الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تخصيص القطاع العام في العراق وعلاقته بالاستثمار الأجنبي
نشر في الحياة يوم 13 - 11 - 2003

أدت الحروب المتتالية والحصار الدولي الشامل، الذي فرض على العراق قرابة 13 عاماً، والغزو الأميركي - البريطاني له واحتلاله بعد تدمير منشآته الزراعية والصناعية والخدمية وتخريب البنية الأساسية الى وصول اقتصاد العراق إلى وضع صعب جداً أدى إلى تراجع دخل أكثر من نصف سكان العراق 25 مليوناً تحت خط الفقر في بلد يملك إمكانات اقتصادية كبيرة. ووصلت معدلات البطالة في بغداد الى 65 في المئة وعدد العاطلين عن العمل في العراق الى 6.2 مليون عاطل وديون خارجية ضخمة جداً.
وما يزيد من أعباء الديون الخارجية ما اسفر عنه مؤتمر مدريد للدول المانحة لإعمار العراق، إذ تعهد المانحون تقديم ما لا يقل عن 33 بليون دولار مساعدات وقروض، في السنوات الأربع المقبلة. وتُقدر الأمم المتحدة والبنك الدولي كلفة الاعمار في هذه الفترة بنحو 56 بليون دولار.
ومن أصل المبالغ المعلنة، التي لا يميز فيها بين القروض والديون أو ما هو مرتبط بعقود خاصة، يجب خصم 20.3 بليون دولار رصدتها الولايات المتحدة. والمبلغ الباقي 12.7 بليون دولار يعود جزء منه إلى البنك الدولي 3 إلى 5 بلايين دولار وصندوق النقد الدولي 2.5 إلى 4.25 بليون دولار وهذه تكون في حال منحها من القروض المرفقة بشروط صارمة.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة، سيُعقد في الأسبوع الثالث من كانون الأول ديسمبر المقبل مؤتمرٌ دولي في العراق يتركز البحث فيه على قضية التخصيص لبيع 186 معملاً ومؤسسة من خلال تحويلها إلى القطاع الخاص في إطار ما يسمى بتخصيص المؤسسات العامة. كما أصدر الحاكم المدني الأميركي الأعلى في العراق بول بريمر مرسوما في 20 ايلول سبتمبر 2003 يتضمن برنامجاً للإصلاح الاقتصادي مع توجيهات لتخصيص القطاع العام في العراق.
وعملية التخصيص لها نتائج عرضية منها مشكلة البطالة وغيرها، كما أنها تتم من خلال محاولة مبادلة ديون العراق الكبيرة بأصول القطاع العام بضغط وتوجيه من البنك والصندوق الدوليين.
وتُعد مشكلة البطالة واحدة من أخطر المشاكل التي يواجهها العراق الآن إن لم تكن أخطرها على الاطلاق. ومنبع الخطورة هنا لا يكمن فحسب في أن ارتفاع عدد العاطلين عن العمل، أي الراغبين فيه والقادرين عليه والباحثين عنه من دون جدوى، يمثل إهداراً في عنصر العمل البشري مع ما ينجم عنه من خسائر اقتصادية، إنما ينبع أيضا من النتائج الاجتماعية الخطيرة التي ترافق حالة البطالة، خصوصاً بين الشباب، إذ تعد البطالة البيئة الخصبة والمواتية لنمو الجريمة والتطرف وأعمال العنف، وهي أمور برزت بشدة على السطح في العراق في الاعوام الأخيرة. أضف إلى ذلك، أنه لما كان العمل وما يناظره من أجر هو المصدر الرئيسي والوحيد للدخل في قطاعات واسعة من الشعب العراقي، فإن ارتفاع البطالة يعني إنعدام إمكان الحصول على الدخل، مع ما يترتب على ذلك من خفض في مستوى المعيشة ونمو عدد من يقعون تحت خط الفقر المطلق.
ان تحدي مشكلة البطالة أحد المقاييس المهمة لأي برنامج للإصلاح الاقتصادي، لا سيما ان عملية التخصيص ستتطلب تسريح قرابة 350 ألف عامل وموظف يعملون في مختلف المنشآت. ولا يجوز الاستهانة بهذه المشكلة، أو غض النظر عنها بالتذرع بأنها نتيجة ثانوية أو عارضة أو موقتة لهذا الإصلاح، أو أن العالم كله يعاني من مشكلة البطالة. ويشير الواقع إلى أن نمو البطالة في العراق على هذا النحو المتسارع في الاعوام الأخيرة، وإن كانت له جذور عميقة في الاقتصاد العراقي، إلا أنه تفاقم بعد الاحتلال وحل الجيش وقوات الأمن والشرطة والإعلام والثقافة وغيرها.
