رفعت السلطات الجزائرية بعد 12 عاماً الاقامة الجبرية عن عباسي مدني رئيس الجبهة الاسلامية للانقاذ المحظورة وأفرجت عن نائبه علي بلحاج. لكن الاستحقاق المنتظر أُلحق بتذكير الشيخين أن عقوبتهما تمنعهما من ممارسة اي نشاط سياسي لمدة خمس سنوات من انتهاء مدة العقوبة. وفي الافراج عن شيخي "الانقاذ" إعادة نبش لتاريخ حديث مؤلم عاشته البلاد وما زالت تعاني من تداعياته. ويعكس اصرار السلطة الجزائرية على تعتيم إعلامي حرم الشيخين من إطلالة إعلامية لافتة، عزمها على التمسك بقطيعة نهائية مع "الانقاذ" تجسد انتصار اهل السلطة على تيار كاد "يسطو" على مقاليد الحكم وينقلب على سلطة "الاستقلال والتحرير" عبر اللعبة الديموقراطية ومن خلال صناديق الاقتراع. الآراء الطوباوية تحمّل السلطة مسؤولية العبث بالسلم الأهلي من خلال إحتقار إرادة الناخبين والاستخفاف بشروط اللعبة الديموقراطية عبر ايقاف المسار الانتخابي. على أن فلسفة اخرى تستند إلى عدم التعامل بسذاجة مع الفكرة الديموقراطية على نحو يحمل الى السلطة من قد يشكل خطراً على البلاد وعلى وئامها الداخلي. غير ان السؤال الذي سيظل سرمدياً من دون جواب: هل كان من الافضل الخضوع لمشيئة المقترعين والقبول ب"الانقاذيين" اسياداً للبلاد ام ان سلوك السلطة كان حكيماً لتجنيب البلاد السقوط في هاوية التطرف والتعصب على النحو الذي خرج به العنف الاسلامي المسلح بعد ذلك. لا مجال للاجابة عن سؤال افتراضي، فالتاريخ يكتبه الاقوياء وقد كُتب لأهل السلطة في الجزائر ان يملوا روايتهم. ولكن هل يتحمل شيخا "الانقاذ" عباسي مدني وعلي بلحاج مسؤولية تدهور الاحداث لغير مصلحتهما ولغير مصلحة البلاد؟ قاد عباسي مدني وعلي بلحاج المعارضة الاسلامية نحو هدف واحد: السلطة، وكأن تناغماً ما حكم علاقة "الشيخين". فالأول يقدم وجهاً عقلانياً حكيماً، والثاني يحمل مشروعاً ثورياً يسوقه خطاب ناري لا هوادة فيه. وإن تنوعت مواطن التعبير، فان الهدف واحد: اسلمة النظام. فعباسي مدني يعتبر ان حرب التحرير لم تنته بعد، وهو بذلك يدك دعائم القاعدة الشرعية للنظام عموماً ولجبهة التحرير الحاكمة خصوصاً. فالرجل الذي كان عضواً في حزب جبهة التحرير ونائباً في البرلمان ومكلفاً متابعة تطبيق الاصلاح الزراعي في الوقت الذي كان يعارضه الاسلاميون، يعتبر في معارضته الجديدة ان "الاستعمار واصل حضوره عبر هجومه الثقافي من خلال ميشال عفلق وسلامة موسى وطه حسين وتوفيق الحكيم الذين عملوا على بث افكار من شأنها إلهاء جمهورهم عن افكار المفكرين المسلمين من امثال مصطفى صادق الرفاعي وحسن البنا ومصطفى السباعي ومحمد إقبال وبن باديس ومالك بن نبي". وعليه فان الصراع مع النظام ليس تنافساً بين السلطة والمعارضة بقدر ما هو تصحيح لخلل شرعي بين "اهل الكفر" و"اهل الايمان". وفي هذا السياق، ليس الوصول الى السلطة بالنسبة الى علي بلحاج ارتقاء نحو الديموقراطية، فالرجل لم يتوان عن التنكر للديموقراطية ومهاجمتها والدفع الى اسقاطها كابتكار غربي لا علاقة للاسلام به. ويستند بلحاج في نقده الديموقراطية الى نقد قدمه بعض العلماء المسلمين واعتبارهم الديموقراطية كافرة، يذكر منهم الدكتور فتحي الدبريني في كتابه "خصائص التشريع الاسلامي في السياسة والحكم" حيث يعتبر ان النظم الديموقراطية الغربية لا تعبر في جوهرها الا عن سياسة فردية النزعة عنصرية الاتجاه. كما يستند بلحاج الى المفكر الاسلامي الباكستاني ابو الاعلى المودودي صاحب "الاسلام والمدينة الحديثة"، ومحمد اسد في كتابه "منهج الاسلام في الحكم" اذ يرى هذا الأخير انه من "باب التضليل المؤدي الى ابعد الحدود ان يحاول الناس تطبيق المصطلحات التي لا صلة لها بالاسلام على الافكار والانظمة الاسلامية". ويخلص بلحاج الى ان الديموقراطية طريق يؤدي الى الانحلال الخلقي وهو من "اسباب سقوط الحضارات ما دامت تفسح في المجال لهذا الانحلال". ويضع بلحاج هجومه على الديموقراطية ضمن مفهوم كلي يؤدي الى نبذ التغرب الثقافي. ففي العدد التاسع من مجلة "المنقذ" شن حملة يلتقي من خلالها مع مدني على "غزو ثقافي ماكر خبيث هدفه غسل مخ الجيل الجديد من كل ما هو اسلامي صميم ...