عاد حق العودة الى الظهور مجدداً على المسرح الاسرائيلي، لا ترحيباً به، ولكن ترحيباً بنقضه والغائه وتذويبه. في تشرين الأول أكتوبر الماضي، أفردت الصحف الاسرائيلية والصهيونية في أميركا مساحات واسعة لتصريحات سري نسيبه التي طالب فيها الفلسطينيين باسقاط حق العودة. وفي كانون الأول ديسمبر الماضي، صرح ياسر عبد ربه في واشنطن بإصرار السلطة الفلسطينية على التمسك بحق العودة حسب قرار 194 رمزياً، من حيث المبدأ، بحيث لا يؤثر ذلك على الطابع اليهودي لاسرائيل. وجاء مقال ياسر عرفات بصفته رئيس السلطة الفلسطينية في "نيويورك تايمز" في 3 شباط فبراير 2002 بعنوان "رؤية فلسطينية للسلام" يعكس هذه التوجهات ولكن بلغة حريصة حذرة. أهمية المقال انه بقلم الرئيس ياسر عرفات، ولم يعد هناك شك في انه الرأي الرسمي وإن لم يكن الرأي الشعبي أو حتى الرأي البرلماني الفلسطيني. والسؤال المهم هنا هل هذا التوجه الغاء لحق العودة، أم تخفيف له، أم تطبيق كامل له حسب القانون الدولي. الحقيقة البسيطة ان حق العودة حق غير قابل للتصرف وهو حق مكفول بالميثاق العالمي لحقوق الانسان والمواثيق الاقليمية الأخرى، وهو تطبيق للقانون الدولي تم تخصيصه للاجئين الفلسطينيين في قرار الأممالمتحدة رقم 194 الذي تم تأكيده أكثر من 135 مرة، وهو ايضاً نابع من حرمة الملكية الخاصة التي لا تنقضي بالزمن ولا بالاحتلال ولا بالسيادة على الأرض. وهو حق فردي لا تجوز فيه الإنابة أو التمثيل، وهو حق جماعي تطبيقاً لحق تقرير المصير. وهذا كله يتناقض مع كونه مشروطاً لأي سبب، أو مسبوقاً باتفاق يخل بشرعية أو حدود تطبيقه. وحيث ان هدف اسرائيل الثابت هو إنكار حق العودة، لذلك لجأت اثناء المفاوضات الأخيرة الى تغليف إنكار حق العودة للتمويه، مثل قبول مبدأ حق العودة رمزياً، ولكن يترك لاسرائيل تحديد من يعود ومتى. وهذا بالضبط ما يبدو أنه نتيجة مباحثات طابا في كانون الثاني يناير 2001 مع نبيل شعث التي نشرتها جريدة "لوموند" الفرنسية. ولا ندري على وجه الدقة ما اتفق عليه، ولكنني استفسرت من الدكتور نبيل شعث عن حقيقة الوضع في خطابين شخصيين ولم يصلني رد على ذلك. وفي الوقت نفسه نشر الداعية الاسرائيلي غرشون باسكن تقريراً أنه اجتمع مع نبيل شعث مساء الخميس 21/12/2000 في بيته وخرج بنتائج مشابهة بل وأكثر قرباً من الموقف الاسرائيلي. ورداً على ادعاء يوسي بيلين ان المفاوض الفلسطيني وافق في طابا على الاسقاط الفعلي لحق العودة، أجاب نبيل شعث في مؤتمره الصحافي في كابو لندن في 5/2/2002 ان بيلين لم يقل الحقيقة أو ربما استعمل كلمات أكثر صراحة من هذه. وفي تشرين الثاني نوفمبر الماضي، أرسلت 26 سؤالاً محدداً الى دائرة المفاوضات الفلسطينية لاستيضاح هذا الموضوع، ولم يصلني رد حتى الآن، على رغم الوعود المهذبة. تنصب اسرائيل كعادتها شبكة من التضليل والمخادعة، لا بد أن المفاوض الفلسطيني يدركها جيداً. أولها الاعتراف الرمزي بحق العودة والمسؤولية "المعنوية" عن النكبة وثانيها منح اللاجئ خمسة