رواية رينيه الحايك الجديدة "بيروت 2002" تصدر قريباً عن المركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء. في كتابها السابع، بعد اربع روايات ومجموعتين قصصيتين، تتابع رينيه الحايك بحثاً دقيقاً عن تفاصيل وأحاسيس وذكريات في حياة شخصيات وأمكنة، حياة تعثر على معناها بينما تُعاش. هنا مقاطع من الرواية: أذهب الى مونو. أركن السيارة في كاراج البناية. جدي ليس في البيت. لا يزال في ضهور الشوير. أجد مفاتيح بيت أهلي في الجارور الثاني من الخزانة، في مكانها القديم. أغراض جدتي اختفت من الأدراج والخزانة. لا شيء سوى تايور واحد مغلف بالنيلون. الستائر السميكة تمنع نفاذ الضوء. كأنه آخر العتمة لا عز النهار. أمشي في الاحياء القديمة نفسها. آتي وحدي، للمرة الأولى، من دون ان يرغمني احد. امسح العرق عن جبيني بمحرمة ورق. الناس في قمصان خفيفة. الطقس دافئ، لكن الغيوم تحجب السماء والشمس. لون رمادي اغبر يمتد فوقي. لا ألتفت الى بيت العجوز قبالة بيت اهلي. اعلم انها لم تبرح مكانها خلف زجاج النافذة. كأن التحديق وسّع عينيها المخيفتين. المطعم تحتنا علّق لافتة عليها مصباح شبيه بتلك الموزعة في حديقته الخارجية. قربه اسم المطعم بأحرف صينية او يابانية. رائحة سمك وخضار مقلية وبهارات اشتمها ما إن اقترب. الكراسي لا تزال مرفوعة فوق الطاولات. البلاطات الصغيرة لم يجف الماء عنها بعد. عامل يسقي النباتات، وأشجار البونساي بخرطوم ماء. السلالم نظيفة. انظر الى لوحة الفسيفساء امام مدخل البيت. انتبه الى ان عدد الاحجار الناقصة زاد. في صغري كان هناك ثقب في ذيل الحصان. الحصان اليوم بعين واحدة. الفارس فقد السوط. لم يبق منه الا القبضة، كأنه يحمل مدية او خنجراً من دون شفرته. الحجارة الناقصة في لحيته، تظهره كالمصاب بمرض جلدي. احس ان المفتاح في قفل باب الحديد يتكّ بقوة ويطمس خرير ماء الخرطوم. الهواء في الشقة مملوء بالغبار. اعطس مرات عدة. رائحة الاغلاق تدغدغ انفي. اشتم عفونة خفيفة. ماذا يمكن ان يتعفن هنا افكر. لا اطعمة. لا شيء. الكنبات المغطاة بالأبيض، تشبه جثثاً في مشرحة. افتح الستائر. بعضها لا ينفتح. الصدأ يعوق سكّتها. الامطار خلفت وحولاً فوق الواجهات الزجاجية. اعجب من مقدار الغبار المترسب فوق الطاولات. من اين يأتي وكل شيء محكم الاغلاق؟ مسكة باب المطبخ تسقط ارضاً ما إن احركها نزولاً. احاول اعادتها مكانها. لا انجح. سأجرب تصليحها بعد قليل افكر. البيت كما حفظته في ذاكرتي مختلف جداً. حتى توزيع غرفه اختلط على مر السنوات ببيوت اخرى سكنتها او اقمت فيها لفترة. الشرفة اتذكرها اوسع والسقف اعلى. اعشاب تنبت الآن عند جانبي مصرف المياه وبين شقوق البلاط، الطلاء تقشّر عن جدرانها. اكياس نيلون وعيدان يطيرها الهواء من جهة لأخرى. افكر ان اهتمام جدتي بالبيت لم يبعث فيه حياة. كأنه مهجور منذ قرن لا من بضعة اشهر. ارفع الملاءة عن الكنبة. غيمة غبار تعبق في جو الصالون. اجلس ماداً قدمي فوقها. اتأمل الحفر الدقيق في خشب ظهرها. يتقوس كالقبة. اعشاش العناكب عند زوايا السقف وأقدام الكنبات وأسفل طاولة السفرة. وبر المخمل تساقط. ملمس القماش خشن. احدق بغرفة السفرة قبالتي. في واجهتها الزجاجية تماثيل وأواني كريستال، فضيات معتمة، زال بريقها، يتوسطها شمعدان كبير، تبدو من بعيد كأنها من قصدير. الصور في وسط الواجهة داخل اطارات من فضة وخشب ونحاس. لا أتبيّن من بعيد. ينزل الماء من الحنفية موحلاً صدئاً. اتركها مفتوحة قليلاً. يزول اعتكارها فأغسل وجهي. اجففه بمحرمة ورق. اسمع صوت الثاقب، طرطقة الاخشاب وحجارة الباطون، هدير خلاطة الاسمنت وصراخات العمال مقبلة من ورشة ترميم