ومكافحة البطالة يجب أن تحتل مكان الصدارة في جدول أعمال السياسة الاقتصادية العراقية في الفترة المقبلة، خصوصاً انها قضية اجتماعية وسياسية وأمنية من الدرجة الأولى، والتراخي في التصدي لها ستكون له تداعيات خطيرة. ان مدى التقدم في علاج هذه المشكلة يجب أن يكون المقياس الأهم لمدى نجاح أو ملاءمة السياسة الاقتصادية.
ومن الخطورة ترك مهمة حل هذه المشكلة للاقتصاديين والتكنوقراط فقط خصوصاً أنهم يرون بان الحل ستتكفل به آليات السوق بعدما تبتعد الدولة عن التدخل في النشاط الاقتصادي.
وثبت أن مشكلة البطالة تفاقمت في الدول الرأسمالية الصناعية ذات الآليات الكفوءة للأسواق بالقدر الذي تراجعت فيه الدولة عن أهداف التوظف الكامل والاعتماد على الية السوق.
وبات من الواضح، أن لا مخرج من أزمة البطالة في مجموعة هذه الدول إلا بتبني سياسات شاملة تهدف إلى علاج هذه الأزمة بعدما باتت البطالة تهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في هذه الدول.
ان أهم أحد المخاطر التي تتعرض لها الدول النامية المدينة، ومن بينها العراق، هو خطر سيطرة الأجانب على مؤسسات القطاع العام مقابل مبادلة الديون الخارجية بأصول هذه المؤسسات.
وظهرت في الاعوام الأخيرة آلية، أوجدت علاقة بين عمليات التخصيص وبين تسوية هذه الديون. وهي العلاقة التي تسهل للأجانب سيطرتهم على تملك الأصول الانتاجية الوطنية ذات الملكية العامة عبر عملية شراء الديون واستخدامها في شراء هذه الأصول وهذا ما تم في كثير من الدول النامية. ويبدو أن العراق قد يتعرض الآن لضغوط شديدة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدائنين لقبول سياسة مبادلة الديون بملكية أصول القطاع العام إذ أن الرأسمالية المحلية قد تكون عاجزة، أو غير راغبة، في تملك هذه الأصول، وبالذات أصول المشاريع الصناعية الكبيرة.
فكرة مبادلة الديون
وظهرت فكرة المبادلة باعتبارها أحد اقتراحات الدائنين كمخرج لأزمة الديون الخارجية للدول النامية في أعقاب اندلاع أزمة الديون الدولية التي نشبت في خريف عام 1982 حينما توقفت المكسيك والبرازيل وتشيلي، وهذه من كبريات الدول المدينة في أميركا اللاتينية، عن دفع أعباء ديونها. وسارع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التسويات الدولية الى العمل لاحتواء الأزمة من خلال إعادة جدولة ديون هذه الدول ومنحها بعض القروض الميسرة لكي تتمكن، على الأقل، من دفع فوائد ديونها، والدخول في مفاوضات للاتفاق على برامج جديدة للتثبيت والتكيف الهيكلي. وتم تخفيف أثر الأزمة من خلال حزمة الانقاذ المالي التي قدمت الى هذه الدول.
وعندما هدأت الأزمة، بدأت المصارف التجارية، ذات النشاط الدولي، التي كانت منحت مقادير ضخمة من القروض للدول النامية من دون أن تراعي قواعد الاحتراس المالي ومن دون أن تأخذ في الاعتبار قدرة هذه الدول على الدفع، في مراجعة نفسها لمنع تكرار هذه الأزمة وتقليل درجة المخاطر التي تتعرض لها، بعدما تبين أن حجم القروض التي منحت لهذه الدول جاوز، في كثير من الحالات، رأس مال المصارف. ولجأت المصارف إلى وسائل عدة لهذا الغرض، منها زيادة رأس المال، وزيادة حجم الاحتياطات لمواجهة الديون المشكوك في تحصيلها، ووضع معايير شديدة الاحتراس للقروض الجديدة، واتباع سياسات انكماشية ائتمانية.
