مركز مشاريع البنية التحتية بمنطقة الرياض يعلن تفعيل أعماله في 19 محافظة و47 بلدية    نائب أمير مكة يطلع على أبرز المشاريع المنجزة بمحافظات المنطقة    2024.. إنجازات سعودية    قوافل مساعدات سعودية جديدة تصل إلى غزة    «العالم الإسلامي»: ندين بأشد العبارات اقتحام مستوطنين باحات المسجد الأقصى    سورية تتطلع لعلاقات "استراتيجية" مع أوكرانيا    الأخضر.. خطوة نحو «الكأس»    «الصفراء» حرمتهم.. والمدرج مكانهم    «الشورى»: الموافقة على مشروع تعديل نظام إنتاج المواد التعليمية وتسويقها    الجوال يتصدّر مسببات حوادث المرور في الباحة    القهوة والشوكولاتة.. كماليات الشتاء والمزاج    5 فوائد للشاي الأخضر مع الليمون    أمير القصيم ينوّه بدعم القيادة لبرامج التوطين    إضافة 122 منتجاً وطنياً في القائمة الإلزامية للمحتوى المحلي    الأخضر يختتم استعداداته لمواجهة عُمان في نصف نهائي خليجي 26    الهلال يكسب ودّية الفيحاء بثنائية "نيمار ومالكوم"    جابر: ثقتنا كبيرة في تجاوز المنتخب السعودي    ولي العهد يعزي تشوي سانج في ضحايا حادث الطائرة    «مجلس التخصصات الصحية» يعتمد استراتيجية العام المقبل    "الشورى" يوافق على تعديل نظام إنتاج المواد التعليمية وتسويقها    مجلس إدارة هيئة الإذاعة والتلفزيون يعقد اجتماعه الرابع لعام 2024    تركي آل الشيخ يعلن عن القائمة القصيرة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    استعراض مؤشرات أداء الإعلام أمام الوزير    11 ألف مستفيد من برامج التواصل الحضاري بالشرقية    أمير الشرقية يشدد على رفع الوعي المروري    مغادرة ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    القيادة تعزي في وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر    وفاة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر    علاج شاب بزراعة بنكرياس باستخدام الروبوت    مبادرة «عدادي»    بينهم عدوية والحلفاوي والسعدني.. رموز فنية مصرية رحلت في 2024    حتى لا نخسر الإعلاميين الموهوبين!    التغيير العنيف لأنظمة الحكم غير المستقرة    هل تفجّر أوابك ثورة إصلاح وتحديث المنظمات العربية    كلام البليهي !    النصر يتوج بكأس الاتحاد السعودي لكرة قدم الصالات على حساب القادسية    الوديعة السعودية أنقذت اليمن    خبراء أمميون يطالبون بمعاقبة إسرائيل على الجرائم التي ترتكبها في الأراضي الفلسطينية المحتلة    توزيع 132 حقيبة إيوائية في ولاية بغلان بأفغانستان    إغلاق عقبة الهدا بالطائف شهرين    وزير خارجية سوريا: نتطلع لبناء علاقات إستراتيجية مع السعودية    مكة المكرمة: القبض على شخص لترويجه 8,400 قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الجوازات: صلاحية جواز السفر للمواطنين الراغبين في السفر إلى الخارج 3 أشهر للدول العربية و6 أشهر لبقية الدول    نائب وزير الخارجية يستقبل سفير جمهورية باكستان الإسلامية لدى المملكة    نتائج نشرة خدمات 2023.. «الإحصاء»: 78.1% مدارس التعليم العام و800 ألف رحلة أقلعت من 29 مطاراً    ابتكارات عصرية بأيدي سعودية تعزز رفاهية الحجاج في معرض الحج    الإحصاء تُعلن نتائج المسح الاقتصادي الشامل في المملكة لعام 2023م    "حركية الحرمين" السعي نحو حياة أسهل    عزة النفس وعلو الإنسان    الصقور تجذب السياح    معركة اللقاحات    وزيرا «الإسلامية» و«التعليم» يدشّنان برنامج زمالة الوسطية والاعتدال لطلاب المنح الدراسية    بين الأماني والرجاء.. رحمٌ منبثٌ    التعصب في الشللية: أعلى هرم التعصب    «تونسنا عليك»    ما الفرق بين الدخان والهباء الجوي؟    نائب أمير منطقة مكة يترأس اجتماعًا لمتابعة مشاريع التنمية للمنطقة    السعودية تعزّي كوريا في ضحايا حادث تحطم طائرة ركاب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض قضايا الثقافة السياسية العربية في ضوء الإنقسامات والإتفاقات في خصوص العراق وفلسطين
نشر في الحياة يوم 21 - 08 - 2003

لم تعكس المواقف من حرب العراق بالضرورة انقساماً ثقافياً او فكرياً حقيقياً، بقدر ما عكست شكل طرح الموقف علناً في أوساط شعبية معادية للعدوان في ظروف عدوان أجنبي ضد دولة عربية عارضته غالبية اوروبا وعارضته رسميا حتى الدول العربية المؤيدة له فعلياً، والتي يتم التغني باعتدالها في قضايا التسوية.
