وسط بيروت التجاري ليس وسطاً تجارياً. وسط بيروت التجاري رمز. هذا مكان قد يتحول مركزاً لازدهار اقتصادي آتٍ. لكنه في اللحظة الحاضرة رمز. رمز مدينة تخرج من دمارها بأبنية مرممة جديدة، بأبراج تتوّجها ساعات بيضاء، بشوارع مرصوفة بالحجر البركاني الأسود، وبمطاعم تزين الأرصفة فتبهج عيون الناظرين وتبهج شاشات الفضائيات. ما يحبه جاك شيراك يحبه آخرون ايضاً. ليس الرئيس الفرنسي عضواً يتيماً في نادي المعجبين ببيروت ووسطها التجاري. شارع "المعرض" يستقبل منذ التسعينات افواج متفرجين ورواد طعام ونزهة وحنين واكتشاف. في الشارع ذاته نقف اليوم امام صور فوتوغرافية كبيرة لأيمن تراوي تظهر حال الوسط التجاري خلال الحرب الأهلية وبعد اعادة الإعمار: "ذاكرة بيروت". البنايات الممزقة بالشظايا والرصاص تظهر متداعية وسط الركام، ثم تعبر السنوات خطفاً فنراها مرممة ناصعة الألوان كأنها بُنيت للتو. الذين عرفوا بيروت قبيل اندلاع حرب 1975 لم يعرفوها يوماً بهذه النظافة، بهذه الأناقة، وهذا الترتيب والجمال. يُمثل وسط بيروت في عالم اليوم مفارقة منطقية: عمارات اوروبية الطراز بُنيت في زمن الانتداب الفرنسي، فاخترقت القرن العشرين بكل كوارثه، وبلغت القرن التالي بأباجور نوافذ متألقٍ لامعٍ وبحجارة مصقولة كأنها خرجت من تحت اسنان المنشار بالأمس فقط. سمير خداج يختار هذا الوسط التجاري ذاته مركزاً لمعرض من صنف آخر. لا يعرض خداج تماثيله وأنصابه وعالمه الغريب في شارع "المعرض" حيث تنتشر صور فوتوغرافية مثيرة للتأمل، بين كراسي المطاعم وبين ابنية انيقة صفراء وأرصفة مغسولة برذاذ المطر. الصور الفوتوغرافية التي ترسم امامنا ذاكرة بصرية للوسط التجاري ولفصول من حروب لبنان الأهلية بين 1975 و1990، تكتفي بثنائية بسيطة، لكنها شديدة الوقع: الأسود والأبيض، الدمار والإعمار. ليس هذا سيئاً. بل هو ضروري ومرغوب. هذه ذاكرة واضحة: الحرب تهدم العمارات، والسلم يُرمم ما سقط. هذه ذاكرة واضحة. لكن سمير خداج، وبأنصابه الرومانية التي وزعها في مبنى مهدم من بقايا الحرب، مبنى كان مسرحاً وصالة سينما، يختار المضي الى ذاكرة اخرى أعمق. على بعد خمسين متراً من "المعرض"، وراء شارع الأمير بشير وبنايات اللعازارية، يحول سمير خداج سينما "سيتي بالاس" سينما القبة ذات الشكل البيضاوي الفضائي التي تأسست عام 1970 وضمت آنذاك 830 مقعداً الى مسرح روماني لوليمة خيالية. عمالقة وملوك وجنود ورجال عاديون وراقصات ومهرجون يتوزعون حول الموائد ويحيون. كل هذه التماثيل لا تستعيد "ساتيريكون" فقط. خداج في الأغلب لا يكرر انتاج فلليني، كما ان فلليني لم يكرر انتاج قطعة كلاسيكية من الأدب الروماني. تتسلق اطلال المسرح فترتجف ألواح الخشب المكسورة تحت قدميك وتخشى السقوط. تقف بين الأنصاب البيضاء والسوداء في نور الساعة الثالثة عصراً المتدفق من ثقوب السقف ومن النوافذ المحطمة فينتابك خوف. هنا، في قمة القبة، يخفت صوت المطاعم الآتي من شارع المعرض. هنا، بين الأنصاب الرومانية، حيث علقت بقرة مذبوحة وانطرحت امرأة على جنبها وسقط جنرال على المائدة، تقف ناظراً الى الأبيض والأسود وترى - عبر فجوة في الحائط - السيارات في الأسفل تعبر الشارع العريض الذي يقطع ساحة البرج ساحة الشهداء الخالية إلا من الحصى والرمل والأخيلة. تقف بين الأنصاب الجامدة وتخاف. دخلت المكان وحدك، فكيف تعلم انك هنا حقاً، انك على قيد الحياة، في القرن ال21، وأنك لست احد هذه الأنصاب، احد هذه التماثيل المنتشرة حول موائد روما القديمة... في قلب بيروت الآن؟ بيروت 2002: المعرض شارع المعرض ذاته يظهر على غلاف رواية رينيه الحايك الجديدة: "بيروت 2002" المركز الثقافي العربي، 2002. هذا الشارع الذي بات اليوم رمزاً للوسط التجاري وللمدينة الخارجة من الدمار، أُعطي اسمه في نيسان ابريل 1921. في ذلك الزمن البعيد نظمت السلطات الفرنسية المنتدبة معرضاً للصناعات المحلية والفنون والحرف، هدفه "تحسين سمعتها" وتبيان قدرة "اقتصاد دول المشرق على اجتذاب رؤوس اموال اجنبية". توزع هذا المعرض على ساحة البرج، وعلى "جزء من شارع اللنبي بين شارع ويغان وشارع الأمير بشير... وعرف هذا الجزء منذ ذلك الحين بشارع المعرض" "بيروت ذاكرتنا"، فؤاد دباس، 1994. في ذلك الزمن البعيد "كان تنظيم المعرض ممتازاً الى درجة انه اثر تأثيراً كبيراً على الزوار الأوروبيين، وكانت اجنحة ساحة البرج وكشوك شارع اللنبي مضاءة ليلاً". ما نقرأه في كتب التاريخ عن بيروت زمن الانتداب الفرنسي يثير الخيال. اليوم لا احد يكتب هذا "العلم" الذي نسميه التاريخ. في هذه الأزمنة المضطربة تُعطى هذه الوظيفة لآخرين: لرسامين او مصورين او شعراء لِم لا؟ أو روائيين. تكتب رينيه الحايك في روايتها الخامسة عن شخصيات تحيا في بيروت الآن. رجل عجوز فيليب وثلاثة طلاب في الجامعة الأميركية رجا ورلى وجوزيف يروون - في خمسة فصول - حياة تسعى الى الهدوء وسط اضطراب العالم. العجوز فيليب يتذكر بيروت القديمة، ويتذكر بيوتاً تتوزع بين "توت وتين ونخيل وبرتقال"، ويتذكر "بولنديين وصلوا الى بيروت بأعداد كبيرة إثر الغزو الروسي لبلادهم". حفيده رجا لا يعرف شيئاً من هذا التاريخ. الشاب اليتيم يعيش في الحاضر. يسمع الأغاني الأجنبية، يتجول مع اصحابه بين مطاعم ومراقص وشوارع ليلية، ويحب فتاة لا تنتبه انه موجود. الفتاة رلى لا تعرف اين يأخذها درب الإدمان. نهايتها التراجيدية ندركها بعد فصول كابوسية تمزج بيروت الواقع ببيروت الخيال: "الشارع بإسفلته الرطب يذكرني بأحد احلامي، حيث امشي في شوارع اعلم انها بيروت. لكنني لا اجد محلاً او مقهى او بناية اعرفها. كلها غريبة، الوجوه خلف الشرفات جامدة كأنها داخل صور فوتوغرافية. المباني بلا مداخل وكذلك المحلات. المقاهي لا شيء فيها سوى ركام من الأخشاب والكراسي المخلّعة. الإسفلت يختفي. الطرق موحشة، تمتلئ بالحصى. ابحث عن بيتي طويلاً. كل شيء يعتم. ادب على اربع حتى اصل. لا اجد من بيتي إلا جداراً واحداً ليس من باطون حتى. احجار مرصوفة فوق بعضها. الريح كلما هبت تسقط بضعة حجارة منه". رلى تغادر بيروت اللحظة الحاضرة، الى بيروت اخرى مخفية في اعماق مظلمة. بيروت الماضي ام المستقبل؟ كلماتها تعطيك بجمل مقتضبة صلبة احساساً مشابهاً لمعرض "ذاكرة بيروت" في شارع "المعرض": في رمشة عين تنتقل من "الوسط التجاري الآن" الى الوسط التجاري في زمن الحرب. المتاريس والخراب والوحل. سمير خداج، في معرضه الرؤيوي الروماني، يُظهر ايضاً شخصية "تدب على أربع". هل هو المهرج؟ ام المرأة الخليعة؟ ام الرجل المملوء طعاماً يهوي؟ ام الكائن المتخم بالفراغ؟ لا نعرف نهاية رلى إلا في الفصل الرابع ما قبل الأخير الذي يرويه جوزيف. تموت رلى بجرعة مخدرات زائدة، ويمشي جوزيف طالب الطب تائهاً في حرم الجامعة الأميركية. رجا، في المقابل، يمضي الى مقهى على البحر. تترك رينيه الحايك شخصياتها معلقة في الفراغ، لكنها لا تمنع عنها الأمل. تلتقط حياة بيروت ما بعد الحرب وتحولها الى رواية. سمير خداج يسند الأنصاب الى حافة طاولة، الى جدار السينما المهدمة، الى درج، الى نافذة محطمة تطل على ساحة البرج لا على البحر. يسندها الى فراغ يتحول مادة بقوة الرغبة وبرغبة الحواس. الإصرار على البقاء. ما عرفه داروين قديماً نعرفه الآن. يريد الإنسان ألا يفنى. برنارد شو سمّى ذلك "قوة الحياة". الصور الفوتوغرافية في شارع المعرض دليل الى هذه "القوة". أسطورة طائر الفينيق حاضرة. وحضورها يبعث على الأمل. لكن الصورة لا تكتمل من دون الجانب الغارق في الظلال. هناك، في تلك المساحة المعتمة الغامضة، يتحرك الأدب. هناك، في تلك المساحة الغامضة، لا يربى الأمل من دون خوف وقلق وإحباط ووسواس وخشية. بيروت مدينة المستقبل على تقاطع طرق. الجدل الدائر منذ انتهت الحرب منذ الحرب، ومن قبل ان تبدأ الحرب ما زال دائراً. هذا ليس سيئاً. المهم ان نُربي الأمل، ولو مع الخوف.