Mathew Gibney ed. Globalizing Rights. عولمة الحقوق. Oxford University press. 2003. 271 pages. إذا ما تذرعت مناهضة العولمة بتعدّيها على سيادة الدولة الأمة، فإنها لهذا السبب بالذات ينبغي ان تكون موضع احتفاء المدافعين عن كونية حقوق البشر والداعين الى تطبيق "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الصادر عن الأممالمتحدة على مستوى الكون كله. والحق ان ما من حائل كان أشد حيلولة، وإن على وجه صوري في بعض الأحيان، دون تطبيق نصوص الإعلان المذكور، من المواثيق الدولية الصادرة هي نفسها عن الأممالمتحدة، والتي تحظّر النيل من سيادة الدولة المستقلة. ومثل هذا التحظير، وبمعزل عن مدى إمتثال الدول إليه، سوّغ لبعض الدول الجائرة والقوية الفتك بمواطنيها، خاصة ابناء الأقليات من بينهم، والمعارضين لحكمها، أكانوا جماعات أم افراداً، ومن دون أن تعير العالم من حولها كبير اهتمام طالما أن ما تقترفه يقع في مدار نفوذها وسيادتها. ولا شك في أن مشكلة سياسة حقوق الإنسان إنما تجلت بسطوع عبر هذا التناقض الواضح في المواثيق الدولية. لكن مع إقبال عصر العولمة، خاصة من زاوية القدرة على تجاوز حدود الدول وصلاحياتها المحصورة بها بموجب سيادتها، أمسى من الممكن التخفف من التناقض المذكور وعولمة "ثقافة الحقوق" التي يحض الإعلان العالمي على الإلتزام بها. وبفضل وفرة وفورية الإتصالات الدولية وسبل التنقل، فضلاً عن شيوع المنظمات غير الحكومية، صار من الممكن الكشف عما تقترفه بعض النُظم ضد مواطنيها ورعاياها، وتعميمه بيسر وسرعة بما يتيح الفاعلية في تنظيم حملات دولية تُدين النُظم المعنية وتتضامن مع ضحاياها. على أن هناك من يدعو المحتفين بالعولمة، بإعتبارها السبيل الى عولمة الحقوق، الى التريث قليلاً والتفكير في حقيقة دوافعها وأغراضها. بل يمضي بعضهم، شأن ثلاثة من المساهمين في الكتاب، الى الزعم بأنه إذا ما كانت الدولة المتحصنة خلف سيادتها المنتهك الأبرز لحقوق الإنسان سابقاً، فالعولمة قد تكون المنتهك الجديد. ويتوقف الأمر، أولاً، على الزاوية التي ننظر من خلالها الى العولمة، وثانياً على طبيعة الحقوق المعرضة للإساءة. وعلى ما تجادل سوزان جورج، فإن حرمان البشر من الحقوق لا يقتصر على قمعهم وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم بسبب هوياتهم الدينية او ولاءاتهم السياسية، وإنما أيضاً حرمانهم من فرصة العيش الكريم تبعاً لما تنصّ عليه المادة 25 من الإعلان العالمي. والعولمة المعنية، من جهة أخرى، ليست محض عولمة تجارة وإقتصاد، ولا عولمة أفكار سياسية فقط، وإنما هي عولمة "الليبرالية الجديدة"، وهي السياسة الإقتصادية التي ازدهرت قبل عقدين في عديد الدول الغربية، خاصة اميركا وبريطانيا، بعدما تدهور مثال الإشتراكية الديموقراطية الذي ساد في العقود اللاحقة للحرب الثانية. وهذه السياسة التي تقول باقتصاد السوق الحرة حرية شبه تامة من تدخّل وتوجيه الدولة، عثرت على ميادين جديدة لها في أنحاء مختلفة من العالم بعد نهاية الحرب الباردة والتطوّر التقني الهائل الذي شهدته سُبل الإتصال والتنقل. وإنه لمن الغفلة، على ما تحذّر جورج، الظن بأن هذه العولمة ستعود بالفائدة على الجميع، مجتمعات الشمال ومجتمعات الجنوب، الأغنياء والفقراء. فليست سياسة العولمة معنية بتحسين أوضاع الجميع او حتى بخلق فرص عمل جديدة، على العكس من ذلك تماماً. بل ان صراعها مع الدولة ينشأ عن رفض سياسة الأخيرة الرامية إلى إعادة توزيع الثروة والضمان الإجتماعي. فسياسة السوق الحرة تمضي على أساس التنافس والسعي الدائم الى مزيد من الكسب والقليل من الإنفاق، وهي معنية بالنسبة "الأفضل" من الناس، أي الأغنى والأقوى، ومثل هذه النسبة لا تزيد، بحسب الأرقام التي توردها الكاتبة، عن 20 في المئة من سكان الأرض. ولئن عزت جورج انتهاك حقوق الإنسان في عصر العولمة إلى عولمة سياسة الليبرالية الجديدة من حيث أنها سياسة إقتصادية غرضها الرئيسي حماية وإثراء قلة من البشر على حساب الأكثرية، فإن فاندان شيفا، الباحثة الهندية المعنية بشؤون الأمن الغذائي، تمضي الى حد الزعم بأن عولمة سياسة التجارة الحرّة لا تمثل إنتهاكاً لحق الإنسان في التمتع بمستوى معاشي مشرّف فقط، وإنما تستبعد كافة الحقوق الإقتصادية - الإجتماعية من دائرة الحقوق المتواضع عليها، وأولها حق الحصول على القوت اليومي. فشركات إنتاج وتوزيع الغذاء