تأخرت اجتماعات مؤتمر الشعب العام البرلمان الليبي نحواً من ستة شهور السنة الجارية لتهيئة الأجواء أمام تكليف الليبرالي شكري غانم مهام رئاسة الوزراء، المنوط بها قيادة عملية الانفتاح الاقتصادي التي حض العقيد القذافي على انتهاجها عشية هذا التعيين، ودعوته لإلغاء القطاع العام "لأنه لا يوجد من يفهمه" حسب قوله، كانت بمثابة الضوء الأخضر الذي أعطاه "القائد" للمؤتمرين لانتخاب أمين وزير الاقتصاد والتجارة في منصب رئيس الحكومة. يبقى السؤال: هل سينجح هذا الأخير بتنفيذ المهمة الموكولة إليه اليوم، وهو الذي لم يتمكن من ذلك طوال العامين الماضيين على رغم الدعم المعنوي الذي قُدم له من جهات عدة؟ من السابق لأوانه الإجابة على هذا التساؤل في ظل نظام سياسي واقتصادي معقد، تتداخل فيه السلطات بالامتيازات والثروة بالثورة، وفي حين تبقى القوانين المالية مبهمة، لها تفسيرات مختلفة، ومسألة الشفافية خاضعة لوجهات النظر المتباينة. إذا كان بعض المراقبين فوجئ بدعوة الزعيم الليبي الواضحة هذه المرة، لإلغاء القطاع العام، إلا أن المتتبعين للشأن الاقتصادي والمالي في هذا البلد الغالبية من خبراء شركات النفط ومصارف الأعمال الأوروبية لا يرون فيها شيئاً جديداً، فالقذافي نفسه سبق أن حرّض في مناسبات عدة في الأعوام الأخيرة، سواء عبر مداخلات في الجامعات، أبرزها في جامعة قار يونس، وأمام بعض المؤتمرات الشعبية الأساسية القاعدية، الطلاب والطالبات، كذلك الجيل الثاني من اللجان الثورية ضد المسؤولين الذين يديرون القطاع، الذي فشل بتلبية طموحات الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى "طفشوا" القطاع الخاص ورجالاته، الذين كان بإمكانهم تحديث الاقتصاد الليبي وتطويره بحيث يتماشى مع شروط العولمة الزاحفة، ويدخل تدريجاً في اقتصاد السوق. ولم يكتف الرقم واحد في النظام الجماهيري بتوجيه هذه الاشارات، بل هاجم المرتشين داخل النظام والمستفيدين من مواقعهم داخل السلطة الشعبية الذين شوهوا سمعة البلاد الاقتصادية، وأبعدوا عنها كل من حاول الاستثمار داخل القطاعات الواعدة فيها. كما دعا الفعاليات المالية الليبية في الخارج إلى العودة من دون تردد والاستثمار بكل حرية، معطياً الضمانات الكافية، بما فيها الشخصية من قبله. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل وعد بتحرير التجارة وانهاء التشاركيات والمنشآت الشعبية المؤسسات التي تحتكر الاستيراد بكل أشكاله، كذلك العملة الوطنية الجنيه، موحداً سعر صرفه، وفتح القطاع المصرفي أمام دخول مؤسسات أجنبية إليه، وتأسيس مصارف مختلطة، وحتى بورصة للأوراق المالية. كما ولمح أيضاً إلى إمكان فتح بعض الصناعات المرتبطة بقطاع الهيدروكربورات أمام الاستثمار الأجنبي. تأكيداً على هذه النيات والتوجهات الجديدة، أعلن القذافي في حينه اختيار عدد من الكفاءات لتطبيق هذه السياسة الانفتاحية، في طليعتها شكري غانم الذي احتل مناصب عدة في قطاع الاقتصاد وكان مندوباً لليبيا في منظمة "أوبك"، إضافة لقربه من نجله سيف الإسلام. هذا الأخير كان في الفترة عينها يقوم بزيارات مكوكية لعدد من العواصم في أوروبا لتلميع صورة النظام، ونسج علاقات مع دوائر القرار فيها، واقناع بعض الغرب بأن التحولات الانفتاحية السياسية والاقتصادية مقبلة لا محالة، وبأن الحكم خصص 35 بليون دولار في خطته الخمسية المقبلة لانجاز عدد من المشاريع التنموية. لذا، فإن تفهمه ومساعدته من شأنهما أن يُسرعا كل هذه الأمور مرة واحدة. