إذا كان "الاستسلام الوقائي" لليبيا، حسب بعض المصادر الغربية، عبر التخلي عن طموحاتها لتطوير أسلحة الدمار الشامل، سيفتتح الأبواب مشرعة أمام عودة الشركات الأميركية لليبيا وتحديث حقولها من النفط المثبت، البالغ نحو 30 بليون برميل، والبدء باستكشاف موجوداتها من الغاز غير المُستغلة حتى الإعلان، إلا أن لهذه الخطوة "المبرمجة أميركياً" مترتبات على النظام الجماهيري الذي، على رغم الإعلان منذ أكثر من عامين عن تحولات باتجاه اقتصاد السوق، لم يحرز حتى الآن تقدماً فعلياً في هذا المجال. اليوم، وبعد الدعوة للانفتاح الكبير تكون طرابلس الغرب أدخلت نفسها في اختبار جدي من أولوياته التزام فتح قطاع الهيدروكربورات أمام الاستثمار الأجنبي، وبالتالي تنفيذ الشروط التي يفرضها اقتصاد السوق، سواء لناحية تطبيق الشفافية في كل ما يتعلق بنظامها المالي والمصرفي، أو لناحية الكشف عن عائداتها النفطية والاستثمارية التي لا تلحظها الموازنات الرسمية بدقة وصدقية. فهل يملك العقيد معمر القذافي الوسائل الكفيلة لتحقيق تحولاته الجديدة؟ وما هي الانعكاسات المستقبلية على تطور الاقتصاد الليبي ونموه، الذي حافظ، على رغم العقوبات والحصار الجزئي، على متانته؟ مؤشرات التطبيع المقبل لقد كان شكري غانم، رئيس الوزراء الذي يقود هذا التحول الليبرالي، أول من أعطى "التبرير الاقتصادي" للصفقة المفاجئة التي أعلنت مساء الجمعة في 19 كانون الأول ديسمبر 2003. ففي حديث لهيئة الإذاعة البريطانية قال: "اننا بهذه المبادرة حوّلنا سيوفنا إلى محارث، كما أن هذه الخطوة يجب أن تحظى بالتقدير، وأن تتبعها مواقف مماثلة من دول أخرى". موقف لا يجب فصله عن سلسلة الاشارات التي سبق وأعطاها هذا المسؤول الليبي، خريج الجامعات الأميركية، والمفروض، حسب رأي جهات أوروبية رفيعة المستوى، على القيادة الليبية من قبل واشنطن. ففي "ندوة النفط والمال" التي عقدت في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، قال شكري علناً ان بلاده، على غرار كل من الجزائر ونيجيريا، تطالب بزيادة حصتها داخل منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك وب"صورة عاجلة". رسالة أراد ان يوجهها رئيس الوزراء الليبي الذي خَبرَ كواليس هذه المنظمة، كونه عمل فيها مديراً لقسم أبحاث التنظيم قبل أن تكشف بلاده عن عودة الشركات النفطية الأميركية إليها. ومن أجل افهام من يهمه الأمر، عمد غانم للتذكير بأن ما يطالب به ليس إلا استرجاعاً للخسارة من انتاج النفط خلال فترة العقوبات الاقتصادية، مضيفاً بأن مصلحة الانتاج العالمي من النفط بعودة ليبيا للساحة هو مهم بالنسبة الى كبار المستوردين - في إشارة ضمنية لأميركا - لذا، فمن الضروري أن ينعكس ذلك على رفع حصتها، خصوصاً أنها تستهدف الوصول لانتاج مليوني برميل يومياً على الأقل. وفي التوجه نفسه تقريباً حتى ولو تنوعت التفاصيل، ذكر مرجع ليبي مسؤول ممن رافقوا الزعيم الليبي خلال مشاركته في القمة الأولى للحوار 5"5 التي عقدت في تونس بداية الشهر الجاري في إحدى جلساته الخاصة على هامش هذه التظاهرة، بأن بلاده اتخذت قرارات اقتصادية عدة مهمة ستظهر نتائجها تباعاً