حق العودة مقدس لكل فلسطيني، قانوني معترف به لدى المجتمع الدولي، ممكن عملياً حسب الدراسات العلمية الجادة. فمن يحاربه إذن؟ أطراف عدة، أولها إسرائيل بالطبع. لقد أعلن بن غوريون قبل انشاء دولته ان تدمير المجتمع الفلسطيني شرط لقيام إسرائيل. وبعد قيام الدولة بأسبوعين، أعلنت حكومة إسرائيل الموقتة رفض عودة اللاجئين تحت أي ظروف، مما دعا الوسيط الدولي الكونت فولك برنادوت إلى إعلان توصياته المتكررة بضرورة عودة اللاجئين إلى ديارهم، وآخرها تقريره المهم في 16/9/1948، الذي صدر قبل يوم واحد من اغتياله على يد الإرهابيين الصهاينة، والذي أصبح القاعدة لإصدار قرار الأممالمتحدة الشهير رقم 194 القاضي بحق عودة اللاجئين إلى ديارهم. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، لا تزال إسرائيل تحارب حق العودة ولكن بأوجه وأسماء مختلفة، منها مؤسسات بحث غربية وإسرائيلية، ومؤتمرات وندوات بأشكال وألوان الطيف المتعددة، كلها لها غرض واحد: تدمير أسس القانون الدولي بتجاهله أو اعتباره غير ممكن التطبيق. وهي كلها مبررات واهية، ويسهل دحضها، كما تبيّن ذلك في الدراسات القانونية والعلمية الجادة. وخلال نصف القرن الماضي، تقدمت إسرائيل وحلفاؤها بأكثر من 40 مشروعاً للخلاص من قانونية حق العودة، واقتراح مشاريع بديلة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في أي مكان في العالم عدا وطنهم، ودفع التعويضات لهم، من جيوب الغير، مقابل بيع بيوتهم وأراضيهم لإسرائيل بأثمان شبه مجانية، حتى تصبح هذه ملكاً شرعياً لإسرائيل بتوقيع أصحاب الحق. وعلى رغم ويلات خمس حروب كبيرة وعدد لا يحصى من الغارات والقتل والتدمير لكل مكان يوجد فيه اللاجئون في فلسطين وأي بلدي عربي، فقد رفض اللاجئون مشاريع التصفية هذه، وفشلت جميعاً. ووجدت إسرائيل في اتفاقية أوسلو فرصة لإعادة الكرة، فحاولت انتزاع الاعتراف باسقاط حق العودة من السلطة الفلسطينية في محادثات كامب ديفيد الثانية، ففشلت. وبقي الموقف الرسمي صامداً بجانب حق العودة إلى اليوم. على أن اتفاقية أوسلو قد انتجت عدداً من البثور على الجسم الفلسطيني، داعية إلى اسقاط حق العودة على أساس العقلانية والواقعية. وتعهدت إسرائيل وبعض الدول الغربية هؤلاء المنشقين والمارقين بالرعاية، والإبراز في الصحف العالمية ووسائل الإعلام، وتدفق الأموال الداعمة لهذه الجهود. بعد أوسلو، ظهرت أعداد كبيرة من الجمعيات الأهلية التي يدعمها الغرب مالياً. وعلى رغم أن معظمها يعمل عملاً جاداً مفيداً للمجتمع الفلسطيني، إلا أن بعضها خدم الأهداف المعادية للحقوق الفلسطينية. ويتحكم التمويل في اتجاه هذه الجمعيات إلى حد كبير. هذه جمعية "شرقيات" التي تعمل في غزة، لتنوير النساء عن حقوقهن الشخصية والعامة، كانت تتلقى تمويلاً منتظماً لعملها، وعندما بدأت الجمعية في تنوير النساء عن حقوقهن في البيت والمأوى، وبالامتداد، في حق العودة إلى ديارهن عام 1948، انقطع عنها نصف التمويل! على أن أخطر الجمعيات على الحقوق الفلسطينية هي التي توحي لصناع القرار السياسي في أميركا وأوروبا أن بالإمكان اسقاط حق العودة بكثير من الضغط السياسي والقليل من التمويل، وأنه بالإمكان قبول الفلسطينيين بإسقاط هذا الحق، لأنهم لا يؤمنون به أصلاً أو لا يؤمنون بإمكان تحقيقه يأساً واحباطاً. ويقود هذا الرأي خليل الشقاقي الذي انتقل من مركز متواضع للدراسات في جامعة النجاح إلى مركز فخم في رام الله، تغدق عليه الأموال من الغرب وحتى اليابان، ويتمتع باستقبال حار في دوائر السياسة الغربية، لا يحظى به