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، لم يتردد التيار الليبرالي داخل السلطة في ليبيا في اللجوء إلى خدمات شركات إعلامية أوروبية متخصصة في كل من فرنسا وايطاليا تحديداً، لتحسين هذه الصورة، على رغم معارضة شديدة من قبل التيار الراديكالي، الذي رفض فكرة الانفتاح من أساسها وعمل طوال الوقت على عرقلتها واضعاً العصي بنجاح في دواليبها، ما أدى إلى افشال عدد من الخطوات التي انتهجها شكري غانم بمساندة من تيار فاعل داخل شركة "لافيكو" الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي، الذراع المالية للنظام التي تتجاوز استثماراتها في العالم ال30 بليون دولار، حسب مديرها العام السابق محمد لحويج، ومن مجموعات صاعدة تضم، على سبيل المثال لا الحصر، سليمان الشعوبي الأمين السابق للشؤون الخارجية في مؤتمر الشعب العام، الذي تم "تصعيده" بالمفهوم الجماهيري أي ترفيعه ليتولى وزارة التخطيط في الحكومة الجديدة. لم تأتِ دعوة العقيد القذافي الأخيرة لإلغاء القطاع العام مع الإشارة إلى أنه سيشمل النفط أساس الثروة في البلاد تتجاوز العائدات الفعلية ال5.18 بليون دولار، في حين تشير الأرقام الرسمية إلى نحو من 12 بليون دولار عام 2001، بحيث يصبح القطاع ملكاً للمجتمع، تديره شركات، ليست للدولة، من فراغ. إذ تفيد المعلومات في هذا السياق أنه منذ رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل مجلس الأمن عن ليبيا، وقائدها يشرف بنفسه على كل شاردة وواردة متعلقة باقتصاد البلاد وماليته وحتى استثماراته الخارجية. وكان أن قرّب منه عدداًَ من الخبراء الليبيين المشهود لهم بالكفاءة العالية كعبدالله السعودي وغيره، لمعاونته في إدارة هذه الشؤون وتقديم النصح إليه، كي يتمكن من متابعتها وتثميرها. وكان بنتيجة هذا الجهد اليومي أن اقتنع بضرورة تحرير الاقتصاد تدريجاً حتى يستطيع مواكبة التحولات الدولية، هذا بالإضافة إلى أن توجهاً من هذا النوع من شأنه أن يساهم في عودة أسرع لليبيا إلى الساحة الدولية. انطلاقاً من هذا، بدأ بارسال الاشارات إلى من يهمه الأمر في عواصم غربية عدة لافهامها بأن قرار التحول الاقتصادي بات متخذاً، لا رجعة فيه، وما عليها بالتالي إلا أن تبادر وتحجز أماكنها مسبقاً في قطاره قبل أن يفوت الأوان. لكن في المقابل، على هذه الدول أن تلعب دوراً في دعم عودة ليبيا إلى الأسواق المالية الدولية. لذا، استخدمت طرابلس الغرب شبكاتها المؤلفة من رجال أعمال وصناعيين غالبيتهم من الايطاليين والنمسويين والسويسريين لترويج سياساتها الانفتاحية الجديدة. كما وخصصت موازنة لا يستهان بها لهذا الهدف. ذلك، ناهيك عن المبادرات بعقد معارض وندوات في طرابلس الغرب ولندن وجنيف وفيينا، لاستدراج تكبريات الشركات فيها للعمل في ليبيا. وكانت النتائج بحسب منظمي هذه التظاهرات التجارية والاقتصادية ايجابية جداً، والدليل على ذلك، تضاعف عددها وعدد المشاركين، تنوع طبيعتها، هذا بالإضافة إلى تدافع ممثلي الشركات على أبواب العاصمة الليبية بحثاً عن فرص تسويق أو شركات محلية أو استثمار في مجال جديد. ولم يتردد القذافي خلال هذه العودة الاقتصادية "المظفرة"، حسب ترداده في جلسات خاصة، من توزيع الوعود يميناً ويساراً، تارة بالإشارة إلى تخصيص المصارف والمرافق العامة بما فيها المطارات وقطاع الاتصالات الذي يشرف عليه عملياً نجله الأكبر محمد، وتارة أخرى بفتح شهية الجميع بإعلان النيات عن تخصيص قطاع النفط. لكن هذا الجانب يبقى غير واضح، يزيد في غموضه التداخل المقصود بانتقال ملكيته لشركات محلية يمكنها أن تستعين بخبرات أجنبية. ما يعني في الحقيقة بأن القيادة الليبية غير مستعدة البتة لفتحه أمام الاستثمار الخارجي لاعتبارات واقعية كثيرة، أولها عدم حاجة ليبيا لرؤوس أموال أجنبية، وهي التي تملك احتياطات مهمة كافية من العملات الأجنبية عدا الذهب، تصل حسب مصارف الأعمال الغربية إلى حدود ال28 بليون دولار حالياً، في حين لم تعانِ موازنتها من عجز منذ 1997، التي تشهد في المقابل، فائضاً متعاظماً منتظماً سنوياً. ويترافق