مدهش ان ترتفع جرأته النادرة الى حد أن يواجه الناس بهذا الكلام، وينشر في ديوان، ثم لا يقدّمه إليهم في تواضع ويدع لهم أن يقبلوه أو يرفضوه، بل يطلع عليهم به في ادعاء عريض، ويقدمه إليهم باعلانات غريبة عن العبقرية والآفاق الجديدة التي لم تخطر لهم ببال! كل هذه الفهاهة في التفكير والتعبير، وكل هذه الركة في النظم والأداء، وكل هذه الأخطاء اللغوية، وكل هذه البراءة من الحساسية الموسيقية والذوق التعبيري، وكل هذا الإعياء حتى في النظم اللفظي... هذه عَمْلَة لا يجوز أن تمرّ، فهي استهتار يتجاوز حدود الجرأة، ولا بد أن يوضع حد لهذه المساخر بأية طريقة". وفي حالة نجيب محفوظ، أبدى سيد قطب خشيته الرحيمة على هذا الشاب القصاص الموهوب. فكتب يقول "لست أذكر متى سمعته يقول ونحن نتحدث عن رواية زقاق المدق انه أراد أن يُدخل قالباً معيناً في الرواية المصرية، قالب الرواية العرضية لا الطولية، وانه لهذا صاغ روايته في هذا القالب الجديد. القالب؟! هذا هو الخطر الأكبر يا صديقي نجيب. لست أفهم هذه الكلمة اللعينة. أفهم أن يتم العمل الفني أولاً، بلا قصد من صاحبه أن يضعه في قالب معيّن، ثم يأتي النقاد بعد ذلك فيقيسونه ويجمعون سماته، ثم يسلكونه في عداد القوالب الموجودة بالفعل، أو يسجلون أنه قالب جديد. إذا وضعت القالب أولاً، فإنك لا بد أن تخنق عملك ليكون وفق هذا القالب، وفي كل خطوة ستستيقظ لتقيس هذا العمل وترى ان كان قد خرج على القالب الموضوع. لا لا. حذار أيها الصديق المرجو. ان القالب لا قيمة له إلا في عالم التاريخ". وهكذا اختلفت معايير سيد قطب في تناول الآثار الأدبية. ففي حين أهمل ديوان نزار قباني إشفاقاً عليه، شن حملة ضارية على ديوان عبدالرحمن بدوي، واكتفى بتوجيه نصائح حول المنهج القصصي لنجيب محفوظ. كان سيد قطب منحازاً لعباس محمود العقاد 1889 - 1964 في عصر كان الأدباء فيه ينحازون اما الى طه حسين 1889 - 1973 أو الى مصطفى صادق الرافعي 1880 - 1937 أو الى العقاد، ولكن حماسته للعقاد لم تلبث أن فترت بعدما استيقن من أنه لم يعد تلميذاً في مدرسة أحد، لأنه كان قد استوى في الحياة الأدبية كشخصية ذات كيان مستقل تدين بالولاء لذاتها وليس لآخر. ولكنه كان يدرك أن آفاقه ستظل محدودة ما لم يخرج الى العالم العريض بعيداً عن قريته "موشا" وضاحيته حلوان. ولهذا رحّب بأن يوفد في بعثة دراسية مفتوحة - أي غير مقيدة بمنهاج محدد - الى الولاياتالمتحدة بين عامي 1949 و1950 كيما يتاح له أن يتعرّض للتيارات الثقافية والحياة الاجتماعية في الغرب. وكان القصد من هذه البعثة هو إعداد سيد قطب لكي يتولى مهام أكبر في وزارة المعارف التي كان يعمل في ادارتها الثقافية. ولكن الذين رتبوا له هذه البعثة اختاروا له أن يذهب الى سان فرنسيسكو، معقل الاضطهاد ضد الملونين في ذلك الوقت. وكانت جميع ملامح سيد قطب، بعينيه الجاحظتين وشفتيه الغليظتين وشعره الكث وقامته القصيرة وبشرته السمراء ترشحه للاضطهاد في المطاعم والمشارب ووسائل النقل وما اليها. فامتلأت رسائله الى أصدقائه - وأنا منهم - بالشكوى المرة من المعاملة غير الكريمة التي كان يلقاها في كل خطوة من خطواته في سان فرنسيسكو. ولهذا عوّل عند عودته الى القاهرة على