Madjid Benchikh. Algerie: Un Systeme Politique Militarise. الجزائر: نظام سياسي متعسكر. L'Harmattan, Paris. 2003. 252 pages. ما من بلد حديث الاستقلال حلم بأن يبني دولة وطنية قوية مثل الجزائر. لكن ما من بلد آلت دولته، بعد اربعين سنة من الممارسة الاستقلالية، الى حالة مزرية من الضعف والهشاشة مثلها. مرد هذا المقلب التاريخي المفجع هو الى سبب يكاد يكون يتيماً: طبيعة النظام السياسي الذي تصدى لبناء الدولة الوطنية القوية في الجزائر المستقلة. فقد أوكلت هذه المهمة، من بادئ البدء، الى جبهة التحرير الوطني الجزائرية بوصفها حزباً أحادياً. اذ حتى قبل ان تفوز الجزائر باستقلالها بصفة رسمية اتخذ المجلس الوطني للثورة الجزائرية منذ 1961 قراراً بأن خير طريق الى بناء الدولة العتيدة هو الحزب الواحد، وهذا في سياق المناخ الايديولوجي العالمي في الستينات، حيث كان يسود في جملة بلدان العالم الثالث التصور بأن نظام الحزب الواحد يتفوق على نظام الديموقراطية الليبرالية في القدرة على انجاز الهدفين الرئيسيين للمرحلة التاريخية: بناء الدولة الوطنية القوية وتحقيق التنمية الاقتصادية. ما ميّز التجربة الجزائرية عن غيرها من تجارب نظام الحزب الواحد في بلدان العالم الثالث كون الجيش هو الذي تبنى ذلك التصور، وهو من أخذ على عاتقه ان يضعه موضع تنفيذ، وهذا من بدء الاستقلال، أو قُبيله مباشرة، الى يومنا هذا، أي طوال أربعين عاماً بلا انقطاع. صحيح ان القوى المدنية بقيادة أحمد بن بلا لعبت في السنوات الثلاث الأولى من الاستقلال دوراً لا مماراة فيه في قيادة جبهة التحرير الوطني كحزب أحادي. لكن نقطة استنادها، من الظهر على الأقل، كانت الى الجيش. وقد وقفت عاجزة أتم العجز عندما قرر هذا الجيش، بقيادة بومدين، ان يخرج من الكواليس الى واجهة المسرح ليتولى الحكم مباشرة من خلال انقلاب عام 1965 وليطبق في عهد بناء الدولة والتنمية المستقلة المبدأ الذي كان معمولاً به في عهد الكفاح المسلح ومقاومة الاحتلال الفرنسي: أولوية العسكري على السياسي. واذا كانت جريرة بن بلا التاريخية انه أراد ان يجعل من الدولة أداة بيد الحزب الواحد، فإن جريرة بومدين التاريخية مضاعفة: فقد جعل من الحزب والدولة معاً أداة بيد الجيش. وبديهي ان هذه العسكرة لنظام الحزب الواحد سمة لا تنفرد بها الجزائر وحدها. فهي واحدة من القسمات الأكثر شيوعاً في جمهوريات العالم الثالث الديكتاتورية. لكن ما يميز التجربة الجزائرية، ابتداء من 1988 على الأقل، وهو العام الذي شهد تظاهرات احتجاجية شعبية عارمة قمعها الجيش موقعاً المئات من القتلى، ان العسكرة وجدت نفسها مضطرة الى سلوك الطريق المعاكس، أي الارتداد من العلن الى الخفاء، والتراجع من الواجهة الى الكواليس. فمنذ ان اضطر الشاذلي بن جديد الى التنحي تحت ضغط انقلاب غير معلن نفذه زملاؤه في القيادة العسكرية، والجزائر ُتحكم من وراء ستار تماماً كما في مسرح العرائس: ف"الدمى" المدنية هي التي تتحرك، لكن القيادة العسكرية اللامنظورة للعيان هي التي تشد الخيوط. لقد تغيرت، اذاً، قواعد اللعبة بعد الزلزال الاجتماعي الذي ضرب البلاد في تشرين الأول اكتوبر 1988. وقد تكرس هذا التغيير في الدستور الجديد الذي تم اصداره في شباط فبراير 1989 والذي أحلّ التعددية الحزبية محل الأحادية الحزبية. فبعد ان كان حزب جبهة التحرير الوطني يحتل وحده كل واجهة الحياة السياسية تكاثرت الأحزاب المرخص لها، بعد صدور دستور 1989، كالفطور حتى جاوز عددها الخمسين. ولم يكن تكاثرها هذا دليلاً على نضج في التمثيل الديموقراطي بقدر ما كان، على العكس، دليلاً على طول معاناة المجتمع الجزائري من الفراغ السياسي طيلة ربع قرن من حكم العسكر. وقد كانت كثرة تلك الأحزاب، التي ما كانت تمثل سوى نفسها، هذا إن لم تكن مُستزرعة من قبل الاجهزة السرية، سبباً في بلبلة وعي المواطن وبالتالي في صعود الاسلاميين، وتحديداً الجبهة الاسلامية للانقاذ كقوة تمثيلية موثوقة واضحة الهوية والخط. والواقع ان الجبهة الاسلامية للانقاذ هذه هي التي "خربطت" لعبة الديموقراطية الشكلية كما أرادت القيادة العسكرية ان تلعبها بعدما أدركت، اثر زلزال التظاهرات الشعبية، ان المجتمع الجزائري لم يعد قابلاً لأن يُحكم بعد 1988 بالكيفية التي كان يُحكم بها من قبل. فالقيادة