إن أهم ما بدا للمصارف التجارية الدولية النشاط، وهي تراجع نفسها، لكيفية استرداد ديونها وتخطيط سياسات جديدة تمكنها من تحجيم مخاطر ديونها التي أعطيت للدول النامية، هو اللجوء إلى طرح بيع صكوك الديون الخاصة ببعض الدول المدينة في سوق ثانوية للديون بأسعار خصم مغرية من القيمة الاسمية للصكوك. ومنذ ذلك الوقت نشأت آلية بيع هذه الديون من ناحية، وعمليات التخصيص من ناحية أخرى، إذ أصبحت القروض تقايض بملكية أصول القطاع العام.
إن الفكرة تتلخص في أن عملية مقايضة الدين بتملك أسهم أو أصول انتاجية لبعض مشاريع القطاع العام تبدأ حينما يرغب مصرف أجنبي يواجه صعوبات في استرداد دينه المستحق على بلد ما، ببيع الدين بسعر خصم مغر إلى مستثمر ما. ويقوم البنك بعرض هذا الدين للبيع في السوق الثانوية للديون وينتظر أن يأتي المشتري. وهنا يدخل أحد المستثمرين، فرداً كان أم مؤسسة مالية أو شركة، لكي يشتري هذا الدين، إذا ما توافر قبول البلد المدين الأصلي لمبدأ مبادلة ديونه بملكية بعض أصول القطاع العام. وحينما يحصل المصرف الدائن الأصلي على السعر يخرج عندئذ من الدائرة أو العلاقة ليصبح هذا المستثمر هو الدائن الجديد للدولة. ثم يتقدم هذا المستثمر للدولة المدينة ويطلب تحويل الدين، الذي اشتراه من المصرف، إلى عملة محلية بسعر خصم تحدده الحكومة، ثم يستخدم حصيلة ما توافر له بالعملة المحلية في شراء بعض المشاريع العامة المعروضة للبيع في البورصة داخل الدولة المدينة.
وبالنظر للمزايا الضخمة التي تتحقق للمستثمرين من خلال آلية شراء الديون، ثم تحويلها إلى عملة محلية للدولة المدينة وشراء أصول القطاع العام المعروضة للبيع، تسارع حجم هذه العمليات في الاعوام الأخيرة، خصوصاً في ضوء تردي أسعار الديون المباعة لطائفة كبيرة من الدول المدينة. صحيح أن هذه العمليات كانت قاصرة على بيع الديون المستحقة لمصادر خاصة المصارف التجارية ولهذا كان نطاقها محدوداً في بداية الثمانينيات، لكن اللافت للنظر الآن، هو أن الديون المستحقة لمصادر رسمية بدأت أيضا تعرض للبيع وتستخدم في شراء أصول القطاع العام. وهناك نمو ملحوظ ومتسارع في عمليات مبادلة الديون بأصول. وتزايدت هذه الحركة على نحو واضح بالنسبة الى الدول المدينة التي التزمت بتطبيق برامج للتثبيت والتكيف الهيكلي. واتاحت هذه البرامج، في ضوء ما وفرته من امتيازات وضمانات لرأس المال الأجنبي، لعدد كبير من المستثمرين أن يشتروا صكوك الديون بأسعار بخسة وأن يتمكنوا من تحويلها إلى مساهمات عينية في ملكية أصول القطاع العام. وزاد ضغط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على الدول النامية المدينة في هذا المجال بعدما حرصت المؤسستان على ادخال نقل ملكية المشاريع العامة للقطاع الخاص ضمن آليات وإجراءات برامج التثبيت والتكيف الهيكلي، وأصبحت من ضمن بنود خطاب النوايا.
ومن أهم الأدوات التي تستخدم الآن في سيطرة الأجانب على مشاريع القطاع العام هي صناديق الاستثمار، أو ما يسمى بالاستثمار عن طريق المحافظ المالية. وجوهر هذه الصناديق لا يخرج عن تكوين شركات مالية مثل صناديق الاستثمار القطرية.