أن يؤلف كتاباً عن انهيار الحضارة الغربية، نشر منه ثلاثة فصول في مجلة "الرسالة" بعنوان "أميركا التي رأيتها" في أعداد تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 1951 أبرز فيها مشاهد من الانحلال الخلقي والجفاف الروحي هناك. والى هذه الرحلة الأميركية يعزى الانقلاب الذي حدث بعد ذلك في حياة سيد قطب. وعندما كان في أميركا طلب مني أمرين، أولهما ان أقنع مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأميركية بالقاهرة بأن يتيح لسيد قطب عند عودته أن يلقي سلسلة من المحاضرات العامة في الجامعة عن سياسة مصر التعليمية، ولكن المدير تحرّج من قبول هذا العرض خشية أن يقال ان هذا المعهد الأجنبي يتبنّى انتقادات للسياسة التعليمية في مصر. أما الطلب الثاني فهو أن أوافيه في غربته بأخبار الحياة الأدبية والاجتماعية في مصر، لأنه كان منقطعاً تماماً عن هذه الأخبار. وكان معنى هذا ان أتحول الى "وكالة أنباء" - مثل رويتر! - فأوافيه بما يهمه من أخبار. وعوضاً عن أن أعكف على حصر هذه الأخبار، بعثت الى سيد قطب بمجلة تعنى بسباق الخيل اسمها "شيخ الصحافة" كان يصدرها صالح البهنساوي ت 1989 اسبوعياً لجمهور المراهنين في حلبات السباق في القاهرة والاسكندرية! وكان البهسناوي يُفرد الصفحتين الوسطيين من المجلة لنشر مئات من الأخبار المحلية الصغيرة التي ينقلها من الصحف والمجلات الأخرى، بحيث يستغني قارئها عن اقتناء عشرات من الصحف. وعندما تسلم سيد قطب أول عدد من هذه المجلة الخاصة بسباق الخيل، حسبني أمزح معه مزاحاً ثقيلاً، فلما فضّها وغاص في أخبار الصفحتين الوسطيين كتب إليّ يقول إن هذه المجلة هي مجلة المجلات الجامعة المانعة لكل ما يحتاج اليه المغترب في سحيقات كاليفورنيا. ولا بأس ان أذكر من قبيل الاستطراد أن صالح البهنساوي كان محرراً عتيقاً في جريدة "الأهرام"، وكانت قامته قامة طفل في العاشرة من عمره، ولهذا كان يسهل عليه أن يتسلل بين مواكب المسؤولين حتى قيل - ولو من قبيل الفكاهة - ان الملك فاروق كان إذا لمحه واقفاً بين رجال حاشيته، رفعه بيد واحدة الى أعلى وكأنه لعبة أطفال. وكان البهنساوي خفيف الدم، يحب النكتة ويقول عن نفسه انه منتشر أكثر من جريدة "الأهرام" التي يعمل فيها. كانت غربة سيد قطب في سان فرنسيسكو غربة قاسية على نفسه، أهاجت أشواقه الى مصر فعبّر عنها في قصيدة عنوانها "هتاف روح" جاء في ختامها: في النفس يا مصر شوق لخطرة في رُباك لضمّةٍ من ثراك لنفحةٍ من جواك لروضة من سماك لهاتفٍ من رؤاك لليلة فيك أخرى مع الرفاق هناك ظمآن تهتف روحي متى تراني أراك عاد سيد قطب من رحلته الأميركية الى وظيفته السابقة في الادارة الثقافية بوزارة المعارف، وزادت اهتماماته بالقضايا الاجتماعية والسياسية في حين قلّ اهتمامه بميدانه الأصيل وهو النقد الأدبي. ولأنه كان في مقالاته داعية إصلاح، فقد عرض عليه رجال الثورة - كما أخبرني ذلك بنفسه - أن يختار بين منصبين: إما منصب مدير الاذاعة أو منصب وزير المعارف. فاشترط عليهم أن تُطلق يده في تغيير مناهج الاذاعة فيلغي منها الأغاني والبرامج الهزلية والتمثيليات المسلية، وأن يعيد النظر في المناهج الدراسية بحيث تتحول المدارس الى ما يشبه