والتصريح علناً بغير الموقف الذي يؤمن به المثقف هو تعبير عن ثقافة سياسية معينة جدا تخشى الديماغوغيا وتخشى سالبي ومصادري الثقافة الجماهيرية التي لا تستسيغ النقد العلني في قضايا تعتبر مؤسسة للهوية الجماعية، الا اذا كان النقد موجها ضد الاجنبي.
وحتى لو قررنا ان نتجاوز العلنية الى المواقف الفعلية، فقد نتوصل الى وجود معسكرين فعليين ضد او مع الحرب الاميركية على العراق، بغض النظر عما يجاهر به اعضاء المعسكرين علناً. ورغم قرب هذا الانقسام الفعلي من حقيقة المواقف لا لفظها، الا انه لا يعبر بشكل كامل عن النقاش الثقافي السياسي الدائر على الساحة العربية.
فهو، على سبيل المثال لا الحصر، قد يقسم المواقف، والأدق ان نقول الدوافع، بمعيار غيبي من نوع "حب وكره" الولايات المتحدة. في حين علينا ان نبحث عن انقسام قيمي تتوزع بموجبه المواقف من مسائل مطروحة في المجتمع العربي او المجتمعات العربية، وأولها المواطنة وحقوقها والمساواة أمام القانون، او الانقسام حول سبل ادارة المجتمع الحديث والسياسات الوطنية وعلاقتها بالبعد القومي، والرفاه الاجتماعي، ثم العلاقة بين هذا كله وبين سياسات الولايات المتحدة الاميركية في المنطقة وتحالفاتها القائمة في البلد المعني.
معيار الانقسام
يستحيل أن نعثر بين مؤيدي نظام صدام حسين على من يؤيد قيم الديموقراطية وحقوق الانسان والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، أو ينحاز إلى المنهج العقلي في رؤية وتنظيم المجتمع اذا تجاوزنا الانقسام القيمي.
واذا كان من بين مؤيدي هذا النظام من يضمر في قلبه مثل هذه الافكار فإن تأييده لنظام صدام يسخِّف ما يضمر ويحمله مسؤولية مضاعفة. اما بين معارضي النظام فقد نجد اضافة إلى الديموقراطيين من يؤيدون انماطاً اخرى من الديكتاتورية، كما قد نعثر بسهولة اكبر على معارضين للنظام بسبب علمانيته، او من منطلق تحزبهم او تقديمهم خدمات لقوى اقليمية اخرى وغير ذلك. لكن هذه الحقائق لا تقلل من اهمية اقامة تحالف سياسي ضد هذا النظام رغم الفوراق في الثقافة السياسية بين اطرافه، ولا تقلل من اهمية معارضة الحرب كنهج أميركي في العلاقات الدولية.
لم يعف هذا التحليل اذاً، ولا يعفي، من اتخاذ موقف ضد هذا النظام، تماماً كما ان وجود معارضين للعدوان مؤيدين له فعلاً، ووجود معارضين للعدوان لاسباب غير مقبولة مثل التضامن مع النظام ذاته، لا يعفي المثقف الوطني من اتخاذ موقف ضد العدوان.