هناك مخاطر كبيرة تنتظر العراق إذا قبلت الحكومة مبدأ مبادلة الديون بالأصول إذ أن تملك الأجانب للقطاع العام الذي تغطي نشاطاته الكثير من مجالات الحياة الاقتصادية سيجعل رأس المال الأجنبي يسيطر على مقدرات الدولة، إذ سيصبح للمستثمرين الأجانب مصالح حيوية داخل العراق.
إن عملية استبدال الدين الخارجي بأصول القطاع العام لن تؤدي إلى استثمار جديد، أي ايجاد طاقة إنتاجية جديدة. وستؤدي تلك العملية إلى تغيير شكل الملكية لأصول قائمة فعلاً، من ملكية وطنية عامة، إلى ملكية أجنبية.
وستؤدي ايضاً إلى زيادة رصيد ما يملكه الأجانب من مشاريع. كما أنه في ضوء حقوق الملكية التي ستترتب للأجانب على الأصول التي اشتروها، فإن هناك خطراً في أن يتصرف المالك الجديد ببيع هذه الأصول لطرف ثالث قد يكون معادياً للأمن القومي للعراق. كما أن أصول القطاع العام، التي ستباع من خلال صناديق الاستثمار الأجنبية، ستكون محلاً لعمليات البيع والشراء المستمرة، ومن ثم تكون عرضة للمضاربات المالية من قبل الأجانب.
كما أن هناك الأثر الذي سينجم عن مبادلة الديون بأصول القطاع العام على ميزان المدفوعات ومستقبل الديون الخارجية والاحتياطات الدولية. ذلك أن تحويل الدين الخارجي إلى ملكية أجنبية لأصول القطاع العام، ولو أنه سيخفف من العجز في ميزان المدفوعات في الأجل القصير، إلا أنه سيُفاقم من هذا العجز في الأجل المتوسط والطويل حينما يقوم المستثمرون الأجانب بتحويل أرباحهم ودخولهم إلى الخارج. وقد يكون حجم التحويل هنا أكبر من حجم مدفوعات الأقساط والفوائد على الديون المستبدلة.
وهنا يتعرض ميزان المدفوعات مرة أخرى لضغوط جديدة، تؤدي إلى زيادة الميل الى الاقتراض من الخارج.
ويتجلى التأثير السلبي لتملك الأجانب لمشاريع القطاع العام، بشكل واضح في حال المشاريع التي تعتمد على منتجات وسيطة مستوردة وفي الوقت نفسه لا تنتج من أجل التصدير، بل للسوق المحلية فقط، ففي هذه الحالة سيكون هذا التاثير مزدوجاً من خلال ما تستنزفه من موارد النقد الأجنبي المخصص لاستيراد مستلزماتها، وأيضا من خلال ما تحوله الى الخارج من أرباح ودخول.
ويحاول العراق، الآن شأنه في ذلك شأن الدول النامية، اجتذاب أكبر قدر ممكن من الاستثمارات الأجنبية. إن هذه الاستثمارات يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في مجال التنمية والتقدم، نظراً لما يأتي من خلالها من موارد تمويلية وتكنولوجيا متقدمة وإدارة عالية المستوى، وبذلك يمكن أن تسهم بشكل فعال في زيادة حجم الناتج والدخل والتوظيف. وقد تزايد هذا السباق وزاد انتشار هذا الاعتقاد بعدما بات واضحاً، ابتداء من عقد الثمانينات، أن سد فجوة الموارد المحلية أصبح يعتمد على مدى القدرة على اجتذاب الموارد الخاصة. ومنذ اندلاع أزمة الديون العالمية بدأ صندوقُ النقد والبنكُ الدوليان يروجان لفكرة أساسية، فحواها، أن ما تحتاج إليه الدول النامية ليس ذلك القدر الكبير من الأموال العامة، كالمنح والقروض المقدمة من جهات رسمية، بل تحتاج إلى الأموال الخاصة، وأنه لكي تحصل هذه الدول على هذا النوع من الأموال يتعين عليها أن تؤمن البيئة المناسبة والتغيرات الهيكلية التي تحفز مجيء هذه الأموال إلى هذه الدول خصوصاً أن الدول الصناعية المتقدمة تتنافس مع البلاد النامية في جذبها لهذه الأموال.