كليات الشرطة. ولهذا عُدل عن إسناد أي من المنصبين إليه. ولم يلبث أن اصطدم مع رجال الثورة فكان في ذلك مصرعه في 26 آب اغسطس 1966. وكان سيد قطب قد استشعر شيئاً من الجحود من جانب كبار الأدباء الذين اهتم بآثارهم شاباً، فلما استقام عوده لم يبادلوه اهتماماً باهتمام، فلم يكتبوا عنه أو يشيدوا به. فكتب مقالاً في "الرسالة" عاتب فيه كبار الأدباء على اهمالهم شأنه بعدما صار يحك كتفه بأكتافهم، ولم يتعاطف معه إلا الدكتور أحمد أمين بك 1886 - 1954 محرر مجلة "الثقافة" الذي كتب مقالاً اعترف فيه لسيد قطب بجهده الذي لا ينكره أي جاحد. وعندما أزمع السفر الى أميركا، أقامت له رابطة خريجي دار العلوم حفل تكريم - كنت من شهوده - ألقى فيه الشاعر محمود حسن اسماعيل 1910 - 1977 قصيدة في تحيته، سقطت من ديوانه كمظهر آخر من مظاهر الجحود. ولد سيد قطب في قرية موشا من أعمال محافظة أسيوط في صعيد مصر في عام 1906، وفيها تلقى دروسه الأولية، ثم انتقل الى القاهرة لمتابعة دروسه الثانوية والالتحاق بكلية دار العلوم، وكانت ترن في أذنه وهو يودع أمّه قولها له "ان عليك أن تسترجع للأسرة ما فقدته من مركز ومال" إذ أن أباه بدد ثروة الأسرة فباع ما كان لديها من أراضٍ، وكثرت عليه الديون، فانعقد الأمل على سيد قطب في تعويض هذه الخسائر. وتخرج من كلية دار العلوم في عام 1933 واشتغل معلماً للغة العربية في المدارس الى أن انتقل الى الادارة الثقافية بوزارة المعارف. وعاش عزباً، ولكن "رهبنة الفكر" كانت تُخفي وراءها "أحلاماً قديمة" عبهر عنها في احدى قصائده بقوله: طاف بي مستطلعاً حلمي القديم فتطلعت إليه في وجوم قلت: مَنْ أنت؟ فأغضى خجلا قال: حلمك في العهد الوسيم ومضى عنّي في يأسٍ عقيم سادر الخطوة في الأرض يهيم قلت: يا حلمي تمضي مفردا ليس في الرمس سوى قلبٍ رميم وعبّر عنها في قصيدة أخرى بقوله: تنشد السلوان من حب عقيم وتروم البُرء من داء قديم ها هو السلوان، فانظر، أترى شارة الموت على تلك الرسوم عمرك الفارغ كالثقل زهيد ليس فيه من طريفٍ أو تليد وهي الأيام تمضي مثلما تنقضي أيام مأجورٍ شريد تمّ يا منكودُ ما كنت تروم ومشى السلوان في الحب القديم ثم قرير العين واهنأ بالكرى الكرى الميّت في القلب العقيم. وواضح من عبارات "القلب الرحيم" و"الحب القديم" و"القلب العقيم" ان هناك قصة حب قديمة في حياة سيد قطب لم تأت الأيام على ذكراها، فاجترّها في عام 1945 وهو عام نظم هاتين القصيدتين. وفي المرحلة الأدبية من حياة سيد قطب أصدر الكتب التالية: ديوان "الشاطئ المجهول" و"كتب وشخصيات" و"طفل من القرية" و"الأطياف الأربعة" بالاشتراك مع أشقائه و"العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"التصوير الفني في القرآن" و"المدينة المسحورة" ورواية "أشواك" و"مشاهد القيامة في القرآن" و"النقد الأدبي: أصوله ومناهجه" و"مهمة الشاعر في الحياة" و"السلام العالمي والاسلام". وعندما لقي سيد قطب وجه ربه رثاه صديقه الشاعر محمود أبو الوفا 1901 - 1979 بقصيدة أثبتها في ديوانه المجموع بعنوان "سيد" قال فيها: يا سيداً كان عندي أعزّ من أصطفيه أخي، ومَنْ منك أَوْلَى بكل وصفٍ نزيه رجوتَ دُنيا وديناً فنلتَ ما ترتجيه. * كاتب مصري.