ثمة اتجاه غالب على دوائر البحث الأكاديمي ورجال السياسة والاعلام سواء في الولاياتالمتحدة الاميركية أو في البلدان الأوروبية يميل الى صبغ الديموقراطية بقيم ثقافية ومعيارية صارمة المعالم والحدود قوامها رافعتا العلمانية والليبرالية، وهذا ما يعبر عنه عادة بمقولة الثقافة السياسية الديموقراطية، والتي يقصدون بها غالباً القيم السياسية الليبرالية ذات المنابت المسيحية المعلمنة على نحو ما صاغه مفكرو الأنوار. وهكذا تكف الديموقراطية عن ان تكون مجرد أداة للحكم وادارة للشأن العام، لتصبح منظومة ايديولوجية كبرى لا تختلف كثيراً عن الايديولوجيات الشمولية. وبدل ان تكون الديموقراطية أداة لمداولة الشأن العام وادخال أوسع القوى الاجتماعية الى ساحة الحركة السياسية اصبحت مدخلاً للاحتكار والإقصاء، والغريب ان الذين يعكفون اليوم على رسم الحدود وتوزيع العلامات المسجلة هم في صورتهم الغالبة من بقايا يساريين متشددين. واحدة من أهم الخصال التي يتوافر عليها النظام الديموقراطي على سوءاته، هو النجاعة العملية التي اثبتها من جهة قدرته على امتصاص التوترات والصراعات العنيفة والمهلكة في مجال السياسة من خلال ابتداع آلية التداول السلمي على السلطة، اي قدرة الديموقراطية على تحويل العدو الى مجرد خصم سياسي يمكن مقارعته بالحجة وحشد الاصوات، الى جانب قدرته العملية على التخفيف من نزوعات التطرف والعنف بسبب ما يوفره من مساحة واسعة للمناظرة وللمقارعة التداولية والحوارية. وغدا امراً لازماً تجريد الديموقراطية من الحمولة الايديولوجية التي ألصقت بها، وتحريرها من آفتي الاحتكار والاستبعاد، ومن ثم افتكاكها من بين ايدي النخبة وبسطها بين ايدي الناس، والإلقاء بها في قلب حركة المجتمع حتى تتوافر الفرصة الكافية لاختيار النظام الديموقراطي على ارض الواقع، فيحتفظ بما يجب الاحتفاظ به، ويعدل ما يمكن تعديله، وهذا يقتضي فك العلاقة الاعتباطية المزعومة بين الديموقراطية وما يسمى الثقافة السياسية والتشديد بدلاً من ذلك على طابعها الاجرائي الوظيفي. الديموقراطية كما نفهمها هي جملة من الادوات الاجرائية التي تسمح بتنظيم الشأن السياسي في صورة ناجعة، او اذا شئنا تعريفاً اكثر بساطة فهي علاج عملي لداء الاستبداد السياسي لما توفره من آليات ضابطة ومنظمة للحياة السياسية مثل علوية القانون والفصل بين السلطات وتوزيع السلطة بدل مركزتها واستقلال المجتمع المدني عن المجتمع السياسي والسماح بتنظيم الاحزاب والجمعيات المستقلة، ولا يحتاج المرء الى ان يكون علمانياً ولا ليبرالياً حتى يقبل هذه الآليات الوظيفية. ودليل ذلك ان الديموقراطية اشتغلت في الاحزاب العلمانية والدينية على السواء، وتعايشت مع الاستعمار ومطالب التحرير، وتبنتها بلدان ذات توجهات دينية وثقافية مختلفة، وعلى هذا الاساس يمكن هذه الآليات الديموقراطية ان تتفاعل مع الخزان الثقافي والحضاري العربي الاسلامي. ونحن ممن يزعم ان ما يسمى بعطالة الانتقال الديموقراطي في العالم العربي والعالم الاسلامي بعامة لا علاقة له بمسألة الاسلام او قيمه، انما يعود اساساً الى ممانعة الخارج المتحالف مع جيوب النخب في الداخل، لتأجيل المطلب الديموقراطي والالتفاف عليه بمسوغات ودعاوى مختلفة. * باحث تونسي في جامعة وستمنستر - لندن