الكنيسة. تجرى اعمال الترميم فيها من قبل دخولي الجامعة. مرة كنت امر في الزاروب. اوقفني العمال. قالوا لي ان اعود أدراجي. الطريق مقطوعة. رفضت لأنني مستعجل. اشار احدهم الى البورة امام الكنيسة. عامل راقد في وسطها. يئن فيما الدماء تكرج من رأسه ووجهه وقدميه. قالوا سقط عن السقالة، ينتظرون الاسعاف. احزنني مشهده. فكرت انه هو ربما من اسمعه يغني كلما مررت بالحي. لا اصدق ان جدتي ابقت كل شيء على حاله هكذا. في خزانة المطبخ، اجد فوطاً. آخذ واحدة لأجفف بها وجهي ويدي. اغسلهما مراراً. علّني ابرد جبيني الملتهب. ألوان الفوط مطابقة لألوان الستائر. لكنها حافظت على رونقها عكس الستائر. صار أبيضها رمادياً وأخضرها فاتحاً جداً. الخطوط فيها كأنها محيت. في الجارور الآخر مآزر كثيرة، مطوية بعناية. هل كانت أمي تربطها حول خصرها؟ أكانت هي من يجلي ويعد الطعام، ام هناك خادمة تقوم بدلاً منها بذلك؟ أقف عند يمين الشرفة. استند الى الجدار. اضع كأسي فوق الدرابزين. اتأمل حديقة المطعم. من ناحيتها اسمع موسيقى لشوبان. رجل خمسيني تجلس قبالته امرأة تبدو زوجته. إناء ورود بيض وصفر يتوسط الطاولة. حولهما الطاولات فارغة. تنعكس اشعة الشمس فوق السكاكين والشوك فتلمع بقوة. كأن شيئاً لم يحدث، افكر. التلاميذ يذهبون الى مدارسهم. الموظفون الى اعمالهم. الاساتذة يلقون محاضراتهم. شاحنات سوكلين تجمع النفايات. خبر موجز في صفحة الحوادث المتفرقة: "وُجدت بعد ظهر امس جثة رلى ن. 21 عاماً في شقة وليد ب. 22 عاماً في منطقة القنطاري - الحمرا. تبين بعد معاينة الطبيب الشرعي ان الوفاة ناتجة من جرعة مخدرات زائدة. والتحقيقات جارية لكشف ملابسات الحادث". أنظر الى قصاصة الورق، اطويها. اعيدها ثانية الى جيب بنطالي. استلقي على الفراش المغلف بالنيلون. افكر ان جسد احدهما كان يستقر في هذا الانخساف. من كان ينام على هذه الجهة، امي ام ابي؟ * العرق يتصبب من جسدي. نيلون الفراش يترك علامات حمراً عند جانبي وجهي ويدي. اضيء المصباح قرب السرير. ضوء شفاف تعكسه القماشة الحمراء. عطش شديد احس به. لا ماء هنا للشرب. ادخن السيجارة الاخيرة. اسمع رنين الخلوي يتردد كأنه لن يتوقف ابداً. يسكت لدقيقة ثم يعود ثانية. ثيابي مجعوكة. افتح الخزانة. الدرف السفلية مملوءة بقمصان وبنطلونات صيفية. آخذ بنطلوناً رمادياً. رائحة النفتالين تعبق في انفي. ارتديه. يبدو قصيراً وواسعاً عند الخصر. اختار حزام جلد كلاسيكياً. معظم الاحزمة الاخرى عريضة. في الدرف العالية ثياب شتوية وجاكيتات جلد ومعاطف وبذلات رسمية. الكنزات مرصوفة فوق بعضها. اكياس صغيرة من الخزامى موزعة بين الرفوف. في الادراج، ثياب داخلية وجوارب. في الدرج الاخير اجد علاقات مفاتيح، قداحات رونسون ودوبون، محافظ جلدية، ساعة بسلسلة، نقود معدنية، خمسة قروش، ربع ليرة، نصف ليرة، فرنكات فرنسية. زنجار اخضر عند اطرافها. المصابيح في المطعم تنير السلالم التي انزلها على مهل. اضع يداً فوق معدتي. اضغطها لأخفف من التقلصات. المطعم فارغ الآن. العامل يمسح الطاولات. يلمّع الكؤوس بمنشفة جافة. الورشة ساكنة. تبدو مهجورة منذ زمن. اخشاب مرمية كيفما كان. اكياس الترابة المفتوحة مبعثرة فوق ساحة الرمل. كأنهم ساعة الانصراف يتركون كل شيء في فوضاه. لا احد امام النوادي الليلية. ابوابها مغلقة. الوقت باكر على السهر. كلب كبير يعوي باتجاهي، تشد صاحبته حبله، تسكته. لا يفعل. ينبح متفرساً في وجهي. اعبر الى الناحية الاخرى. امام المطعم ثلاث سيارات مرسيدس سود. يقف عند ابوابها حرّاس في بذلات كحلية وقمصان بيض. نظارات شمسية تخفي اعينهم. لا اجد دكاناً مفتوحاً الا في شارع عبدالوهاب الانكليزي. اشتري