في الثالث من كانون الثاني يناير الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش تمديد الولاياتالمتحدة للعقوبات الاقتصادية المفروضة على ليبيا لعام آخر. لكن، بعدها بسبعة أشهر ونيف، أعلنت بريطانيا - الوسيط الشرعي والوحيد - بين طرابلس الغرب وواشنطن، انها ستتقدم من مجلس الأمن في 18 آب أغسطس الجاري، بمشروع لطي ملف قضية لوكربي، تتعهد الجماهيرية الليبية بموجبه دفع تعويضات لأسر الضحايا تقدر ب7.2 بليون دولار. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ صرح وزير الخارجية البريطانية المنتدب، دينيس ماكشاين، ان ليبيا لبّت كل المطالب، لذا "نحن موافقون على رفع العقوبات من قِبل الأممالمتحدة". يبقى السؤال: ما هو المتغير الفعلي الذي دفع الإدارة الأميركية الى الإسراع بقبول إعلان هذا المخرج اليوم؟ وما هي حقيقة ما يُقال حول الصفقة المتكاملة التي ستُعطي مستقبلاً الأولوية للشركات الأميركية في القطاع النفطي ومتفرعاته؟ في هذا السياق، تفيد المعلومات المتداولة في أروقة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل منذ مطلع نيسان أبريل الماضي، ان البلدين المعنيين بالأزمة توصلا الى "اتفاق جنتلمان" يقضي بايجاد حل نهائي لهذه القضية. ففي الاجتماع الذي عُقد في العاصمة البريطانية قبل ذلك التاريخ بأيام بين أبو زيد دوردة، ممثل ليبيا لدى الأممالمتحدة، ومحمد زوي سفيرها في لندن، والمحامي المصري أحمد رفعت من جهة، وبين مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون المغرب والشرق الأوسط، ويليام بيرنز، من جهة أخرى، تم الاتفاق على كل التفاصيل المتعلقة، ليس بقضية لوكربي وحدها، بل بما يتوجب على النظام الليبي الاضطلاع به من خطوات ستُطلب منه لاحقاً وتباعاً في كل المجالات، في طليعتها الجوانب الاقتصادية بأشكالها كافة. في المقابل، تعهدت واشنطن، حسب قول الأوروبيين، بعدم ملاحقة أي من المسؤولين الليبيين بعد ذلك. علاقات لم تنقطع ومجالات واعدة عندما نقل إليه وزير خارجيته عبدالرحمن شلقم، قرار الرئيس الأميركي بتمديد العقوبات لسنة جديدة، لم يرفع العقيد معمر القذافي حاجبيه كالعادة علامة عن غضبه، بل ابتسم على طريقته المصطنعة من دون أن يعطيه أي تعليمات محددة في شأن التعليق على هذا الموقف. فالزعيم الليبي، الذي يستقبل منذ تشرين الأول اكتوبر 2002، وبسرية مطلقة، ممثلي الشركات النفطية الأميركية، يُدرك قبل غيره أين وصلت المفاوضات في الكواليس، كذلك ضرورة تجنب العودة الى المزايدات، والاثبات بأن النضج السياسي لديه ولدى جزء كبير من أركان نظامه بات من الثوابت، خصوصاً بعدما بدأ الأميركيون يحاولون إدارة مصالح شركاتهم في شكل مباشر، بعد أن كلفوا خلال سنوات الحظر كل من بلجيكا بالنسبة إلى النواحي القانونية، والكنديين ممن يحملون جوازات سفر قبرصية للتمويه، بتمثيلهم على الصعيد المهني واللوجستي. في هذا الإطار، من المهم الإشارة إلى أن الأميركيين الموجودين في ليبيا منذ فترة ليسوا فقط الشركاء القدامى الذين يتشكل منهم كونسورتيوم "الواحات"، والمؤلّف من الشركات النفطية التالية: "ماراثون"، "اميرادا هاس"، "كونوكو" و"أوكسي"، بل من مؤسسات أخرى تهتم، بالإضافة إلى قطاع الهيدروكربورات، بالبنيات التحتية