عزا المرشح الوفير الحظ إلى الرئاسة الجزائرية، السيد عبدالعزيز بوتفليقة 62 عاماً، "الأزمة الجزائرية" المتفاقمة منذ خريف 1988 وتظاهراته، إلى منافسه على الرئاسة، والفائز بها، قبل عشرين عاماً، الرئيس المتقاعد الشاذلي بن جديد. فزعم بوتفليقة أن السبب في تردي حال الجزائر هو "الليبرالية الزائفة" التي جاء بها الرئيس المعزول في كانون الثاني يناير 1992، بعد ثلاثة عشر عاماً من الحكم. فتكاثرت في حكم بن جديد، خليفة هواري بومدين، "النشاطات الطفيلية تكاثراً مذهلاً، واستفحلت مظاهر الرشوة والمحسوبية والمحاباة والتسابق، بلا حسيب ولا رقيب، على مظاهر الثراء السهل والتبجح الوقح بمظاهر النعمة". وجاء تشخيص المرشح إلى خلافة اليمين زروال، والمنسوب إلى الجيش الجزائري، في أول بيان رئاسي يتلوه مرشح من المرشحين الثلاثين إلى منصب الرئاسة. وكلام بوتفليقة هذا غامض. ومصدر غموضه غلبة وجهه السجالي، وغمزه من أطراف خفية، على التحليل واقتراح المعالجة. فالرجل الذي صرم ثلاثة عشر عاماً، من حزيران يونيو 1965 إلى كانون الأول ديسمبر 1978، وزير خارجية مزمناً للرئيس الجزائري الثاني وعضواً نافذاً في "مجلس الثورة" وعضواً بارزاً في المكتب السياسي للحزب الحاكم جبهة التحرير الوطني كان السبب في خسارته معركة انتخابه خلفاً لبومدين تهمته ب"الليبرالية". أما المصدر الثاني لغموض بيان بوتفليقة، فهو جواز تأويله وفهمه على معنى الإنتصار المتأخر لولي نعمته، هواري بومدين، ومُنَصِّبه أحد أوائل أعيان الحكم. فقَصْر المقرَّب من بومدين نقده على خَلَفي الرجل الذي سجن الجزائر في بنية الحزب - الدولة، وقيَّدها بقيد تصنيع سوفياتي مدمر، قد يعني عزمه على انتهاج سياسة تشبه سياسة صاحبه، والاقتداء به. وهذا محال. فلا قياس بين جزائر اليوم وبين الجزائر التي استولى عليها رئيس أركان جيش التحرير الوطني، وعزل رئيسها الأول أحمد بن بلة، بعد ثلاث سنوات من استقلالها في 1962. والحق أن عودة بوتفليقة، في صحبة أطياف العائدين الكثر الذين يتدافعون بالمناكب على مسرح الرئاسة الجزائرية، تبعث على الحيرة، أو تحمل على التشكيك في دور الرئاسة الجزائرية وفي ثقلها السياسي الفعلي. يعود بوتفليقة مع العائدين هؤلاء، وأطيافهم الطالعة من زمن خلا وولى. ويلقي سكوته عن هذا الزمن، وعن سياساته ونتاجها، بظل ثقيل على الموت الجزائري. فما يبدو للوهلة الأولى عودة مفاجئة، بعد غياب طويل، قد يتكشف عن استمرار السياسة الجزائرية على نهج ثابت هو النهج الذي أودى بها، ورماها في هاويتها. بو تفليقة مدني من ضرب خاص. فهو انضم إلى ما عرف في حينه ب"فريق وجدة"، أو "شلة وجدة"، من اسم البلدة المغربية القريبة من الحدود المشتركة بين البلدين الجارين، بين وهران وسيدي بلعباس وتلمسان، بغرب الجزائر. وتحلقت الشلة حول هواري بومدين في 1957 - 1959. وكان بومدين، أو محمد بوخروبة، قبل تلقبه باسم الولي الكبير سيدي بومدين، المولود بشرق