في الشهور القليلة المقبلة. ولم يتردد بالإشارة إلى أن فتح أبواب الاستثمار في قطاع الهيدروكربورات يأتي في طليعة هذه الخطوات التي، وفق ما أورد، واجهت مقاومة شديدة من قبل قوى فاعلة داخل النظام، رفضت التحول بمعدل 180 درجة من الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، عارض بعض مراكز القوى "الثورية" التي ترى أن اتباع هذا النهج الانفتاحي ليس مساساً بنفوذها وامتيازاتها فحسب، بل بداية لتفكيك أواصر النظام تسهيلاً لضربه من الداخل. ما يعني بأن الوضع لم يحسم نهائياً بعد داخل السلطة على رغم الإعلان المشرع ربما حول عودة شركات النفط الأميركية مثل "ماراثون اويل" و"اميرادا هيس" و"كونوكو فيليبس" و"اوكسيدنتال بتروليوم" و"غريس بتروليوم" التي تشكل كونسورسيوم "أوايسيس" الواحات، خلال الفترة القليلة المقبلة. مع ذلك، وعلى رغم هذا التجاوب الخفي بين أطراف النظام، إلا أن التأسيس لعلاقات اقتصادية مستقبلية بين واشنطنوطرابلس الغرب قطعت شوطاً، خصوصاً أنها بدأت منذ أكثر من عام عبر زيارات، بعضها سري والآخر نصف علني أعده الجانبان، لعدد من الشخصيات الأميركية والكندية المرتبطة بالمجموعات النفطية والمالية والصناعية في الولاياتالمتحدة. ومن مؤشرات التطبيع التي برزت في الآونة الأخيرة، ولو بشكل غير مباشر، عودة صندوق النقد الدولي، بضوء أخضر من الإدارة الأميركية، للاهتمام فجأة بالأوضاع الاقتصادية والمالية الليبية، ذلك بعد انقطاع دام نحو عقد ونصف عقد. أما الملفت في هذا التوجه المفاجئ، قيام خبراء هذه المؤسسة المالية العالمية بإعداد تقرير خاص وزعته لاحقاً على صنّاع القرار في البلدان الصناعية الكبرى الثمانية، تضمن فقرات عدة، مفادها أنه إذا كان الاقتصاد الليبي لا يقدم احصاءات دقيقة، إلا أن السلطات المختصة هناك طلبت منهم - كدليل حسن نية - مساعدة فنية من أجل تصحيح هذا الخلل، إضافة إلى المساهمة في بناء قواعد لاقتصاد السوق والبورصة وتحديد الأدوات المالية الحديثة لضمان الشفافية في التعاملات، كذلك رسم سياسات الإصلاح الضريبي المنشود. يمكن الاستنتاج، والحال هذه، بأن هذه الشهادة التي اعطيت باسم "الموضوعية"، إنما كانت تمهيداً لتحضير الأجواء أمام التجاوب الغربي، الأميركي تحديداً، مع الخطوات الاقتصادية الليبية التي من المتوقع أن تعلن قريباً وتباعاً والتي ترافقت مع ايحاءات عن عودة الشركات النفطية الأميركية بعد تنازل ليبيا عن السعي لانتاج أسلحة الدمار الشامل، وإعلان الرئيس الاميركي جورج بوش في خطابه بأن "طرابلس الغرب أصبحت على طريق الانضمام للأسرة الدولية"، مضيفاً بأنه إذا أظهرت جديتها في تنفيذ التزاماتها، فإنها ستكافأ على ذلك بالمقابل. ما يعني رفع كل العوائق أمام عودة العلاقات الاقتصادية لطبيعتها، وبشكل أدق، الابقاء على نظامها السياسي لأجل. ولقد ذهب بعض المسؤولين الليبيين من المحيطين بسيف الإسلام معمر القذافي، الموجود في الواجهة حالياً، الى حد القول انه في احد اللقاءات التي تمت بينه وبين عدد من رجال الأعمال الأميركيين المقربين من نائب الرئيس ديك تشيني في إحدى العواصم الأوروبية خلال تشرين الأول اكتوبر