1- على كل حال يسأل السؤال: هل الموقف من الديموقراطية السياسية هو معيار الانقسام بين المثقفين على الساحة العربية الثقافية؟
هنالك قوى تطالب بالديموقراطية من أجل ان تسنح لها الفرصة للمشاركة في الانتخابات، او كأداة لمحاصرة النظام القائم على المستوى الدولي بين اصدقائه في الغرب مثلا، دون ان تلتزم هذه القوى ذاتها بقيم ديموقراطية. انها لا ترى الديموقراطية إلا من زاوية تداول السلطة، ولو لمرة واحدة. ولكنها ترفض أن ترى أو أن تشخص قضايا مثل حكم القانون وحقوق المواطن كقضايا أساسية للنضال في هذه المرحلة، مع انه لا بد ان تسبق هذه الأجندة عملية تداول السلطة لكي تكون الاغلبية قد تعودت على احترامها وعلى توقعها من اي سلطة قادمة، ولكي تحترم الأغلبية هذه الحقوق في عملية التبادل الاجتماعي القائمة.
ففي المجتمعات التي يطالب فيها بانتخابات ولا تطرح فيها شعبيا الا بدائل غير ديموقراطية يجب أن تتصدر المواطنة جدول أعمال قوى التغيير. فقط مع أخذ القيم الديموقراطية بعين الاعتبار وعلى رأسها حقوق المواطنة، تصلح قضية الديموقراطية لتكون معيارا لانقسام ثقافي فعلي على الساحة العربية.
فقد نضج هذا الموضوع ليصبح قضية ثقافية من الدرجة الاولي. وتزول بالتدريج العوائق والأوهام التي منعته من ان يتبوأ هذه المكانة، اذا يتناقص عدد المثقفين المتنوّرين والاصيلين في انتاجهم الثقافي الذين يأملون خيرا من سياسة غير ديموقراطية.
المواطنة هي المسالة الأساسية التي تواجه الثقافة السياسية العربية في المرحلة الراهنة على مستوى حقوق المواطن في علاقته مع مؤسسات الدولة وفي علاقته مع المواطنين الآخرين. ويجب أن يكون في وسع القوى القومية أن تدرك أن المواطنة هي الوجه الآخر لسيادة الأمة، فسيادتها لا تكتمل بانقسامها الى شعبين: حكام ورعايا. والمقصود: أمة المواطنين التي قد تتألف من قومية واحدة او عدة قوميات تجمع ابناءها المواطنة الديموقراطية. وقد تشمل حقوق المواطنة حقوقا جماعية بناء على الانتماء لهويات محددة ثقافية وغيرها.
وحتى لو جسدت الدولة والسيادة تاريخيا حق جماعة قومية في تقرير المصير فيجب ألا تشتق حقوق المواطنة من الانتماء إلى هذه القومية بل من المواطنة ذاتها. عربيا، لا تزال معايير إدارة العلاقة بين الفرد والدولة وبين الفرد وبقية الأفراد متعلقة بأمور كثيرة عير المواطنة مثل الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، الجنس، القرب من طبقة الحكام، توفر علاقات و"واسطة" وغيرها. ولا ينبغي أن تؤجل قضية المواطنة إلى حين تحقيق السيادة للأمة العربية ذاتها.
فالأمة لا تقيم الدولة، وإنما الدولة تقيم الأمة. والسؤال هو أي دولة تقيم أي أمة؟ ورغم القومية الغربية ورغم غياب قومية اوروبية يبدو أن الطريق إلى التكامل العربي بالنمط الأوروبي حتى الوحدة مرهون بدول تقيم أمما من المواطنين، وربما تقود الديموقراطية إلى الوحدة. وفي داخل امة المواطنين الديموقراطية تحتفظ القومية العربية قبل الوحدة بأهمية قصوى، بل مصيرية، لأنها تشكل الوعاء التاريخي والحضاري لوحدة المجتمع العربي كمجتمع حديث.
ولا ادري اذا كان الاختلاف القائم فعلاً في الثقافة السياسية العربية هو تعبير عن انقسام بين معسكرين او ثقافتين او اكثر، هذا اذا استخدمت قضية بعينها كمعيار للانقسام، اي اذا استخدمت الديموقراطية مثلا كمعيار لاختيار توزيع المواقف حولها. ولكن لا شك ان قضية الديموقراطية تصلح لتوزيع المواقف الثقافية بنجاعة اكبر من قضايا تبدو ثقافية محض مثل قضية التطبيع الثقافي مع اسرائيل.
