عندما اطلق آرثر شوبنهاور 1860-1788 مقولته الشهيرة: "الفرد الذي لا يستمتع بالوحدة لن يحبّ الحرية" لم يكن يقصد المجتمعات العربية التي ما زالت حتى اليوم تنظر إلى الفرد من منظور العائلة والنسب. فهي تعتبر الشاب، خصوصاً الفتاة المقيمة بمفردها ظاهرةً مرضية وفي احسن الأحوال خارجة عن المألوف. مريم 40 سنة تسكن وحدها منذ سنتين فقط. أدخرت مالاً طيلة مدّة عملها كبائعة في احد المحال لتشتري منزلاً تستقل فيه عن أهلها: "عندما اتخذت قرار الانتقال من منزل أهلي إلى منزلي الخاص، ساورهم الغضب وقالوا لي ان "ألسنة الناس لا ترحم" وان المرأة التي تعيش وحدها هي امرأة ينبذها مجتمعها لأنها خارجة عن طوع أبيها وعائلتها ومجتمعها. لكنني أردت فقط أن أعيش حريتي واستقلاليتي، وأعتقد أنني بتّ في سنّ تؤهلني للسكن وحدي". وتتطرّق مريم إلى حسنات السكن المستقل: "منزلي الجديد حرّرني من الضغوط التي قد أتعرض لها في بيت أهلي في ابسط الأمور، من ملاحظات على طريقة ملبسي إلى قرارات مصيرية كالعريس الجديد الذي تقدم لي ورفضته في حين اعجب أهلي به". اكتفاء ناقص وإذا كان الانتقال للعيش في منزلها جلب الاكتفاء النفسي لمريم، فالأمر انتهى بالعودة إلى منزل الأهل بالنسبة إلى تمارا 25 سنة التي تدرس علم النفس في الجامعة اللبنانية: "قررت العيش في منزل خاص بي بعدما أحسست بوجود فجوة عميقة بيني وبين أهلي، فوالدتي مثلاً امرأة بالغت في حمايتي عند الصغر ما ولّد فيّ شعوراً بالضعف وعانيت مشكلات عدة بسبب الشخصية التي طبعتني نتيجة جهل الأهل والمبالغة في حماية أولادهم. لذلك، قررت الانتقال ووقع الخبر وقع الصاعقة عليهم. لكنني أصررت وكنت أعمل معلمة في إحدى المدارس ما مكّنني من إعالة نفسي لمدّة كانت وجيزة لسوء الحظ. وتنبهت إلى أكلاف لم أكن ألحظها 200 دولار شهرياً بدل ايجار إضافة إلى بدل الكهرباء والماء والمصاريف الطارئة. حاولت أن أتدبر المال لمدة ستة اشهر إلا أن الديون تراكمت عليّ ما اضطرّني إلى العودة إلى منزل اهلي". وتأسف تمارا "لحال الشباب في مجتمعنا لأنهم غير قادرين على تدبّر امورهم من دون مساعدة ذويهم، فالحال الاقتصادية تحول دون تمتع الإنسان باستقلالية تصبح ضرورية في سن معينة". أما هدى 27 سنة السكرتيرة في احد مكاتب المحاماة فتشير الى انها اعتادت السكن بمفردها منذ الصغر لأن الظروف حتّمت عليها هذا الامر. والدتها توفيت وهي ما زالت صغيرة فيما كان عمل والدها يجبره على التنقل، وتقول: "كان والدي دائم الترحال فعشت مع جدتي لمدة لا بأس بها. وعندما بلغت العشرين، انتقلت للعيش في منزل لي اذ اعتدت الاستقلالية نظراً الى الظروف التي أحاطت بطفولتي. لقد اكتشفت ان الاستقلالية اجمل ما يعيشه الانسان اذ انني اعشق الهدوء والعودة الى منزلي بعد يوم شاق في العمل حيث اتمتع بخصوصيتي ولا يعكر صفوها احد". لكن هدى اشارت الى وضع الفتاة العزباء التي تعيش بعيداً من اهلها "مجتمعنا الشرقي ينظر الى الفتاة التي تعيش وحدها نظرة لا تخلو من الشك والريبة، بل ان الناس يتجنبونها كأنها طاعون احياناً لأنها خرقت التقاليد المتوافق