الماضي، تحدثوا عن الأهمية التي تعلقها الإدارة الأميركية على وجود ليبيا في صلب المشروع الجاري إعداده لتطوير القطاع النفطي والغازي في افريقيا والذي جرى بحثه في ندوة هيوستن التي عقدت في ما بعد بين 19 و21 تشرين الثاني الماضي والتي حضرتها 150 شركة أميركية في طليعتها "شيفرون تكساكو" و"كونوكو فيليبس" التي لا تزال تملك حقوق التنقيب في ليبيا وحضرها أيضاً ممثلون عن شركة "بكتل". وأشار هؤلاء إلى أن تطوير هذا القطاع في افريقيا من شأنه السماح للولايات المتحدة بتنويع أفضل لمواردها، بل أيضاً المساهمة في تأمين حاجاتها بدءاً من سنة 2015. كل هذه المعطيات الذي يحرص الطرفان، الأميركي والليبي، على عدم نشرها في هذه المرحلة، تؤكد بأن قرار ربط ليبيا اقتصادياً بالقاطرة الأميركية هو قرار متخذ، لكن التباين الحاصل لدى أصحاب القرار في واشنطن حول فيما إذا كان ذلك سيتم في ظل النظام الليبي الحالي أم بعد تغييره. الآن يبدو بأن تنفيذ هذا الأخير للشروط الأميركية ب"أمانة فائقة"، وللتعهدات التي أعطاها العقيد القذافي شخصياً، بحذافيرها منذ 11 أيلول سبتمبر 2001، بوساطة بريطانية، هي التي شجعت اللوبي النفطي المؤيد لتطبيع العلاقات الاقتصادية مع ليبيا - الذي يقوده كل من شيستر كروكر رئيس "مجلس اتلانتيك" وروبن ويست المسؤول السابق في عهد الرئيس رونالد ريغان، الحسم وفقاً للتوجه الثاني. التعقيدات يتوقع المحللون أن يؤدي رفع آخر الضغوط الأميركية عن ليبيا إلى تعزيز وضع الاقتصاد الليبي - المرتاح أساساً، على رغم الانعكاسات على مستوى عيش المجتمع وخفض معدلات البطالة التي تتجاوز 23 في المئة - وتحسين أدائه. كذلك، تشجيع المشرفين عليه اليوم بالسير قدماً في الخطوات الانفتاحية الآيلة لتجاوز العقبات الموجودة أمام النفاذ لاقتصاد السوق. وإذا كانت الأرقام والنسب التي حصل عليها البنك الدولي في مجال المعادلة المالية الليبية القائمة أشارت إلى تحقيق صادرات نفطية بقيمة 6.9 بليون دولار خلال سنة 2003، إلا أن الحقيقة الموضوعية هي أكبر من ذلك. في هذا الإطار، يؤكد مصدر ليبي في شركة "اويل انفست"، التي تدير الاستثمارات النفطية الليبية انطلاقاً من روما، أن العائدات لهذه السنة يمكن أن تتجاوز ال14 بليون دولار، في حين أن الاحتياطات المعلنة من النقد الأجنبي، ما عدا الذهب، من قبل البنك المركزي، هي بحدود 7.13 بليون دولار، أي ما يساوي 19 شهراً من الاستيراد، وهو رقم تشكك بصحته مصارف الأعمال الغربية التي تجزم، من جهتها، بأن المبلغ الفعلي المتراكم يتجاوز ال30 بليون دولار، ناهيك عن الأرباح التي تحققها الاستثمارات الليبية الموظفة في الخارج والتي تناهز الأربع بلايين دولار سنوياً. انطلاقاً من المتانة التي يظهرها هذا الاقتصاد الذي من أبرز مؤشراته وجود فائض في الموازنة منذ عام 1997، وتدني مستوى الدين بحيث تعمدت الحكومة الليبية في تشرين الأول اكتوبر الماضي للتصدي علناً للتقارير الصحافية التي ذكرت بأن اليابان ستمنح الجماهيرية قرضاً بقيمة 6.3 بليون دولار، بدأت السلطات المختصة بإعداد لائحة بالشركات المنوي تخصيصها سنة 2004، من بينها "الخطوط الجوية العربية