وإعادة هيكلة الاقتصاد، تحديداً القطاع المصرفي والمالي، بالتعاون مع خبراء بريطانيين وسويسريين من زوريخ. ومن الأسباب الرئيسية التي دفعت الى التعجيل بطرح مشروع إنهاء قضية لوكربي على مجلس الأمن، ضغط الشركات النفطية التكساسية تحديداً، والتي تريد في هذا الظرف بالذات، خصوصاً بعد الاقتناع بأن النفط العراقي لن يتدفق بالسهولة المنشودة في الأمد القصير، استغلال حقول "الواحات" وفق الاتفاق الموقع عام 1986 والذي ينتهي مفعوله بنهاية 2003. إضافة الى كل ذلك، لا تنظر هذه الشركات الأميركية بعين الرضى الى مماطلة الإدارة الأميركية، في حين أن ليبيا وافقت على كل ما طُلب منها في شأن التعويضات، وتعاونت في شكل ملفت منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، عبر تقديم لوائح تضمنت اسماء المئات من المشتبه بارتباطهم بتنظيم "القاعدة" في منطقة المغرب العربي وأفريقيا، وبدأت الإعداد لدخول اقتصاد السوق، إضافة، وهو الأهم، الى تكليف أصدقاء أميركا في ليبيا، مثل الوزير الأول شكري غانم، وعبدالله سالم البدري وزير النفط السابق، الرجل الثاني اليوم في التراتبية البروتوكولية مركز مهم في محيط القذافي، وعبدالحفيظ الزليطني، المدير العام لشركة النفط الوطنية الليبية "نوك" في إدارة دفة الاقتصاد وتأمين العملية الانفتاحية، وأيضاً استبعاد الذين تُصنّفهم واشنطن في خانة المتشددين الذين دعموا الإرهاب في السابق. وذكرت هذه الشركات ان رسائل ليبية عدة وصلت الى الإدارة الأميركية والكونغرس في آن معاً في ظرف خمسة أشهر عبر "اتلانتيك كاونسيل"، المؤسسة صاحبة التأثير والنفوذ التي يرأسها شيستر كروكر، المساعد السابق لوزير الخارجية للشؤون الأفريقية، والتي تدعمها الشركات النفطية الأميركية بهدف تسويق "الزعامة الأميركية" للعالم. وتعمل هذه المؤسسة منذ فترة على إعداد استراتيجية لعودة الأميركيين تدريجاً الى ليبيا والسيطرة على القطاعات الواعدة فيها. وكانت "اتلانتيك كاونسيل" قد دعت في تقرير يحمل عنوان "العلاقات الليبية - الاميركية: حول ضمانات إعادة الالتزام"، حذف ليبيا من قائمة "الدول المارقة"، والأخذ في الاعتبار أهمية الاحتياطات النفطية المؤكّدة والبالغة 36 بليون برميل، علماً ان هذه الثروات لا تزال غير مُستغلة بما فيه الكفاية. وفي السياق نفسه، ذكر التقرير ان الحكومة الليبية تؤجل منذ أشهر عقد اتفاقات لاستيراد معدات نفطية حديثة، بانتظار رفع العقوبات عنها، للتوجه لأميركا. وينطبق هذا أيضاً على تجديد أسطولها الجوي. فبعد مفاوضات عدة مع شركة "إرباص" الاوروبية، وصلت الى حد اتخاذ القرار بشراء 24 طائرة، أبلغت ليبيا مفاوضيها الاوروبيين انها تريد المزيد من الوقت قبل اتخاذ القرار النهائي، ذلك لأن طرابلس الغرب تفضل "بوينغ"، مما يعني ان العقيد القذافي صاحب القرار الأول والأخير، حريص شخصياً على تقديم هدية كباكورة لعودة العلاقات بين البلدين من جهة، وعلى عدم اعطاء تراخيص جديدة للتنقيب في حقول واعدة للشركات الاوروبية العملاقة، مثل "توتال فينا الف" الفرنسية، و"ريسبول" الاسبانية و"او ام في" النمساوية و"أجيب" الايطالية الموجودة في ليبيا منذ عام 1959، والتي استفادت كلها من خروج الشركات الأميركية من الساحة بعد تطبيق الحظر