فالأخيرة رغم أهميتها تطمس الفوارق بين المواقف الثقافية وتجمع حول معارضتها مواقف متبانية من كافة القضايا التحليلية والقيمية التي تشغل الثقافة السياسية العربية في المرحلة الراهنة. الموقف ضد التطبيع مع الثقافة الصهيونية هو موقف سليم برأي كاتب هذه المقالة. ولكنه وحده لا يكفي لتبرئة ذمة احد، لانه قد يتحول الى "الملجأ الاخير للنذل"، اي قد يتحول الى مانح شرعية لأصحاب مواقف نذلة في كل ما عدا التطبيع من قضايا، بما في ذلك التواطؤ مع السلطة غير الديموقراطية ضد زملائهم المثقفين، أو تحريض سلطة غير ديموقراطية، والاستعانة بها على زملائهم لتحسم بالقوة نقاشا ثقافيا محض.
2- وعلى الجانب الآخر من المتراس يُتَهم المثقفون العرب عموماً بأنهم هواة إفشال منتظم ودوري للتسويات مع اسرائيل. والحقيقة أن التهمة تتجاهل انه حالما يتخذ نظام موقفا مع التسوية فان عدد المثقفين المؤيدين لها يتفوق بقدرة قادر على عدد معارضيها. وإن قيم مثقفي الدولة أو النظام الواقعيين المؤيدين للتسوية عموما ليست في العادة أكثر ديموقراطية من قيم المثقفين المعادين للتسوية، ولا هم أكثر نقدية للأوضاع العربية القائمة.
لقد ألصق بنا مؤخرا الصحافي توماس فريدمان، وهو يحاول بدعابة منزوعة الدعابة وتهكم لا يثير حتى ابتسامة مائلة على طرف الشفة السفلى ان يربط بين الموقف الرافض للتسوية غير العادلة وبين الموقف غير الديموقراطي، والله أعلم. وكأنه لا يكفينا ما ينشر في "هآرتس" بأقلام محلية ليُكتب علينا أن نصادف مقالته بالعبرية "هآرتس" 18 آب/ أغسطس 2003 وهو يقتبس موظف منظمة إغاثة لبنانيا في بغداد يعتبر العراق "ليبيدو" العالم العربي في إحالة بعشر قروش إلى التحليل النفسي من بيت فرويد.
فالعراق سوف يضطجع على اريكة فريدمان ليقول كل ما منعت لياقة الخمسينات القومية العربية السياسية من قوله من "يلعن ابو العرب!! وشو عملولنا؟ وجر". وكما يبدو فاننا نشهد الآن فيلم "كل ما أردت معرفته عن العرب وفلسطين وخجلت أن تسأل عنه". وسوف يستنطق الاعلام الاميركي قعر الغرائز الدفينة... فالعرب تضامنوا مع صدام ضد الشعب العراقي ولم تكن هنالك دول عربية قدمت ملجأ للمعارضة العراقية، والقضية العربية بموجب انفلات التداعيات إلى الأسفل شكلت مصدر شرعية صدام التي تلفع بها كما تلفع الملا عمر بعباءة الرسول كما ادعى اتباعه. واخذ من أموال العراقيين وبنى مساكن للفلسطينيين!!! وهذه الأموال هي الأساس لمن يريد ان يصفي الحساب، لا قصوره ولا الفساد، ولا ما اقتنصه تجار الاسلحة وسماسرة التجارة في الحصار، وتجار الصحافة العرب الذين يضربون الآن بغير سيفه. على كل حال هذا ما يريد زيغموند فريدمان سماعه على الاريكة.
من الواضح لماذا يمس اتخاذ القضية الفلسطينية او الهوية العربية مصدرا لشرعية نظام ديكتاتوري دموي بهما على مستوى الثقافة السياسية الجماهيرية في العراق، ولكن هل يمس اتخاذ الولايات المتحدة الديموقراطية وحقوق الانسان ذريعة لعشرات الاعمال العدوانية بالديموقراطية وحقوق الانسان بنظر أي مثقف ديموقراطي؟ هل يجب ان نتحول ضد حقوق المرأة في المملكة العربية السعودية لأن امريكا تتاجر بها. ان شرعية القومية العربية وعدالة القضية الفلسطينية بالنسبة للناس هي التي جعلت صدام حسين يستخدمهما. كانت المشكلة في صمت جزء من القوميين فعلا على نظام صدام حسين، وتقبل تمويل نظام صدام لبعض الصمت والهتاف، ولا يقل فداحة عنها طبعا الصمت والهتاف دون تمويل. ان من يرغب ان يراجع العراق على لسان مثقفيه الموقف من عروبته او من عدالة القضية الفلسطينية انما يقدم نموذجا هو الوجه الآخر للثقافة التي تختزل كل قضية عربية الى موقف من التطبيع، ولا تهتم بأي قضية لا تترجم الى موقف من التطبيع.