الليبية" و"مصرف التجارة والتنمية" الذي يمتلك 47 فرعاً في البلاد ويريسه جمال عبدالملك، الذي يحظى بسمعة طيبة لدى بيوتات المال الأميركية، كذلك "الشركة الوطنية المصرفية". كما لجأت لإنهاء ما تبقى من منشآت شعبية وتشاركيات كانت تحتكر الاستيراد تحت اشراف اللجان الشعبية والثورية. ومن الانعكاسات الأخرى المتوقعة في المديين القصير والمتوسط، تسهيل الأميركيين لاختراق الاستثمارات الليبية في العديد من القطاعات داخل دول المغرب العربي، والتي كانت في السابق من المحرمات بطلب من واشنطن. في هذا السياق، بدأت شركات وساطة مالية أميركية توقيع عقود مع مؤسسات ليبية شبه رسمية ومجموعات تمثل القطاع الخاص التي افتتحت في الشهور الماضية مصرفين بهدف إدارة بعض محافظها المالية، والاستثمار في عدد من البورصات العربية المغاربية كالدار البيضاء، والخليجية كبورصة مسقط وبعض المراكز المالية الأوروبية. كما من المنتظر أن يشارك القطاع الخاص الليبي مع شركات متعددة الجنسية، بريطانية وأميركية على وجه الخصوص، بالدخول في مناقصات محلية لانتزاع تنفيذ عقود في مجالات بناء المساكن والفنادق وشبكات تصريف المياه في المدن والاتصالات والمحطات الكهربائية، كذلك لتطوير مصانع البتروكيماويات. وفي عودة لقطاع النفط، بدأ بعض الجهات بالحديث عن تحول في خيارات القيادة الليبية لناحية تنويع الشركات في هذا الميدان بناء على شروط أميركية التزم بموجبها الليبيون التنفيذ الحرفي. وتفيد المعلومات في هذا الصدد أن الشركات الأميركية ستحظى من الآن فصاعداً بحصة الأسد من مجمل التراخيص، تليها بريطانيا وايطاليا أجيب واسبانيا ريبسول وكندا بيغ سكاي اينرجي والنمسا او ام في. في المقابل، تخشى شركة "توتال إلف فينا" الفرنسية أن تصبح كبش محرقة تطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية بين طرابلس الغرب وواشنطن، وبأن يؤدي هذا التلاقي على أسس جديدة، براغماتية بحتة مع كل ما سيترافق معها من ضغوطات على ليبيا وعداء لفرنسا، إلى تهديد مصالحها التي شهدت في الماضي حالات مد وجرز نجحت في استيعابها. فأياً كان حجم التوقعات الاقتصادية الحالية ل"الاستسلام الوقائي" لليبيا، فإن خبراء ومحللين غربيين متخصصين بهذا البلد يرون بأن التحول الكبير الذي تروج له أوساط معينة لدى الطرفين يتطلب بعض الوقت، إضافة إلى تهيئة المناخات وايجاد البنيات القادرة على تنفيذه من دون أخطاء وهزات، إذ من غير الممكن أن يتم الانتقال من نظام اقتصادي معقد تتداخل فيه الثروة ومفهوم الثورة، وتتشابك فيه كما يحصل أخيراً، مصالح القطاع العام بالقطاع الخاص الناشئ، في ظل غياب سوق مالية محدودة الوسائل، محكومة بانعدام الشفافية وضعف الاحصاءات الدقيقة المتعلقة بالمداخيل من النفط، إلى اقتصاد سوق واضح المعالم. في المقابل، من الممكن أن تعود الشركات الأميركية، نفطية وغيرها، لاجراء ضربات اقتصادية ومالية فورية في مرحلة أولى بعيدة كل البعد عن الانخراط في سياسات استثمارية منتجة متوسطة وطويلة الأمد. من هنا وحتى تتحقق الأهداف، سيمر النظام الليبي في مخاض اقتصادي وسياسي صعب يجهل العارفون مآل مستقبله. * اقتصادي لبناني.