من يؤيدون حق العودة من اللاجئين. وتستمد الحملة الأخيرة لمركز خليل الشقاقي مادتها من تسويق ما قيل عنه "اتفاقية طابا" التي تعتمد على بندين: البند الأول، اعتراف إسرائيل الصوري بحق العودة مع افراغه من معناه. والبند الثاني، تقديم المغريات والحوافز والجوائز كافة لمن يقبل استمرار عملية التنظيف العرقي التي تعرض لها الفلسطينيون عام 1948 أو يقبل عملية تنظيف عرقي جديدة، إما بالتوطين أو بالترحيل إلى أي بلد آخر عدا المواطن الأصلي الذي هجروا منه. وهذا بالطبع تسويق لجريمة من جرائم الحرب، يتعرض مروجوها إلى عقاب محكمة الجنايات الدولية التي تأسست بموجب ميثاق روما في عام 1998. وبينما يعلم أي شخص مهتم بالشأن العام، حتى ولو لم يكن مختصاً، أن الغالبية الساحقة من اللاجئين تطالب بحق العودة، نجد أن الدراسات المسحية لمركز خليل الشقاقي تقول إن نحو 13 في المئة فقط من اللاجئين يريدون العودة. كيف هذا؟ تسأل الدراسة في الجزء الرابع منها، المختص بحق العودة إلى الديار عام 1948 أسئلة مثبطة ومنفرة، مثل، هل تفضل حمل الجنسية الإسرائيلية؟ فإن رفض، سُئل: هل تقبل التعويض؟ أو: هل تقبل بالخدمة الوطنية أي التجنيد في الجيش الإسرائيلي؟ فإن رفض: هل تقبل بالتعويض؟ أو: إذا تبين لك ان سكنك قد دمر وبني فوقه، هل تقبل بذلك أم ترفض العودة وتقبل بالتعويض؟ لاحظ الربط. وفضلاً عن الأهداف المعادية للحقوق الفلسطينية التي تخدمها الدراسة، فإن بها أخطاء قانونية ومنهجية فاحشة. بداية لا يجوز الاستفتاء على الحقوق غير القابلة للتصرف، فهي حقوق مطلقة لا تسقط بالتقادم أو العقبات، كذلك لا يجوز قيادة المستجوب إلى اتجاهات متحيزة. وكذلك هناك شكوك كبيرة في أن تكون الدراسة قد تمت أصلاً في لبنان والأردن. لكن مثل هذه الدراسات تلقى آذاناً صاغية وأموالاً طائلة في الغرب، وتؤثر سلباً في قرارات تلك الحكومات حول موقفها من فلسطين. وهناك أشخاص يظهرون بانتظام في المحافل الدولية التي يدعون إليها بانتظام، ينتقصون من حق العودة بأشكال مختلفة. منهم شخص، يعمل في الجامعة العربية في الخارج ولكنه لا يتحدث باسمها، يدعو في كل مناسبة إلى أن اللاجئين لا يرغبون في العودة، ويذكّر بسوء معاملتهم في البلاد العربية، وضرورة تحسين معيشتهم وإقامتهم هناك. وهذا أمر لا بأس به، لو كان الغرض هو الاحتفاظ بحقهم في العودة. لكنه ليس المقصود. وهناك شخص يعمل في جمعية أهلية في الضفة يتبنى اعتبار اللاجئين مشكلة اجتماعية انثروبولوجية تعالج مثلما تعالج المشاكل الرعوية في مانشوريا. هذه الشخصيات النكرة ليس لها وجود لدى مجتمع اللاجئين ولا صدقية بالطبع. ولكنهم يعملون لإجهاض الحقوق الفلسطينية لدى دوائر السياسة الغربية، سواء عن طمع أو طموح أو جهل أو شيء من هذا وذاك. على أن سري نسيبه يتميز بمركز خاص بين الداعين إلى اسقاط حق العودة. فهو حامل ملف القدس سابقاً ورئيس جامعة القدس وضيف دائم لدى الجامعة العبرية وجامعة تل أبيب. ولذلك فإن مهمته سياسية واضحة ومعلنة. لقد تحالف سري نسيبه مع عامي عيالون رئيس الاستخبارات الإسرائيلية شين بيت، المسؤولة عن تعذيب الفلسطينيين وقتلهم، في حملة دعائية مدفوعة الأجر، تدعو إلى اسقاط حق العودة، تحت شعار عودة اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية إن وجدت، وتكون هذه دولة الفلسيطينيين، بينما تبقى إسرائيل دولة يهودية. وبالإضافة إلى أن هذا الطرح معاد للحقوق الفلسطينية، فهو يحتوي على مغالطات قانونية ومخالفة لحقوق الإنسان… إن قيام الدولة الفلسطينية عمل سياسي يتفق عليه دولياً