على ليبيا. ولا تنوي الشركات الأميركية، حسب المعلومات المتوافرة، تفويت الفرصة هذه المرة، خصوصاً بعدما وضعت الحكومة الليبية خطة لتطوير القطاع النفطي، ورصدت له استثمارات مقدارها عشرة بلايين دولار سيذهب أكثر من ثلثيها لتحديث القدرات الاستكشافية والانتاجية، بينما يتركز المبلغ المتبقي في ميدان الصناعة البتروكيماوية الواعدة جداً، والتي تشكل اليوم مصدراً أساسياً للعائدات يتجاوز خمس بلايين دولار سنوياً، وإعادة بناء مصافي التكرير. باختصار، يُمكن القول ان الشركات بنت حججها على ضرورة استعادة الحقول الليبية من براثن الشركات الاوروبية قبل فوات الأوان، لأن في ليبيا 12 حقلاً كبيراً وحقلين متوسطي الحجم. لهذه الأسباب مجتمعة، يمكن فهم خلفيات طرح المشروع البريطاني قبل انتهاء فترة التمديد القانونية للعقوبات. تحولات مفروضة وتأقلم صعب في أحد اللقاءات الضيقة التي عقدها أخيراً مع قادة اللجان الثورية ومديري شركة "لافيكو" الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي، طلب العقيد معمر القذافي من رئيس الوزراء الجديد شكري غانم شرح أبعاد الشروط الاقتصادية التي فرضتها أميركا، كذلك ضيق هامش المناورة من الآن فصاعداً، خصوصاً بعد احتلال العراق واستعداد الولاياتالمتحدة لتعميم تجربتها هذه على غالبية الدول النفطية في العالم الثالث، حتى لو اختلفت الأساليب في التنفيذ. وفي مداخلته، أوضح هذا الأخير ان ما حققته ليبيا في العامين الماضيين من انفتاح اقتصادي ومالي، سواء عبر توحيد سعر صرف الدينار أو لجهة محاولات القضاء على ما يُسمى بالسوق الموازية أي السوق السوداء، ليس كافياً بنظر الأميركيين لدخول اقتصاد السوق من بابه الواسع. ذلك على رغم النتائج الايجابية نسبياً على صعيد ميزان المدفوعات أو تحرير حركة النقد الأجنبي. وأبلغ غانم محاوريه المتشددين انه من غير الممكن بعد إتمام الصفقة مع اميركا، الاستمرار بتقديم بيانات غير شفافة تتعلق بمداخيل النفط، والاكتفاء بإعطاء أرقام تقريبية غير مُقنعة، كالإشارة الى ان هذه العائدات لا تتجاوز ال13 بليون دولار أو ان احتياطات النقد هي في حدود ال7 بلايين دولار، علماً انها أكثر من ذلك بكثير. وأضاف انه لم يعد بالامكان بعد الآن التلاعب بأرقام الموازنة أيضاً ولا الحديث في كل المناسبات عن رصد مبلغ 35 الى 40 بليون دولار للمشاريع التي تنتظر الشركات الغربية إذا ما دعمت موقف ليبيا في المحافل الدولية وعملت على رفع الحظر النهائي عنها. على رغم الرهانات المستعجلة التي بدأت تتحدث عن عودة سريعة للشركات الأميركية، بمعنى آخر للوجود الاستثماري والمالي والتجاري الأميركي، إلا ان الواقع على الأرض لا يؤكد حتى الآن ذلك، فأوساط المال والأعمال الأميركية لن تدخل بقوة قبل الانتهاء من عمليات الاستكشاف التي ستشمل كل شيء، بدءاً من القوانين الاستثمارية، مروراً بتحديث القطاع المصرفي والمالي، والتأكد من تحرير التجارة وعدم تدخل اللجان الشعبية والثورية فيها حتى ولو أعلنت الحكومة رسمياً عن ذلك. لن يكون هناك تغيير فوري في هذه المرحلة على الأقل، أي حتى منتصف 2004، حسب خبراء بروكسيل، قبل أن تعيد ليبيا صوغ سياساتها الاقتصادية وفق الشروط الأميركية، لأن الانفتاح المطلوب لن يكون على ما يبدو