ماء، ربطة خبز، سجائر، قالب جبن، وشومبواناً، اسنفجة وسائلاً للجلي. الكيس ثقيل. طوال سيري انقله من يد الى اخرى. ما ان اصل حتى يقرع بابي نادل من المطعم. قالب من الكاتوه والبوظة هدية ترحيب من صاحب المطعم. يأمل الا تزعجني الموسيقى والاصوات. اضعه في الثلاجة. الكهرباء موصولة الى البراد على رغم خلوه من الاغراض. يذكرني الضوء فوق الرفوف الفارغة بالمستشفى. اضع الخبز والجبن والماء فيه. ألبس بيجامة زرقاء. اعتاد على رائحة النفتالين. اقعد على كرسي صغير مبطن بالساتان امام المزينة. ارى وجهي مشوهاً في المرآة البيضاوية. رصاصة حولت زجاجها الى قطع صغيرة. لا ادري لمَ لم تبدل جدتي المرآة. هذا ليس من عاداتها. على المنضدة أمامي: كريم لليدين، للجسد، منظف للوجه، قنينتا عطر: كريستيان ديور وإيستيه لودر، فرشاة للشعر، مزيل للرائحة ماركة مانيوليا. في الادراج امشاط وربط للشعر، دبابيس لماعة للسهرة، اخرى ملونة او سوداء، اقراط، اساور افريقية عريضة من فضة وجلد وخرز ملون. في الجارور الثاني، دفتر تذكارات اتصفحه. بعضهم يلصق خصلة شعر قريباً من عباراته. ألبومان للصور. امي صغيرة بين والديها. اتأمل هذه الوجوه. لم اعرفها. نمش ينقط اعلى وجنتي جدتي. لا تنظر الى عدسة المصور. تحني رأسها، تبتسم لأمي فيما يدها فوق رأسها. جدي يقف ثابتاً، تجاعيد كثيرة عند طرف عينيه. اقلب الصور. امي تكبر. صديقاتها ايضاً. سلاسل غليظة تتدلى من الاعناق، اقراط تكاد تلامس الاكتاف، تسريحات عالية، تنانير قصيرة، بنطلونات واسعة، احذية ذات كعوب عريضة وعالية. صور تخرّج وحفلات. رسائل، بطاقات. اقرأ رسالة من صديقة اسمها رباب. تحكي عن غرفتها داخل المبنى الجامعي. الصعوبة التي تواجهها في الدرس. الحرية التي يتصرف بها الطلاب. عن اول سيجارة دخنتها في حفلة تعارف اول السنة. غلاء المعيشة. شوقها الى حر افريقيا. في Grenoble لا تشعر بالدفء أبداً. اجد ماكينة حلاقة كهربائية ماركة براون. جلود الأحذية متيبسة قاسية في الخزانة. في خزائن الرواق ملاءات وشراشف للأسرّة، اغطية للوسائد، مناشف من كل الأحجام. رائحة النفتالين نفسها. أفرد شرشفاً أصفر فوق الفراش. أرشّ فوقه نقطاً من الكحول لتتبدل رائحته. في غرفتي لا أجد إلا السرير الأبيض الصغير ذا الجوانب العالية. على الستائر رسوم لأولاد يلعبون بالطابة، يقفزون فوق الحبل. الخزانة فارغة. في أحد أدراجها، اجد مريلة عليها تطريز لدبّ صغير. كم كان عمري عندما كانوا يربطونها حول رقبتي. شهران، ثلاثة؟ أغان لمطربين قدامى اسمعها الآن من جهة المطعم. اللمبة محروقة في غرفة الجلوس. أفتح التلفزيون، أقلّب المحطات. لا شيء. ثم صورة مغبشة بالأبيض والأسود لمذيعة على تلفزيون لبنان. صاحبة الدكان تعتاد رؤيتي. تبتسم ما إن تراني في الباب. أنقع الثياب الوسخة. أفركها قليلاً ثمّ أنشرها فوق الحبل جهة المطبخ. الغسالة لا أجيد تشغيلها. من يضمن أنها لا تزال صالحة بعد عشرين سنة. في المساءات أسمع على الفونوغراف اسطوانات أبي Bee Gees وElvis Presly وPink Floyd وRolling Stones. أغاني فيروز وأم كلثوم. أضبط الراديو على موجات الF.M. أتصفّح كتب الهندسة في مكتبة أبي، كتب الطبخ الافريقي، الإيطالي، الصيني، التايلاندي، موسوعة ينيفرساليس، مجلات الديكور كتباً عن تربية الأطفال. أمشي طويلاً. احياناً الى حديقة السيوفي أو بالاتجاه الآخر ناحية المرفأ. على شرفات البيوت ارى أعلاماً كبيرة لإيطاليا وإنكلترا والبرازيل وألمانيا. أمام الدكاكين أعلام صغيرة يلوّحها الهواء. أصوات المعلّقين الرياضيين تتردد في الليل. تطغى على موسيقى المطعم. من الشرفة حيث اجلس ليلاً، لا أرى إلا بنايات بعيدة.