الموقف المناهض للصهيونية
هنالك اساس عقلاني واخلاقي لموقف ثقافي ديموقراطي معاد للصهيونية. ما ترغب به اسرائيل هو ان يقف المثقفون العرب على قاعدة الثقافة السياسية الصهيونية في كل ما يتعلق بالصراع وتاريخ الصراع كامتحان لتنورهم وديموقراطيتهم، لأن هيمنة هذه الثقافة السياسية تؤثر تأثيراً مباشراً على الصراع والمفاوضات. بالامكان، بل من الضروري، الاحتفاظ بالموقف المناهض للصهيونية ثقافياً دون عداء لليهود وبنفور شديد من تملق غرائز عنصرية ومع الاحتفاظ بالموقف العقلاني والمنحاز للعقلانية ثقافياً وبالموقف الاخلاقي المؤيد لعدالة القضية الفلسطينية والرافض للمساواة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال. ان المساواة بينهما في مقولات مثل "طرفي الصراع"، و"العنف من الطرفين" ليست تعبيرا عن تنور أو براغماتية بقدر ما هي تعبير عن عجز يرافقه انحطاط ثقافي وسياسي يأدلجه.
3- وأخيرا، تدهورت مواقف بعض المثقفين الراديكاليين العرب الى سياسات الهوية المحضة في معرض تعبئتها الرأي العام ضد السياسة الاميركية والغربية والصليبية والصهيونية بصياغة تتضمن قبولا علنيا او ضمنيا لمبدأ صراع الحضارات، وهو آخر تجليات العنصرية الاسرائيلية والاميركية المتسوقة بين نظرية تعتمد البيولوجيا الفيزيولوجية ونظرية تعتمد النسبية الثقافية ونظرية الحضارات والعلوم السياسية.
وتسهل هذه المواقف تعبئة الجماهير ضد عدو خارجي وترهن الصراع ضد اي ظلم وضد اي خصم داخلي بامكانية اثبات العلاقة بينه وبين الخارج او اختلاق رابط معه ليتحول الخصم الداخلي الى مجرد امتداد للصراع الخارجي هذا رغم وجود عملاء فعلا ليست هنالك حاجة لاختلاق روابط مع الخارج بشأنهم، وليصبح الصراع الداخلي ايضاً مجرد صراع بين وطنيين وعملاء.
وقد طمست هذه الثقافة الصراعات الحقيقية في المجتمع العربي حول العدالة الاجتماعية وحول المساواة وحقوق المواطن، واخضعت كافة الصراعات الاخرى للصراع مع عدو خارجي مما ادى الى استهانة بقضايا الشعوب العربية الحقيقية مثل قضية الشعب العراقي مع نظام صدام حسين والنخب المتحالفة معه او الخاضعة له. لقد كانت سياسات الهوية "ضد الخارج"، وتحديد الهوية سلبيا من خلال النفي، هي الملاذ الأخير لبعض القوى القومية والاسلامية التي ليس لديها مشروع سياسي وطني، ولا تحاول تطوير برنامج سياسي.
تصح سياسات الهوية في حالات محددة جداً يتم فيها تهديد هوية اقلية بفعل سياسة منهجية. وحتى هناً ايضاً يحتم الوقف الديموقراطي وضع حدود هذه السياسات لكي لا يقمع باسمها كل نقد داخلي ولكي لا تتحول الى سلم تسلق لقيادات تدعي الحديث باسم "جماعة الهوية" لتحصل على مكاسب لنفسها كناطقة باسم الهوية. ومن هنا غرام هذه الثقافة بالرمزية وعشقها للتمثيل الرمزي وصناعته. فبذلك تحتكر ملكية وسائل انتاج الهوية كرأسمال يستثمر لتحقيق ارباح لصالح تقدمها هي.
هذا التدهور الى سياسات الهوية لا يمكِّن من مواجهة السياسات الاميركية ايضاً لأنه يتعامل معها بشكل يمنع التمييز بين السياسة والمصالح القابعة خلفها وبين واحدة على الاقل من هويات اصحابها المفترضة ك"هم" تقابلها "نحن".
