بين العامين 1988 و1990، وبعد الحظر الاميركي الذي فرض ابتداء من سنة 1982 على ليبيا، استطاعت الشركات النفطية الأوروبية ان تشارك، عبر عقود وقعتها، في تطوير حقول نفط وغاز في ليبيا، ما أدى الى زيادة القدرات الانتاجية لهذا البلد بشكل ملفت. وفي غياب الشركات الأميركية نشطت مجموعات "توتال" الفرنسية و"اجيب" الايطالية "وربسول" الاسبانية و"لاسمو" البريطانية وغيرها، فبلغ مستوى النفط الليبي بين 45 و50 بليون برميل، ومستوى الغاز نحو 43 تريليون متر مكعب. وفي تموز يوليو 1986، انسحبت خمس شركات نفطية اميركية كانت لها امتيازات في ليبيا وهي "اماريداميس" و"كونوكو" و"ماراثون" و"غراس بتروليوم" و"اوكسيدنتال"، فيما كانت شركتا "اسو" و"موبيل" انسحبتا منذ العام 1982، فور فرض الولاياتالمتحدة عقوباتها الأولى على ليبيا. وبسبب هذا الانسحاب، احتفظت الشركات الأوروبية بالأولوية، كونها عملت على تطوير أكثر من ثلث القطاع النفطي الليبي. لكن الرئيس الليبي معمر القذافي حرص على عدم استرجاع حقوق الشركات الاميركية التي غادرت بلاده لأنه أدرك انها ستكون أداة سياسية مهمة لرفع الحظر الاميركي عن ليبيا. واهتم القذافي دائماً بالحفاظ على حوار مع هذه الشركات التي كان مسؤولوها يلتقون باستمرار مع وزراء النفط الليبيين في أماكن سرية في أوروبا. وفي غضون ذلك، كان القذافي يهدد تارة بسحب هذه الحقوق، وطوراً يحدد مهلة أخيرة لتجديدها أو تمديدها. وكانت الشركات الاميركية الخمس وقعت اتفاقاً مع الشركة الوطنية للنفط الليبي في حزيران يونيو 1986 للحفاظ على حقوقها في اطار شركة اميركية - ليبية اطلق عليها اسم شركة "نفط الواحة"، بعدما كانت تسمى سابقاً شركة "اوازيس" للنفط. وبقيت الشركات على اتصال دائم مع المسؤولين الليبيين، حفاظاً على مصالحها، وذلك على رغم تجميد وجودها وعملياتها. ومنذ تكثف الوجود الأوروبي في قطاع النفط الليبي، مارست الشركات ضغوطاً كبيرة على الادارة الاميركية من أجل العودة الى ليبيا. والآن، وبعد الاتفاق بين ليبيا والولاياتالمتحدةوبريطانيا على دفع تعويضات لأسر ضحايا طائرة "بانام" الاميركية، تمكن القذافي من شراء الرضا الاميركي - البريطاني ببلايين الدولارات، وهو عمل على التفاوض سراً مع الجانب الأميركي، مدركاً ان ادارة الرئيس جورج بوش مهتمة بعودة الشركات النفطية الاميركية للعمل في ليبيا. فبعد العراق، يبدو الحصول على النفط الليبي أمراً مهماً لرئيس اميركي يتطلع الى تجديد ولايته الرئاسية ويحتاج الى دعم الشركات النفطية الاميركية له. ومع اعلان القذافي تخليه عن برنامج لتطوير اسلحة دمار، هناك شك في ان يكون توصل الى انتاج ترسانة أسلحة دمار شامل تمثل تهديداً فعلياً، مثلما ادعى الجانب الاميركي، إلا ان اعلانه تخليه عن برنامج تطوير هذه الأسلحة يمكن بوش من اصابة عصفورين بحجر. فمن جهة يظهر للدول العربية التي لا تطيع أوامره ان مصير رؤسائها قد يكون مشابهاً لمصير الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ومن جهة اخرى، فإنه يعيد هيمنة الشركات النفطية الاميركية على نفط ليبيا. اما المكسب الآخر الذي حققه بوش فهو انه أعطى درساً لفرنسا، التي امتنعت عن مجاراته في حرب العراق. فالتضامن الذي ابدته فرنسا مع الولاياتالمتحدةوبريطانيا على صعيد قضية طائرة لوكربي في مجلس الأمن، ذهب سدى. بل ان فرنسا وجدت ان اتفاقها الأولي مع ليبيا على تعويضات اسر ضحايا طائرة "يوتا" الفرنسية كان "مهزلة" مقارنة مع ما حصلت عليه اسر ضحايا طائرة لوكربي. اذ اعتبر القذافي ان حياة المواطن الاميركي أغلى ثمناً من حياة المواطن الفرنسي، وذلك لأن همه الأول والأخير هو كسب الر ضا الاميركي، مهما كانت عليه السياسة الاميركية من انحياز لاسرائيل. فالقوة العظمى لها جاذبية مميزة لدى قائد عربي اضاع سنوات عدة على شعبه وبلده من خلال اهدار أمواله على عمليات هدفها شراء السماح لحكمه والإعداد لخلافة نجله له بدعم اميركي. وعلى رغم كون الديبلوماسية الفرنسية اكثر انصافاً حيال القضايا العربية، فإنها تجد نفسها في عزلة لأن الولاياتالمتحدة اخترقت اوروبا عبر بريطانيا واسبانيا وايطاليا وارعبت المسؤولين العرب الذين لا يهمهم سوى التقارب من "العم سام" لأنه الأقوى على الساحة.