خيارات: العودة الى موطنه الأصلي حسب الشروط الاسرائيلية، العودة أي الاستيطان في الضفة أو غزة في الدولة الفلسطينية، الاستيطان في دولة اللجوء الحالية، الاستيطان في دولة جديدة والتعويض أي بيع الوطن. وعلى اللاجئ أن يقرر خلال 12 شهراً أي خيار يرغب فيه. والبديهي من هذا العرض، انه اسقاط لحق العودة بالكامل فعلياً. فالخيارات الأربعة هي اشكال مختلفة من التوطين والتعويض، الأمر الذي تسعى له اسرائيل منذ عام 1948، ورفضه الشعب الفلسطيني بشكل قاطع. ثم انه لا مجال لخيارات أو لمدة محدودة يتم فيها الاختيار، في الحقوق غير القابلة للتصرف. قد تنطبق هذه الخيارات على صفقة سياسية أو تجارية، ولكن لا قيمة لها قانوناً في ما يتعلق بالحقوق الثابتة. وليست لها قيمة فعلية، فقد رفض الفلسطينيون التوطين، والتعويض كبديل عن العودة، لمدة زادت عن نصف قرن. وفي المناخ الإعلامي الحالي والمستوى التنويري للاجئين الذي خلقته أكثر من 200 جمعية للدفاع عن حق العودة في أنحاء العالم، لا يبدو أن هناك أي احتمال لقبول هذه العروض المغشوشة. ويجب أن نتذكر أن 30 في المئة من اللاجئين يسكنون في مناطق السلطة الفلسطينية و70 في المئة خارجها، ولذلك فإن التطبيق القانوني والفعلي لقرارات مخالفة لحق العودة أمر مشكوك فيه تماماً. وليس هناك ما يمنع أي لاجئ فلسطيني، حاصل على جنسية دنماركية أو بريطانية أو أميركية، من أن يرفع دعوى من خلال حكومته أو برلمانه لنقض أي قرار يتعلق بحقه الفردي. هذا بالاضافة الى نسبة اللاجئين بالنسبة لعدد السكان الكلي في فلسطين والدول المجاورة، تجعل وجودهم وتحركهم الشعبي ذا أهمية بالغة لتلك الدول، ويكفي أن نستعرض هذه الارقام: في غزة نسبة اللاجئين الى مجموع السكان 72 في المئة، وفي الضفة 35 في المئة وفي الأردن 37 في المئة أو 50 في المئة إذا أضفنا غير اللاجئين منذ 1948، وفي لبنان 12 في المئة وفي سورية 3 في المئة. أما العودة الرمزية للموطن الأصلي في اسرائيل فقد وضعت فيه اسرائيل من العراقيل ما يجعله عديم القيمة، منها أن يكون اللاجئ مولوداً في فلسطين أي عمره فوق 54 سنة، يذهب الى قريته بدون أولاده ليدفن هناك، أو أن يتم توزيع العدد المقدر، الذي يتراوح بين 75.000 الى 150.000، على عدد من السنوات يصل الى 20 سنة. وقد بينت الدراسات ان هذا يعني عودة نصف في المئة من اللاجئين، فأي فلسطيني يقبل بهذا؟ من هنا اكتسبت تنازلات المفاوض الفلسطيني وقبوله بحق العودة مشروطاً بديموغرافية اسرائيل. ان ربط حق العودة، الحق الأساس، بسياسات اسرائيل العنصرية لهو أمر عجيب حقاً. إذ لم يحدث قط ان يصبح الحق غير القابل للتصرف في عودة الانسان الى بيته مرهوناً بقبول المحتل للبيت، وهو الذي طرد صاحب البيت أصلاً، بناء على العقيدة الصهيونية التي نفذت أكبر عملية تنظيف عرقي في التاريخ الحديث. ان هذا تكريس لسياسة اسرائيل العنصرية وقبول بنظام الفصل العنصري. ولم يحدث في جنوب افريقيا ان قبل قادتها السود بسياسات المستعمر الأوروبي، فكيف نقبل بذلك؟ ألم يخطر للمفاوض الفلسطيني ان هذا القبول يعرّض أهلنا في اسرائيل الى خطر جسيم؟ فإذا تم قبول "ديموغرافية اسرائيل" وسياساتها العنصرية، أصبح شرعياً ومقبولاً ان تطرد اسرائيل مليون فلسطيني في الداخل، خصوصاً عندما يزيد عددهم عن ذلك. لقد بيّن مؤتمر هرتزليا في كانون الثاني 2001 ومؤتمر طبريا في الشهر نفسه عام 2002، أن سياسة التنظيف العرقي، أو الترحيل، لا تزال خطة موضوعة من قبل خبراء الأمن والسياسة في اسرائيل. وقد صرح حزب موليدت صراحة هذا الشهر بمطالبته بالترحيل الى شرق الأردن وإعادة تنفيذ نكبة 1948 مرة أخرى. فكيف نعطي لجرائم الحرب هذه صيغة شرعية؟ ولم يذكر لنا أحد تعريفاً واضحاً ل"ديموغرافية اسرائيل" المنشودة هذه! ان عدد العرب وغير اليهود الروس الآن في فلسطين بمناطقها الثلاث غزة والضفة واسرائيل يصل الى 52 في المئة واليهود 48 في المئة، فهل هذا ترخيص بترحيل نصف سكان فلسطين الى الخارج؟ ولو أخذنا الفلسطينيين في اسرائيل وحدهم، الذين تبلغ نسبتهم 20 في المئة من مجموع سكان اسرائيل، أو 26 في المئة من يهود اسرائيل، نجد أنه سيصبح عددهم مساوياً لليهود، حتى مع الهجرة اليهودية التي لن تقل عن 800.000 ولن تزيد عن 1.600.000 خلال 20 سنة وذلك بعد حوالى 50 سنة من الآن. ولن يصبر اليهود على ذلك، فهل نقبل بإبادة جغرافية أو فعلية للفلسطينيين في اسرائيل؟ من الحقائق البديهية، إذا درسنا ديموغرافية اسرائيل بعناية، ان بقاء اليهود غالبية سكانية هو ضرب من الوهم، المقصود به فقط هو التسليم بأن أراضي اللاجئين التي تبلغ 92 في المئة من اسرائيل ملك لليهود، لكي تكون مستودعاً للمهاجرين الجدد. وإسقاط حق العودة والاعتراف بشرعية ديموغرافية اسرائيل ما هو إلا ترخيص من جانب الضحية بالملكية المجانية لأراضي اللاجئين، وطرد ما تبقى من العرب منها. والدليل على ذلك ان 80 في المئة من يهود اسرائيل يعيشون اليوم في 15 في المئة فقط من مساحة اسرائيل. وباستثناء السكان اليهود في المدن الفلسطينية أصلاً، يبقى 2 في المئة من اليهود وهم الذين يسيطرون على أكثر من 18 مليون دونم، التي هي ملك أكثر من 5 ملايين لاجئ يعيشون في المنفى. وإذا أراد اليهود أن يبقوا غالبية، فما عليهم إلا أن يتراجعوا الى المناطق التي توجد فيها كثافة يهودية عالية، أي ان يخلقوا جيتو جديداً، كبيراً نسبياً، له قوة عسكرية كبيرة، وليست له قيمة أخلاقية، وغير قادر على التعايش مع العالم ومع جيرانه بالأخص. إن أي حل للصراع العربي - الصهيوني، وعقدته الأولى عودة اللاجئين، يقوم على غير أساس الشرعية الدولية، لن يكتب له النجاح. أما تبني مبدأ تشامبرلين عام 1939، باسترضاء المحتل والمعتدي، والقبول بإسقاط الحقوق واعطاء شرعية للسياسات العنصرية، فلن يؤدي إلا الى زيادة نهمه واستمرار مطالبته، وسيؤدي بالقطع الى مزيد من الدماء من الجانبين. ولذلك فمن الأولى والأسلم والأشرف لصاحب الحق أن يستمر في المطالبة بحقه حسب الشرعية الدولية ومبادئ العدالة. * باحث فلسطيني، مؤسس هيئة "أرض فلسطين".