السياق الدلالي والتاريخي لنشأة العلمانية في الغرب الأوروبي والأطلسي، ومعالجة إشكالية العلمنة في الفضاء العربي الإسلامي، ودراسة مسألة الديمقراطية من الزاويتين النظرية والتاريخية، هي محاور كتاب صدر حديثاً عن مركز الجزيرة للدراسات، بالاشتراك مع الدار العربية للعلوم، للباحث د.رفيق عبد السلام تحت عنوان "في العلمانية والدين والديمقراطية: المفاهيم والسياقات". يذكر الباحث أن العلمانية وما يرتبط بِها من مفاهيم مرافقة، كالحداثة والديمقراطية، ثم ما تلا ذلك من مفاهيم "جديدة"، كالعولمة، وما بعد الحداثة، وما شابه ذلك، هي من أهم وأخطر ما يواجه الوعي السياسي العربي الإسلامي من تحديات، ذلك أن طرح هذه القضايا باتت تفرض نفسها على الجميع. ينبه الكتاب إلى أن العلمانية لم تكن منتج مطارحات فكرية هادئة، أو مجرد تعبير عن رغبة مزاجية عنّت لبعض الأفراد أو المجموعات الفكرية والسياسية، بقدر ما كانت عبارة عن حل عملي فرضته أجواء الحروب الدينية التي شقت عموم القارة الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ ولذلك كانت في صورتها الغالبة عبارة عن حركة مساومات وتسويات بين مختلف القوى الاجتماعية والدينية المتنازعة حيناً والمتوافقة حيناً آخر، وهذا ما يفسر اختلافها من بلد إلى آخر، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى، باختلاف الأوضاع الداخلية وملابسات العلاقة التي حكمت الكنيسة بالدولة. ويضيف: أن التجربة الفرنسية التي كانت مولود ثورة صاخبة وإرث كنسي كاثوليكي ثقيل تمثل الاستثناء وليست القاعدة العامة، مما يجعل من التبسيط قراءة التاريخ السياسي والديني الغربي من خلال النافذة الفرنسية. ويشير الكاتب إلى أنه لا يوجد تساوق حتمي بين العلمانية والديمقراطية بما في ذلك في السياق السياسي الغربي نفسه، فقد كانت النازية والفاشية والستالينية كلها علمانيات جذرية؛ ولكنها لم تكن ديمقراطية بأية حال من الأحوال، أما في المنطقة العربية فإن الأنظمة الأكثر علمنة وتحديثاً تبدو الأكثر تعثراً ديمقراطياً قياساً بالدول العربية الموصوفة بالتقليدية والمحافظة. ثم يفرد الباحث التجربة اللائكية (العلمانية) الفرنسية بشيء من التحليل الموسع، مبيناً أنها تتسم بنزعة تداخلية بالغة الصرامة. فالدولة عند اللائكيين الفرنسيين ليست مجرد أداة لتنظيم الشأن العام، ولا هي مجرد مؤسسة وظيفية لإدارة حياة الناس وتصريف أحوالهم ومعاشهم، بل هي "صوت الأمة" و"روح" الشعب، وهي إلى جانب ذلك موضع حلول العدالة الكاملة والخير الأعظم، وهذا ما يعطيها مشروعية التدخل على النحو الذي تريد، وفي الموضع الذي تريد، لفرض قيمها وتصوراتها الخاصة على الأفراد والجماعات، مفترضاً فيها القيم العامة والكلية للمجتمع نفسه؛ بحيث تتطابق مصالح المجتمع في مصالح الدولة، وتنصهر الإرادات العينية والجزئية للمواطنين في الإرادة العامة المعبر عنها في الدول، وهذا ما جعل اللائكية الفرنسية لا تخلو من وجوه تسلطية مخيفة. ويخلص الباحث إلى القول بأنه قد غدا أمراً لازماً تجريد الديمقراطية مما ألصق بها من صبغة آيديولوجية، وتحريرها من آفتي الاحتكار والاستبعاد، ومن ثم افتكاكها من بين أيدي النخبة وبسطها بين أيدي الناس، والإلقاء بها في قلب حركة المجتمع حتى تتوافر الفرصة الكافية لاختبارها على أرض الواقع، فيحتفظ النظام الديمقراطي بما يمكن الاحتفاظ به، ويعدل ما يمكن تعديله.