الجزائر بين قسنطينة وسوق أهراس معقل "جبهة الإنقاذ" الأول، كان قدم منطقة وهران، في عام 1957، قائداً على حربها من أجل الإستقلال والإنفصال عن فرنسا. واختار العقيد الجديد، خريج الأزهر بمصر، بلدة وجدة، مقراً. وتشاء المصادفة أن يكون عبدالعزيز بوتفليقة، وهو يومها شاب لم يبلغ العشرين، مولوداً بوجدة، أو بضاحية من ضواحيها الجزائرية. وانتسب الشاب إلى جبهة التحرير الوطني وهو في التاسعة عشرة، في عام 1956. وفي العام التالي دخل حلقة المقربين من العقيد بومدين، وكان الشاذلي بن جديد سبقه إليها، ولم يتركها من بعد. فلما رُفع بومدين، في الشهر الأول من عام 1960، إلى قيادة أركان جيش التحرير كله، انحاز بوتفليقة إليه. وابتدأ بومدين قيادته، في عام 1961، بحملة تطهير دامية طاولت ضباطاً ومسؤولين سياسيين، وأقصى عن أجهزة جبهة التحرير الوافدين إليها مع السياسيين المخضرمين من أمثال فرحات عباس. وعندما انقلب بومدين على بن بلة، وكان هذا انتزع بمساندة بومدين الحكم من بن خدة، خليفة فرحات عباس، في الأيام الأولى للإستقلال - أنشأ "مجلس ثورة" من 26 عضواً، جمع فيه مقاليد السلطة كلها. وجمع بيده هو رئاسة "مجلس الثورة"، والأمانة العامة للحزب، ورئاسة الدولة، ورئاسة الحكومة، وقيادة الأركان، ووزارة الدفاع. وضم "مجلس الثورة" 15 مقدماً وعقيداً، هم أركان الجيش، وأحد عشر "مدنياً". وأوكل قائد الإنقلاب إلى بوتفليقة، وهو في الثامنة والعشرين، رعاية الجيش وضباطه، إلى إدارة ديبلوماسية الدولة الجزائرية. واستقر بوتفليقة في قمة السلطة البومدينية، مع أربعة أو خمسة من أعوان صاحب الرئاسات الكثيرة، هم، إلى بومدين وإليه هو، أحمد مدغري، وأحمد قايد، وشريف بلقاسم. ولم يعرف عنه تحفظ عن أركان السياسة المتبعة، وأولها إنشاء طبقة من أعيان الحزب - الدولة، إلى حين وفاة صاحبها في أواخر 1978. وفي الأعوام الثلاثة عشر هذه حكم بومدين الجزائر بمراسيم رئاسية، ومن غير مجلس نيابي، وبواسطة ولاة على الولايات الخمس عشرة، ثم الواحدة والثلاثين في 1974، قبل أن يرتفع عددها إلى أربعين ولاية في عام 1989. ولم يقر بومدين دستوراً إلا في 1976، كان ذريعة لانتخابه رئيساً. ولم ينتخب الجزائريون نواباً عنهم إلى مجلس شعبي وطني إلا في 1977. ولم ينعقد مؤتمر للحزب الواحد، قائد "حرب التحرير"، إلا غداة وفاة بومدين. وفي الأثناء فرض الرئيس الكلي الرئاسة على الجزائريين - وهم بلغ عددهم، في 1977، 16 مليوناً وكانوا ثمانية إلى تسعة في 1962 - تصنيعاً باهظاً، ومدناً مكتظة لم تعد لاستقبال المهاجرين، وطبقة من الفنيين استوردها من شطري أوروبا، وسياسة خارجية "غير منحازة" وريادية في انحيازها إلى السياسة السوفياتية. وقاد بوتفليقة سياسة بومدين الخارجية، وهي مرآة سياسته الداخلية، ونصبُ عينه تصدر الجزائر، أي رئيسها، حركة دول عدم الانحياز، وانتزاع قيادتها من تيتو، آخر زعمائها. وكان مؤتمر الحركة الرابع، في أيلول