عليها، وربما ارادت ان تعيش حياتها كيفما يحلو لها". وتقول هدى ان الفتاة التي تسكن بمفردها تبقى مقيّدة ولا تتمتع باستقلالية احياناً نظراً الى "العيون التي تراقبها من كل حدب وصوب وتتلقف خطواتها خطوة خطوة من الصباح حتى المساء". وتضيف: "انزعجت كثيراً بادئ الامر ولم استطع ان أحيا خصوصيتي واستقلاليتي التي خرقتها ألسنة الناس من كل صوب، وبعد ذلك أدركت انني مهما فعلت سيظلون كالذئاب المنقضة على نعجة شردت عن قطيعها، والآن لا آبه بأي شيء، والغريب في الأمر انهم اعتادوا ذلك بعد مضي ثلاث سنوات على السكن وحدي واصبحوا اكثر الفة معي". أحكام قاسية قد يكون حكم الناس على الفتاة التي تنشد الاستقلالية في السكن بمفردها اكثر قساوة من حكمهم على الفتيات اللواتي ينزحن من الجبل الى المدينة ويسكنّ في غرف خاصة بالطالبات لكي يحصّلن علمهن في الجامعة أو بحثاً عن فرص للعمل نظراً الى الفراغ العلمي والاقتصادي التي تعاني منه المناطق النائية. فسحر 18 سنة التي أكملت تحصيلها الثانوي، نزحت الى المدينة كي تكمل دراستها في الجامعة وتقول: "لطالما رغبت بالالتحاق بكلية الهندسة، ولا يوجد في الجوار اي فرع لهذا الاختصاص ما اضطرني الى النزوح الى المدينة. استأجرت احدى الغرف الخاصة بالطلاب في حرم الجامعة مع زميلة لي في الدراسة". هم العودة لم تصادف سحر المشكلات والعقبات التي واجهت غيرها من الفتيات ككلام الناس او نظرة المجتمع اليها فالحجة غاية في الإقناع وتقول: "لم يستغرب أحد عندما عرف أني اسكن بمفردي لأنني أتيت إلى المدينة كي أتعلم ليس اكثر، لكن المشكلة تكمن في انني مقيدة كثيراً في مكان سكني اكثر مما كنت عليه في منزل أهلي إذ ان هناك ساعة محددة للعودة إلى المنزل وهي الساعة الثامنة وإلا أغلقت الأبواب وبتّ ليلتي خارجاً وهذا ما لا ترغب به اي من الفتيات". وتتطرق سحر الى الحياة الصعبة التي تعيشها الفتاة والتي ينظر اليها على انها قاصر لا حول لها ولا قوة فتقول: "استغرب ذلك، فلقد اكملت الثامنة عشرة وبت واعية لكل شيء، فلماذا ما زالت الفتاة تعامل في مجتمعاتنا على انها قاصرة وتقيد في ساعات المجيء والذهاب علماً ان ما تريد فعله تستطيع عمله في وضح النهار وضمن الساعات المسموح بها من دون ان يتنبه احد لها. فالمسألة كلها تنبع من ارادتها هي وليس من قيود اقل ما يقال عنها انها سخيفة". دنيا 30 سنة حائزة اجازة في ادارة الاعمال نزلت الى المدينة حيث فرص العمل اوسع بكثير: "لم أصادف مشكلات مع المجتمع بسبب السكن وحدي. أبقى طيلة أيام الأسبوع في المدينة وفي العطلات أعود إلى القرية" لكن دنيا تسكن في حي مرموق في المدينة حيث الكل منصرف إلى أعماله. واقع الحال ان نظرة المجتمع الى الفتاة التي تسكن بمفردها تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية الا ان بعض الفتيات اسهمن في "احتدام" ألسنة مجتمعهن نظراً الى تصرفاتهن "العلنية" التي تتخطّى المقبول في محيط شرقي ما زال محافظاً في حين تمكّنت الاخريات من التوصل الى تسوية توفّق بين المجتمع المحافظ ورغباتهن وذلك عبر اللجوء الى فعل ما يحلو لهن "خفية".