العسكرية، الممسكة الحقيقية بخيوط السلطة، أرادت للتعددية الحزبية ان تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تؤديها الأحادية الحزبية، اي ان تكون مجرد واجهة أو طاقيّة اخفاء لاحتكار الجيش للسلطة الفعلية. والحال ان اسلاميي جبهة الانقاذ هم وحدهم الذين عرفوا كيف يوظفون "ديموقراطية الواجهة" هذه لصالحهم. فانطلاقاً من قواعدهم في المساجد وفي مراكز الخدمة الاجتماعية، استطاعوا ان يلوّحوا بأمل الدولة الاسلامية كمخرج خلاصي للأزمة الاجتماعية المثلثة الأبعاد: أزمة البطالة وأزمة السكن وأزمة الزواج. وبدلاً من ان يحصروا نشاطهم بالسطح السياسي، الذي فقد الكثير من مصداقيته مع التكاثر الفوضوي للأحزاب العادمة للتمثيل الشعبي، راهنوا على العمل في العمق الاجتماعي تحت راية الدين في مجتمع يمثل فيه الاسلام واحداً من اكثر عناصر هويته ثباتاً بحكم طبيعة التجربة الاستعمارية التي مرّ بها. وجاءت نتيجة الانتخابات التي جرت في 26 كانون الأول ديسمبر 1991 لتهز النظام السياسي الجزائري وقادته من "أصحاب القرار" من وراء الستار. فقد فاز اسلاميو جبهة الانقاذ من الدورة الأولى ب188 مقعداً من أصل 340، بينما لم يفز حزب جبهة التحرير إلا ب16، والاحزاب الصغرى التي كانت القيادة العسكرية تعقد عليها رهانها بثلاثة مقاعد فقط. واذ غدا واضحاً على هذا النحو ان "ديموقراطية الواجهة" لم تؤت ثمارها المأمولة، بات محتوماً ان تعود السلطة العسكرية الخفية الى التدخل العلني لتوقف العملية الانتخابية ولتشكل، بعد اجبار الرئيس الشاذلي بن جديد على التنحي، مجلساً أعلى للدولة يكون ظلاً مدنياً للمجلس الأعلى للأمن الذي يهيمن عليه العسكريون. وفي الاسابيع التالية أعلنت حالة الطوارئ، واعتقل قياديو جبهة الانقاذ، ودخلت الجزائر في دوامة الحرب الاهلية، وغدا العنف والعنف المضاد القاسم المشترك بين الاسلاميين والعسكريين، وتلطخت أيدي الجميع بالدماء. لكن بالنظر الى ان العودة الى نظام الحزب الواحد كانت مستحيلة، كما كانت مستحيلة ايضاً الديكتاتورية العسكرية المباشرة، لا سيما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور "طلب ديموقراطي" في مجال العلاقات الدولية، أُعيد العمل تدريجياً بنظام "ديموقراطية الواجهة". فقد اجريت انتخابات رئاسية عام 1995 فاز فيها مرشح القيادة العسكرية الأمين زروال. وبعد اضطراره بدوره الى الاستقالة عام 1998، اجريت انتخابات جديدة عام 1999 فاز فيها بالاجماع - بعد انسحاب سائر المرشحين - عبدالعزيز بوتفليقة الذي جعل همّه الأول اعادة الاعتبار الى حزب جبهة التحرير الوطني ليضمن لنفسه مساحة من الاستقلالية عن القيادة العسكرية، من دون ان يدخل في صدام مباشر معها ابداً. فالرئيس "المدني" الحالي للجزائر يدرك، بحكم خبرته الطويلة الأمد كديبلوماسي، حدود "ديموقراطية الواجهة" ويحرص على ألا يقع في خطأ تخطيها، كما كان أخطأ الرئيس بوضياف فدفع حياته ثمناً لتخطيها. وإذا كان للنظام الجزائري الحالي جميع مظاهر الواجهة الديموقراطية من انتخابات وتعددية حزبية ونقابات وجمعيات حقوق انسان وصحافة نقدية، فإنه لا يزال في باطنه نظاماً استبدادياً متعسكراً يمسك فيه الجيش بمقاليد الحياة السياسية من وراء ستار على حساب تهميش دولة القانون، واطلاق يد الشرطة السياسية، وانتشار الفساد والمحسوبية من خلال تحول ضباط المؤسسة العسكرية وأولادهم وأصهارهم الى مقاولين اقتصاديين ووسطاء تجاريين. لكن على رغم قتامة اللوحة التي يرسمها مؤلف "الجزائر: نظام سياسي معسكر" - وهو بالمناسبة استاذ جامعي ورئيس سابق لمنظمة العفو الدولية - لتجربة "ديموقراطية الواجهة" المعمول بها في الجزائر من 1989 الى اليوم، فإنه لا يسد جميع مخارج الأزمة. فانطلاقاً من قولة مشهورة للزعيم الاشتراكي التاريخي الفرنسي جان جوريس: "الشجاعة هي ان نفهم الواقع ونمضي نحو المثل الأعلى في آن معاً"، فإنه يدعو باسم الواقعية الى فهم دور الجيش في الحياة السياسية الجزائرية، وباسم المثالية الى الغاء الشرطة السياسية بالتواقت مع امتناع الاسلاميين عن اللجوء الى سلاح العنف واندماجهم في الحياة السياسية، ورد الاعتبار الى سلطة الدولة والقانون في سياق "عقد اجتماعي" جديد بين الدولة والمجتمع المدني ينهي عن التوظيف السياسي للدين وعن التوظيف الديني للسياسة.