سبتمبر 1973 عشية حرب أوكتوبر، في مدينة الجزائر، وبرئاسة بومدين، ذروة هذه السياسة. ففي هذا الموتمر ألقى الرئيس الجزائري على ممثلي دول عدم الإنحياز درساً في بناء الدولة والمجتمع، ومثَّل على درسه بالجزائر. وبدا لبعض الوقت، غداة الحرب العربية الإسرائيلية وتعاظم العائدات من النفط، أن صاحب الدرس محق في إرشاده وتوجيهه. وبدا أن وزير خارجيته، الوسيم والفتي، مخول المباهاة بإنجازه، والتوسط في الخلافات، مثل الخلاف الإيراني والعراقي على شط العرب، والتحكيم فيها. وشأن خريف معظم البطاركة، المنفردين بالسلطان، كان خريف بومدين رمادياً وينذر بالعواصف. فعمد، في آخر سنين حكمه، إلى تأجيج الصراع على الصحراء الغربية مع المغرب، ورعى نواة "الجمهورية الصحراوية" بتندوف. ومال إلى ابتلاع الشطر العربي الشطر الأمازيغي والقبائلي من الهوية الجزائرية. فلم يكد "البطريرك" يرحل، عن 53 عاماً، حتى دب الخلاف في "فريقه" المقرب. وكان "مجلس الثورة" اقتصر على ثمانية من 26 في ابتداء أمره، الطيب العربي وبوتفليقة، وهما المدنيان، وستة عقداء، منهم بن جديد ويحياوي ومحمد عبدالغني. وارتدت على بوتفليقة وساطته بين سيده وبين الضباط. فانتخبوا واحداً منهم إلى الرئاسة، واقتسم أهل الشرق، الجزائري، الجبنة والإمتيازات كلها. ولم يلبث بن جديد طويلاً فأخرج الطيب العربي وشريف بلقاسم ويحياوي وبوتفليقة وغزالي وعبدالسلام، من المكتب السياسي للحزب الحاكم. وقصد بوتفليقة المنفى الأوروبي، ثم الخليجي، تداركاً لمداولة ديوان المحاسبة في شأن ودائعه في المصارف السويسرية. وكان بومدين قتل محمد خيضر، "التاريخي"، بذريعة استرداد "كنز" جبهة التحرير. وعندما عقدت جبهة التحرير، في تشرين الثاني نوفمبر 1989، بعد سنة على انتفاضة 1988 الجماهيرية والإسلامية، مؤتمرها الإستثنائي، عاد بوتفليقة، مع عبدالسلام ويحياوي ومسعدية، إلى مكتبها السياسي. ووقف "حرس" بومدين صفاً بوجه "الإنقاذيين" الذين استدخلوا الحزب الحاكم وأرادوا الإستيلاء عليه من داخل. ووراء الحرس، غير المرصوص، ووراء الستارة، يحرك الجنرال خالد نزار، والجنرال محمد العماري، والإثنان من "فريق العقداء" البومديني، الأدوار والخيوط. فأقالا بن جديد في أوائل 1992. وهما حملا زروال على اختصار ولايته، وأخرجا محمد بتشين، "مستشاره" والمشير عليه، عن طوره وصمته. وهما شقَّا التجمع الوطني الديموقراطي، حزب زروال المفترض، وحركة مجتمع السلم محفوظ نحناح، وحزب النهضة عبدالله جاب الله. فطوَّقا منافسي مرشحهما الأثير، اليوم، السيد بوتفليقة. فيسع هذا أن يندد بالليبرالية المتوحشة، وأن يمد يده إلى محاورة الجميع، ويسعه أن يحكم، غداً، مطمئناً: فلم يقتل في رمضان المنصرم "غير" 180 قتيلاً، نظير 1200 في رمضان من العام الماضي. ويبلغ احتياط المصرف المركزي نحو تسعة بلايين دولار. والدَّين أعيدت جدولته. والبطالة تقتصر على 30 إلى 40 في المئة من اليد العاملة...