سهلاً، إذ ان انعكاساته على شريحة مهمة من المجتمع الليبي، المصنّفة بذات الدخل المحدود والمدعوم من الدولة، والمتعارف على تسميتها منذ فترة بالطبقة الوسطى للنظام الجماهيري الموظفون الحكوميون والمدرّسون ورجال الشرطة والعسكريون والمتفرغون في اللجان، ستكون قاسية. وبالتالي، يمكن ان تنشأ مقاومة سلبية للإجراءات يمكن ان تتّخذ أشكالاً مختلفة تصل الى حد المواجهات، وهو أمر لم يعتد عليه النظام الليبي. فالخطوات الخجولة التي اتخذها شكري غانم في العامين الماضيين، عندما كان وزيراً للاقتصاد، قد أفرزت تذمراً. لذا، فمن الصعب بمكان اليوم ان تلجأ الحكومة الى رفع سياسات الدعم بالنسبة للمواد الغذائية والطاقة والخدمات الخاصة بالتعليم والصحة تماشياً مع الاقتراحات التي قدّمها خبراء صندوق النقد الدولي، الذين زاروا الجماهيرية منذ أشهر ورفعوا تقريرهم الى المسؤولين عن الملف الليبي في الإدارة الاميركية. أما المشكلة الثانية التي ستواجهها الحكومة الليبية، فانها تتلخص بتنويع مصادر الانتاج، والتقليل من الاعتماد على النفط. فإذا كانت ليبيا قد حققت بعض التقدم في هذا المجال بفعل العقوبات الاقتصادية، عبر تطوير القطاع الزراعي وبعض الصناعات الخفيفة، إلا أن هذه المعضلة لا تزال قائمة. لكن المهمة الأكثر صعوبة، تكمن في نهاية المطاف بكيفية ازاحة القطاع العام بعدما أرسى قواعده ما يزيد على الثلاثين عاماً. فنظرية تحويله إلى قطاع "رأسمالي شعبي"، كما ذكر العقيد القذافي في خطابه الأخير، هي مسألة غير واقعية بحسب رأي الأميركيين. كما ان الشروع بعملية تخصيص بعض منشآته يحتاج بالضرورة الى توافر شروط تجمع بين الإرادة الاقتصادية والسياسية الحقيقية والقانونية والاخلاقية. في هذا السياق، يؤكد أحد خبراء البنك الدولي انه "لا يكفي أن يجزم سيف الإسلام القذافي في أحد مقالاته الصحافية بأن القرار بالانتاج الاقتصادي بات محسوماً، ودخول اقتصاد السوق قرار لا رجعة فيه، وإنشاء بورصة للأوراق المالية قريباً، كي تصبح هذه الأمور حقيقية، ويأتي المستثمرون من كل حدب وصوب للعمل في جمهورية الكتاب الأخضر". من جهة أخرى، إن الرهان على القطاع الخاص وقدرته على الحلول، ولو جزئياً، محل القطاع العام حالياً، هو الآخر غير واقعي. فالقطاع الخاص الليبي، على رغم نشاطه الملحوظ في السنوات الأخيرة، لم يرتق بعد إلى مصاف نظرائه في البلدان المجاورة. وأعني هنا دول المغرب العربي الأخرى. على أي حال، ان تحقيق معدلات في حدود 1.2 في المئة، وعدم وجود عجوزات في الموازنة وضعف الدَين العام وتوافر استثمارات خارجية بحدود 30 بليون دولار تقريباً، مع ثروات نفطية هائلة وواعدة لسنوات طوال، يمكن أن تفتح شهية المستثمرين الأميركيين، إذا ما توافرت الشروط الأخرى المطلوبة لدخول اقتصاد السوق. ف"صفقة لوكربي" اليوم ليست مجزأة، ولا يمكن أن تكون منفصلة عن مستقبل ليبيا الاقتصادي وحاجة الولاياتالمتحدة له. هذا ما سيبرز خلال الأشهر المقبلة، عندما ستستعيد مشاريع الشراكة الأميركية - المغاربية هجوميتها. وعودة ليبيا الى "الصف الأميركي"، وهي الدولة الغنية، ستكون من دون شك عاملاً داعماً للاستراتيجية الأميركية، ليس في منطقة شمال أفريقيا فحسب، بل في أفريقيا السوداء أيضاً. * اقتصادي لبناني.