وعلى رغم ان قدرة كل دولة في جذبها للاستثمارات الأجنبية الخاصة تتحدد عموما في ضوء عرض هذه الاستثمارات وظروف الطلب عليها، إلا أن هناك شروطا موضوعية عامة وذاتية تلعب دوراً مهماً في تحديد هذه القدرة. وتتمثل الشروط الموضوعية العامة في وجوب الاستقرار السياسي والأمني، وتمتع البلد بدرجة كافية من الاستقرار النقدي واستقرار سعر صرف العملة ووجود قدر ملائم ومعقول من الاحتياطات الدولية وحرية تحويل الأرباح، فضلا عن المزايا والحوافز التي يقدمها لرؤوس الأموال الأجنبية. وتتفاوت العوامل الداخلية الذاتية، التي تجذب هذه الاستثمارات، من بلد الى آخر. بعض هذه الدول يكون مغريا لتلك الاستثمارات بسبب ما يتمتع به من سوق واسعة، حيث يكثر عدد السكان وتتزايد القوى الشرائية. ومن أمثلة ذلك حال الصين والهند وفيتنام واندونيسيا مصر وتايلند وماليزيا. وقد تكون جاذبية الدولة للاستثمار الأجنبي كامنة في قربها الجغرافي من الأسواق الواسعة المجاورة، ما يجعلها مؤهلة لأن تكون مركزا للاستثمارات المنتجة للتصدير. وهناك دول تكون مغرية لرؤوس الأموال الأجنبية نظراً لما يوجد فيها من مصادر غنية للمواد الخام كالنفط والغاز والمعادن الزراعية كما في حال العراق، وهناك بلاد يكمن إغراؤها للاستثمارات الأجنبية بما تتمتع به من انخفاض واضح في تكاليف الإنتاج، مثل انخفاض أجور عنصر العمل وكلفة الطاقة وأسعار الأراضي.
الاساس
تشمل الاستثمارات الأجنبية التي تتدفق إلى الدول النامية، أربعة أنواع أساسية هي:
1- الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تمثل عمليات تحويل الدين الخارجي وهي تبدأ بشراء المستثمر الأجنبي لبعض صكوك الديون الخارجية التي تباع في الأسواق الثانوية العالمية للديون بسعر خصم يصل إلى 50 في المئة من القيمة الأسمية للدين، ثم يقوم بعد ذلك بتحويل هذا الصك إلى العملة المحلية بسعر الصرف السائد بعدما يتحمل سعر الخصم، على أن يقوم بعد ذلك بشراء بعض مشاريع القطاع العام المعروضة للبيع. وهذه أخطر أنواع الاستثمارات الأجنبية، لأنه لم يتمخض عنها أية زيادة في الطاقات الإنتاجية ولأنها مكنت الأجانب أن يشتروا أصول القطاع العام بنحو نصف قيمته. اضف إلى ذلك، أنه خلال هذه العملية يتم تحويل الدين المالي الموقت، الذي كان سينتهي بدفع آخر قسط، إلى دين مؤبد.
والعراق ليس بحاجة الى هذا النوع من الاستثمارات بل ان دواعي الرشد الاقتصادي والمحافظة على وطنية الثروة الاقتصادية، تتطلب عدم التعامل مع تلك الاستثمارات.
2- الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تنشأ عن طريق عمليات التخصيص إذ يمكن للمستثمر الأجنبي أن يتملك أصول القطاع العام المعروضة للبيع إما عن طريق المزاد العلني أو عن طريق الشراء من البورصة.
وعلى رغم أن ذلك يمثل من وجهة نظر المستثمر الأجنبي استثماراً، إلا أنه من وجهة النظر الوطنية لا يمثل أي استثمار، إذ لم تسفر العملية عن أية زيادة في الطاقات الانتاجية. ولا تعدو العملية أن تكون مجرد تغيير في شكل الملكية لصالح الأجنبي، مع ما يترتب على ذلك من التزامات مستقبلية وآثار سلبية. والعراق ليس بحاجة إلى هذا النوع من الاستثمارات الأجنبية نظراً لآثاره في الوقت الحاضر على البطالة.