ذلك مع خفض ملحوظ للنفقات وتحديد المشاريع وارتفاع أسعار النفط ومشتقاته، ناهيك عن أن ليبيا غير مدينة لأية مؤسسة مالية دولية أو عربية. في حين تحقق استثماراتها نجاحات في العالم ينصح خبراؤها بالتكتم عليها، حفاظاً على استمرارية إداراتها. والذي تحتاجه ليبيا هو نقل التكنولوجيا والتجهيزات الحديثة، لذلك فهي تهتم بتعزيز اصدار تراخيص جديدة استثنائية في أغلب الأحيان، للتنقيب عن النفط مع المحافظة على تنويع الشراكات، ما يدر عليها عائدات غير مباشرة من دون التفريط في ما تسميه بالسيادة الوطنية. وهذا الوضع مرشح للاستمرار بمعنى أن الخطوات الانفتاحية أو الحديث عن تخصيص القطاع العام، لا يعني هذا الجانب من قريب أو بعيد وينطبق الحال أيضاً على قطاع البتروكيماويات المتقدم جداً في هذا البلد. تخصيص السياحة أما القطاع المعروض للاستثمار والشراكة وحتى التخصيص في بعض الحالات، فهو السياحة. ومن المعلوم بأن الحكومة كانت خصصت في بداية السنة 7 بلايين دولار لتطويره، وفي كل مرة يزور فيها القذافي تونس، يجتمع بخبراء السياحة هناك مستفهماً منهم عن كيفية اطلاق هذا القطاع، خصوصاً بعدما أظهرت إحدى الخطط التي أعدها استشاريون سويسريون وايطاليون بأن ليبيا بإمكانها جذب أكثر من ثلاثة ملايين سائح في حال عمدت إلى إنشاء القرى السياحية والفنادق الممتازة وهيأت شواطئها البحرية غير الملوثة حتى الآن، والممتدة على مدى ألفي كلم، من رأس جدير في تونس إلى السلوم في مصر. مؤشرات وتمهيد عمل العقيد القذافي ومستشاروه المقربون طوال أكثر من سنة ونصف السنة للتمهيد لعملية التحول الاقتصادي مع مراعاة عدم استفزاز القوى التي ستتضرر مصالحها وامتيازاتها. وكان ان استقبل قادة مجموعات ضغط غربية، بما فيها الأميركية، في خيامه في سرت وفي طرابلس الغرب، واستمع إلى نصائحهم وكلفهم بتأمين التمهيد لخطوات انفتاحية. من بين هؤلاء، شيستر كروكر الأمين المساعد السابق للشؤون الافريقية في الخارجية الأميركية، الذي تدعم خطواته الشركات النفطية الأميركية، فمؤسسة "اتلانتيك" التي تعمل على ترويج أنشطة الشركات الأميركية في العالم، تعد حالياً عودة هذه الأخيرة إلى ليبيا، فهذه المؤسسة عرضت أخيراً على الإدارة الأميركية استراتيجية للدخول مجدداً إلى ليبيا بهدف تشجيع الإصلاحات السياسية والاقتصادية فيها، ذلك في الوقت الذي أبلغ فيه القذافي موافقته على دفع 7.2 بليون دولار كتعويضات لعائلات ضحايا لوكربي. من جهة أخرى، يستهدف "مجلس اتلانتيك" من وراء تطبيع العلاقات الأميركية - الليبية ايصال رسائل قوية إلى الدول العربية التي لا تزال تظهر عداء لأميركا بعد الحرب على العراق. ومن المؤشرات التمهيدية الأخرى، قيام وفد رفيع المستوى من وزارة المال الفرنسية في الأسبوع الماضي بزيارة لطرابلس الغرب لبحث شروط الاستثمار في هذا البلد. ونصح خبراء هذا الوفد القيادة الليبية بإحداث تغييرات جذرية على صعيد القوانين المتبعة، خصوصاً لناحية الاستثمار الخاص، والزيادات الضريبية والصعوبات في تحصيل المدفوعات المتأخرة والشفافية، وضرورة تحرير العملة وفتح القطاع المصرفي. في هذا السياق، يُنظّم المركز الفرنسي للتجارة الخارجية في باريس في 26 الجاري حلقة دراسية موضوعها "حقيقة الفرص الاستثمارية في ليبيا". استناداً إلى هذه المؤشرات والتمهيدات، على سبيل المثال لا الحصر، يمكن القول بأن القرار الذي أعلنه العقيد القذافي لم يتخذ اليوم إلا بعد تمحص وتوافق بين تيارات السلطة. فالتخصيص وفتح الأبواب أمام الاستثمار الخارجي، بما فيها القطاع المصرفي كلها اجراءات مقبولة طالما لن يمس بقطاع الهيدروكربورات. واقع ينطبق على الجارة الجزائر، مع الفارق بأن ديون ليبيا تقارب الصفر، وصراعاتها على السلطة معدومة حتى الساعة. * اقتصادي لبناني.