لا تني تهدد سياسة الدولة للأمن الغذائي وحقوق الغذاء متذرعةً بأن هذه السياسة تعيق التجارة وتحدّ من الإنتاج. وقد أفلحت بعض الشركات العالمية بفرض شروطها على النظام الغذائي، بل ان خمسا منها فقط أمست تحتكر حق الإتجار بجملة المحصول الغذائي في العالم. وكان من عواقب احتكارها تدمير سُبل إنتاج الغذاء المحلية، فضلاً عن الحد من تنوع الأطعمة وأشكال الغذاء التي تعتمد عليها المجتمعات التقليدية. وإذا ما تجنبت جورج وشيفا حصر أمر انتهاك العولمة بسياسة دولة بعينها، فإن هناك من حرص على تحديد الدولة المسؤولة بالإسم. وهذا نعوم تشومسكي، وكما هو متوقع منه ومألوف، يُلقي بالمسؤولية على عاتق الولاياتالمتحدة. وعنده فإن العولمة لهي عولمة السياسة الخارجية الأميركية، وهذه إنما هي سياسة متصلة من الإساءة الى حقوق الإنسان، وفي أحسن الإحوال الإكتفاء بالتزام نسبي في تطبيق الحقوق التي ينصّ عليها الإعلان العالمي. فيكرر تشومسكي معزوفة كتبه السابقة، زاعماً بأن الولاياتالمتحدة، تبعاً لسجل ممارساتها في جنوب آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، هي في طليعة المسيئين الى الحقوق الإنسانية. وهي حينما لا تكون مسؤولة مسؤولية مباشرة، فإنها مسؤولة بالإتصال والشبهة والواسطة. فجرائم النُظم الفاشية في أميركا الوسطى، او النظام التركي أو إسرائيل، هي من مسؤولية أميركا طالما ان هذه النُظم والدول حليفاتها الظافرة بتأييدها ودعمها. وحيث أن الكاتب يعاني عقدة التثبيت تجاه ما تقترفه بلاده، فإنه لا يكتفي بالمبالغة والتهويل، محاولاً على الأرجح تبرير هذه العقدة، وإنما لا يتنبه الى التناقضات الفاضحة التي يقع فيها. فمرة يدين أميركا لتدخلها في البوسنة وكوسوفو، وبعد صفحات قليلة يدينها لتوانيها عن الإجهاز على نظام صدام بعد حرب الكويت هذا الكلام يعود الى ما قبل إطاحة نظام صدام، وهو ما يدينه تشومسكي ما دامت اميركا منفذته. ولئن برهنت مساهمة تشومسكي، إضافة الى مساهمتي جورج وشيفا، أمراً فأن مسألة حقوق الإنسان ليست محكومة بسياسة السيادة فقط، وإنما بسياسات الدول والشركات التجارية الكبرى وحركات المعارضة والانشقاق. بل أن تعريف حقوق الإنسان وتقديم بعضها على البعض الآخر لا يرتبط بمعيار قانوني متواضع عليه، وإنما بطبيعة السياسة التي تتبنى مسألة الحقوق هذه. وإنه لهذا السبب بالذات تبدو مساهمة الفيلسوف الأفرو-اميركي أنطوني أبيّه الأوفق في تقدير العلاقة بين حقوق الإنسان والعولمة بمعزل عن سياسة عولمة الحقوق أو سياسة مناهضة العولمة، أو الى ما هنالك من سياسات تتخذ من مسألة الحقوق ذريعة لتبرير نفسها. وعلى رغم أن مساهمة أبيّه لهي الأخفت راديكالية لفظية، إلا أنها غير مهادنة، ومتطلبة لإلتزام فكري لا يعرف الكلل. فأبيّه يرفض الظن بأن العولمة محاولة لفرض نظام من القيم والمعايير المتجانسة على كافة المجتمعات. وعنده فالعولمة بما هي اتصال بعوالم أخرى وارتحال منها وإليها، لهي عملية سارية منذ عشرات القرون. وهي لئن بدت اليوم أشدّ سرعة وشمولية، فإن هذا ما يبشّر بانتماء جلّ بني البشر الى مجتمع عالمي باعتبارهم مواطني العالم. غير أن أياً من المجتمع العالمي، والمواطنة العالمية، لا يشترط قيام دولة أو حكومة عالمية. فرسو هذا الانتماء العالمي يعني واجب إكتراث البشر ببعضهم البعض، وليس امتثال البعض لقيم البعض الآخر. وحيث أن العالمية التي يقول بها أبيّه لا تقبل بإنفصال المجتمعات وإنغلاقها على نفسها، فانها ترفض النسبية الثقافية أيضاً. فالكاتب إذ جادل في سبيل ضرب من العالمية الأخلاقية والسلمية، فانه يقرّ بوجود قيم إنسانية كونية، غير أن هذا الإقرار لا يعني المصادقة على سياسة التدخل الإنساني، او مهمة التمدين الكوني. فكونية القيم إنما تحض على الحوار والمحادثة وتقدير المواقف والتقاليد المتباينة وفقاً لما ترد عليه في أشكال التعبير المختلفة. ومن خلال هذا التعريف المبتكر للعالمية يفلح أبيّه في إدراج علاقة حقوق الإنسان بالعولمة في سياق مستقل عن السياسات التي ما ونت تحاصرها وتخضعها لفرضياتها. ولكن يبقى السؤال: ما هو المدى الفعلي لهذه العالمية؟ أهي مجالات المحادثة والحوار، كالحرم الأكاديمي، ومؤتمرات أساتذة الجامعات والمثقفين، والكتب التي لا تزيد مبيعاتها على بضعة مئات قليلة من النسخ؟ فهل هذا المدى من السعة حقاً بحيث يساهم في بلوغ التوافق حول مسألة حقوق الإنسان؟