من أجل بسط سيادة الدولة على رقعة من الأرض. وهذا العمل قد يقبل أو ينقض أو يتسع مداه أو ينكمش. أما حق العودة فهو حق غير قابل للتصرف، لا يسقط بأي شكل، ولا تجوز فيه المقايضة، ويجب تطبيقه بعودة اللاجئ إلى البيت الذي هجّر منه أصلاً بغض النظر عن السيادة المفروضة على ذلك المكان وهي سيادة إسرائيل حالياً. ولذلك ليست هناك علاقة قانونية بين إقامة الدولة وحق العودة، فهما حقان منفصلان. ولهذا السبب، قبلت إسرائيل في عضوية الأممالمتحدة بشرط قبولها قراري الأممالمتحدة: قرار التقسيم 181 وقرار عودة اللاجئين 194. أما الاعتراف بأن إسرائيل "دولة يهودية"، فهو تصريح لها بإبادة أو ترحيل الفلسطينيين المواطنين فيها، عدا عن إقرار مطلبها باسقاط حق العودة، وكلا الأمرين شجبهما المجتمع الدولي مراراً. وعلى سبيل المثال، جاء في قرار لجنة الأممالمتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في 23/5/2003، المادة 18، ان اللجنة قلقة من معنى القومية اليهودية التي تستعمل أساساً للتفرقة العنصرية لمصلحة اليهود، حتى لو لم يكونوا مواطنين في إسرائيل، والتحيز ضد العرب حتى وهم مواطنون في إسرائيل. وتلقى حملة سري نسيبه استنكاراً شديداً في المجتمع الفلسطيني، أدى إلى إلغاء اجتماعه مرة، وضربه مرات على أيدي الجمهور الغاضب. ولكن يبقى التطبيل والتزمير لسري نسيبه في "نيويورك تايمز" وغيرها، وتلقيبه ب"أمير القدس"… وتبقى الغاية الوحيدة من كل ذلك هي التشويش على حق العودة. وعلى رغم أن السلطة الفلسطينية لا تزال باقية على تمسكها بحق العودة، إلا أننا نجد أفراداً بها، يشذون عن القاعدة تحت مسميات أكاديمية. فقد دأب خليل نجم، في وزارة التخطيط، منذ أن كان وزيرها نبيل شعث، على تقديم دراسات، في الغرب فقط، على استيعاب الضفة الغربية للاجئين، تحت مسميات "المهاجرين أو العائدين" إلى الدولة. وهذا بالطبع مخالف لحق العودة. لكن هذه الدراسات، التي لا بد أنها تمت بموافقة الوزير، تظهر تباعاً في مؤتمرات غير معلنة، منها مؤتمرات تنظمها لندن وكندا، وتتلقفها الصحافة الإسرائيلية. وجاء في مقال للمعلق السياسي أكيفا إيلدار في صحيفة "هآرتس" تحت عنوان "خرافة العودة أو مشكلة اللاجئين" بتاريخ 26/6/2003، يقول فيها عن مؤتمر غير معلن عقد أخيراً في اوتاوا، "انه في كل مرة، يقدم فيها أحد المشاركين خطة لاستيعاب اللاجئين خارج إسرائىل، يقوم شخص بالمطالبة بحق العودة. ولكن بعض المشاركين من الأراضي الفلسطينية هم الذين يتجهون إلى اسقاط الشعارات القديمة مقابل حلول واقعية". وهكذا يكيلون المديح لمن يتخلون عن حقوقهم. وهو الأمر الذي ترحب به الدوائر الغربية، وتموله، وتعتمده في سياساتها ضمناً، إن لم يكن علناً دائماً. وعلى رغم هذه البثور التي تظهر على الجسم الفلسطيني، فإن هذا الجسم قوي وقادر على الدفاع عن حقوقه. إن حركة الدفاع عن حق العودة قوية جداً في انحاء العالم. إذ عقدت مؤتمرات في لبنان وسورية والأردن وتورنتو، وستعقد مؤتمرات أخرى في غزةولندن هذا الشهر لتؤكد التمسك المطلق بحق العودة. ولم يحدث في التاريخ الفلسطيني الحديث أن انتشرت الدعوة إلى التمسك بحق العودة كما هي اليوم، سواء كان ذلك في مخيمات رفح والدهيشة أو المدن الأوروبية أو الجامعات الأميركية. ولا شك أن حركة الدفاع عن حق العودة ستتفاعل أكثر وتؤدي إلى تنظيمات ثابتة فعالة، جلّ اعضائها من الجيل الثالث للاجئين الذين يتمتعون بالقدرة والكفاءة والثقة بالنفس. وأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. * رئيس هيئة أرض فلسطين، لندن.