3- أما النوع الثالث فهو الاستثمار غير المباشر الاستثمار في المحافظ المالية ويتخذ شكل صناديق الاستثمار القطرية، وهي عبارة عن شركات مالية مهمتها حشد مدخرات المستثمرين وتوجيهها للاستثمار في أوراق مالية مختارة. ولا تقوم هذه الشركات بالاستثمار في طاقات إنتاجية جديدة. وقد تزايد نشاط هذا النوع من الشركات في الدول النامية، خصوصاً تلك الدول التي توجد فيها أسواق مالية متسارعة النمو وتتداول فيها أسهم شركات القطاع العام. وتم امتلاك شركات القطاع العام في كثير من الدول النامية عن طريق نشاط هذه الشركات. كما ان تحركات هذا النوع من الاستثمارات تحكمه في الغالب التقلبات التي تحدث في أسعار الفائدة وأسعار الصرف في الأسواق الدولية. ولهذا لا يمكن التعويل عليها كثيرا لأنها خاضعة لعوامل يصعب التحكم فيها. كما أن خطورة هذا النوع من الاستثمار تتمثل في ما تخلقه من مضاربات في الأسواق المالية المستضيفة لها. كما أن الحركات الفجائية لدخولها وخروجها كثيراً ما تسبب حالات من عدم الاستقرار المالي والنقدي ما حدث في المكسيك ودول جنوب شرقي آسيا لهذا يمكن دعوة القائمين على إدارة الاقتصاد العراقي في الوقت الحاضر للحذر والحيطة عند استقبال هذا النوع من الاستثمارات الأجنبية.
4- يتمثل النوع الرابع من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، في إقامة المصانع والمؤسسات الجديدة التي تمثل إضافة حقيقية لطاقات الدولة الانتاجية، ومن ثم يكون لها تأثير إيجابي في زيادة الناتج والدخل والتوظف في الدولة المستضيفة، سواء تم ذلك في مجال الصناعات التحويلية أو في المجال الزراعي أو الخدمي. وهذا هو أهم أنواع الاستثمارات التي يحتاجها العراق في الفترة المقبلة وينبغي التركيز عليه بشكل رئيسي. بيد أنه لكي تعظم الإفادة من هذا النوع من الاستثمارات الأجنبية ينبغي أن يكون هناك تصور مسبق عن أولويات المشاريع المهمة التي يحتاج إليها الاقتصاد العراقي وأن يكون هناك تناسب بين حجم المزايا والحوافز المعطاة لرأس المال الأجنبي وتنفيذه لهذه المشاريع.
ونظرا لأن إقامة هذا النوع من الاستثمارات سيكون غالبا على يد الشركات متعددة الجنسية، فإنه من المهم أن تكون هناك ضوابط وطنية تضمن الاستفادة العادلة للعراق من نشاط هذه الشركات.
وينبغي التأكيد، أن الموارد الأجنبية أياً كان نوعها ومصدرها، لا يمكن أن تكون بديلاً، على رغم أهميتها، عن جهد الموارد الوطنية، وأن التنمية من الصعب أن تتحقق بفعل القوى الخارجية فقط. كما أن بيع القطاع العام، هو أمر من اختصاص السلطة التي ينتخبها العراقيون، كما أن عملية التخصيص ستتطلب تسريح عدد كبير من العمال والموظفين يعملون في مختلف المنشآت، كما تؤدي إلى تدفق أعداد كبيرة منهم إلى الساحة السياسية، وهو أمر لا يمكن للعراق أن يتحمله في ظل ظروف التدهور الاقتصادي والاجتماعي حاليا.
ان نسبة كبيرة من المبلغ الذي أقره مؤتمر مدريد للدول المانحة يشكل ديوناً وليس منحاً وتترتب عليها أعباء جديدة إضافية على كاهل الشعب العراقي إذ ستكلف هذه القروض العراق ثمناً غالياً في المرحلة الراهنة والمستقبلية. وهناك ضرورة لإعادة النظر بشكل جذري بجميع ديون العراق المتراكمة وتدقيقها والنظر في مشروعية بعضها والظروف التي فرضت فيها والعمل على شطبها.
لا بد من اتباع سياسة اقتصادية كلية رشيدة تركز بشكل أساسي على الجوانب الاجتماعية والإنسانية، ويجب عدم الشروع في بيع القطاع العام حتى يصدر الدستور الجديد ويتم انتخاب برلمان وحكومة جديدين للنظر في موضوع بيع القطاع العام لأنه من اختصاصهما حصرا.
* بروفسور في الاقتصاد القياسي ومستشار اقتصادي في جامعة الدول العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.