طرحت هذه الثقافة السياسية ذاتها بحدة إبان الحرب الأخيرة على العراق ولم تميز بين العمالة لاميركا وبين جذور وجود معارضة وطنية حقيقية في العراق، كما لم تبذل جهداً للتمييز العلني بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والتمني في ما يتعلق بظروف النظام العراقي وقدرته على الصمود بعد ثلاثة عشر عاماً من الحصار، وفي ظل تخليها المقصود عن اي ادوات للتحليل الاجتماعي والسياسي العقلي الا نظريات المؤامرة المختلفة والتعلق بحبال الهواء التي رماها الصحاف للصحافة في هواء البث المباشر. ولم تبق بعد الصدمة إلا مجموعة ضباط تتهمهم بالخيانة لتفسر خيبتها المتوقعة كما في عام 67 غير المتوقعة.
بموازاة هذه النزعة ارتفعت أصوات معارضة لهذا التيار تستغل انهيار النظام العراقي، وكأن أحد توقع انتصاره، من أجل خلط الحابل بالنابل كإثبات لخطأ مواقف لا علاقة لها بالنظام العراقي. خذ مثلاً اعتبار عروبة العراق مشكلة، او ان القومية العربية مشكلة، واعتبار الانتصار الاميركي ضد النظام العراقي انتصاراً للمواقف الاميركية وفرصة للتباهي بالتحالف مع الولايات المتحدة ومواقفها في المنطقة.
ونحن لا نتكلم عن شماتة انظمة غير ديموقراطية متحالفة مع أميركا بأنظمة غير ديموقراطية وغير متحالفة مع اميركا، او شماتة انظمة بالحركات الشعبية ومظاهراتها، فهذه حالة من البؤس الثقافي والسياسي لا تستحق التعليق، لا هي ولا مثقفيها الذين تنقسم وظيفة ألسنتهم بين الثرثرة ولعق ال...، وبين المنافحة الجوفاء التي تنضح بما فيها فراغا، والتملق الذي ينضح بغير ما فيه.
انما نتحدث عن حالة ثقافية تلتقي فيها مجموعة منطلقات واقعية او مصلحية او براغماتية او متنورة وديموقراطية فعلاً، ولكن لا يوجد لها تنظيم سياسي حقيقي، ولا تمثل تياراً يطرح نفسه كبديل سياسي. وهي بالمجمل تعبر عن اشمئزاز من اوضاع الانظمة العربية ولكنها متصالحة او متعايشة معها بشكل عام وتحاول ان تقنع الولايات المتحدة ان تتخذ موقفاً أكثر نقدية تجاه الانظمة، وذلك عبر بعض الحوارات التي يقوم بها مع الاميركان صحافيون ومنظمات غير حكومية ورجال اعمال متنورون.
يعتبر ممثلو هذه الثقافة السياسية كل هزيمة عربية برهاناً على صدق مقولاتهم. ولا يصعب اثبات العلاقة بين ما ينتقدونه لدى الانظمة وبين الهزائم نظرياً. فبعد انتقاء مواضيع النقد بأثر رجعي يصبحون نظريا على حق. ولكن عملياً لا علاقة بين الهزيمة التي يهللون لها وممارساتهم السياسية. اولاً، لأنهم لم يشاركوا في إلحاق الهزيمة بالنظام العراقي مثلاً، وثانياً، لأن لا احد شاركهم في وضع اهداف الحملة على العراق، وثالثاً، لأن هؤلاء المثقفين لا يطرحون مشروعا سياسيا او اهدافا سياسية مصاغة اصلاً كبديل سياسي. وبامكانهم فقط ان يستخدموا الهزيمة بأثر رجعي للترويج بشكل علني لعدم جدوى الاختلاف مع اميركا.
لكن هؤلاء لا يدعون للحوار الجدي مع الولايات المتحدة كدولة وكمجتمع، وهذا مطلوب، وانما يتضح دائما في السطر الاخير انهم يدعون الى تلقي الاملاءات والاوامر من البنتاغون والبيت الابيض. وينتهي هذا التوجه العاجز عن تقديم اي مشروع وطني ديموقراطي يحمله تنظيم سياسي، الى الاضرار بالديموقراطية بتنفير الجماهير من مواقفه تجاه العدوان ضد العراق، ومن مواقفه الداعية للتسليم غير المبرر ب"الهزيمة" المفترضة في فلسطين ليلتقي في النهاية مع الانظمة التي ينتقدها قناعة منه بأن الانظمة الحالية أرحم من التوجهات الشمولية العلنية المنتشرة بين الجماهير.
* كاتب عربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.