عبر عصابات من الادباء والاعلاميين والمؤلفين والفنانين الذين لا همّ لهم الا النيل من الاسلام واهله". وفي العدد نفسه يرفض بلحاج "تحدي مشاعر الأمة المسلمة بتحكيم شريعة هي من وحي الشيطان بدلاً من شريعة الرحمن التي فيها سعادة الانسان في الدنيا الاخرة". وربما اكثر مصادر الضرر الذي اصاب الاسلام الراديكالي في الجزائر هي لجوء منظريه الى اسقاط مبدأ الديموقراطية وتحقيره في عيون الشباب الذين لم يعرفوا طعماً لها من قبل. واضح مما سبق ان دخول "الانقاذيين" اللعبة الانتخابية لم يكن ايماناً بالمسيرة الديموقراطية، بقدر ما كان منهجاً ماكيافيلياً للوصول الى السلطة. ولم يتردد زعيما "الانقاذ" في اطلاق التهديد تلو الآخر باعلان الجهاد اذا ما تلكأت السلطة في تلبية مطالبهما. وأصابت حمى السلطة حكمة القيادة حين دفع مدني بالأمور الى حدها الاقصى باعلانه اضراباً سياسياً في ايار مايو وحزيران يونيو 1991 ضد قانون الانتخابات سرعان ما تحول الى عصيان مدني شعبي ادى الى احتلال اربع ساحات في العاصمة. ولم تنته الازمة، كما هو معروف، الا بعد تدخل قوى الامن وسقوط عشرات الضحايا 500 قتيل بحسب رابطة حقوق الانسان في الجزائر واعتقال الرجلين. بعد فوز الاسلاميين في الانتخابات الولائية والبلدية في حزيران 1990 فازت الجبهة الاسلامية للانقاذ فوزاً ساحقاً في الدورة الاولى من الانتخابات التشريعية في كانون الاول ديسمبر 1991، ولم يبق ل"الانقاذ" الا الحصول على مقاعد ضئيلة للفوز بغالبية ساحقة تخوّلها الاقدام على تغيير دستوري كان من شأنه بحسب مصادر السلطة والقوى العلمانية، تحويل نظام الحكم آلياً ليصبح اسلامياً على مقاس السلطويين الجدد. صارت المسألة مسألة وجود بالنسبة الى الجيش فتدخل العسكر علناً بعدما كان تدخله من وراء الكواليس ليجبر الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة ويعلق العملية الانتخابية ويعين هيئة قيادية بديلة. دخلت البلاد بعد ذلك في نفق لم تخرج منه حتى الآن، وكشف العنف هزال المنطق السياسي الذي تأسست عليه المعارضة الاسلامية منذ بداية الازمة. فالمعارضة لا تملك مشروعاً عقلانياً بديلاً بل خطاباً ديماغوجياً شعبوياً خطيراً، لكونه يدغدغ مشاعر ملايين المسلمين في البلاد من اجل طموحات آنية مادية لا شان لها بروحية الاسلام. واذا كان لعنف السلطة المدان ما يفسره من دون أن يبرره، فان عنف "الجماعات" لم يكن وليد رد فعل عفوي، بل خلاصة قناعة ايديولوجية قديمة وإعداد دؤوب. فمسألة اللجوء الى العنف لطالما طاولت النقاشات الداخلية لجبهة الانقاذ في أوج مجدها السياسي السلمي. حتى ان قيادات الجبهة وقفت حائرة امام تصريحات أحد قادتها سعيد مخلوفي التحق بالعمل المسلح في ما بعد الذي هدد في شتاء عام 1991 بشن حرب أهلية، وهو أمر تظهره كتاباته في هذا المضمار من خلال مؤلفه "العصيان المدني: الأسس والاهداف، الوسائل والطرق"، وينقل عن احد "التائبين" ان بلحاج دعم فكرة منصور ملياني الذي طرح فكرة تأسيس "الجماعة الاسلامية". ومن المهم هنا التذكير بأن اول عملية قامت بها المعارضة المسلحة وقعت في 28 تشرين الثاني نوفمبر 1991، عندما هاجمت مركز قمار الحدودي، وهو تاريخ يسبق اجراء الانتخابات التشريعية ويسبق توقيف مسارها من قبل العسكر. واستفادت الجماعات الاسلامية من مباركة "الشيخين" المعتقلين لا سيما بلحاج الذي سرب رسالة من سجن بليدة في كانون الثاني يناير 1993 يقول فيها: "لو كنت خارج اسوار السجن لانضويت تحت لواء الشيخ عبدالقادر شبوطي قائد الحركة الاسلامية المسلحة آنذاك". وعلى رغم ان الرسالة كانت بصيغة كتاب مفتوح موجه الى المجلس الاعلى للقضاء، الا ان مصالح الامن الجزائرية لاحظت ان العديد من الشخصيات السياسية التي اغتالتها "الجماعات" المسلحة في تلك الفترة وردت اسماؤها ضمن الذين حمّلهم بلحاج في رسالته المذكورة مسؤولية تفاقم الازمة في الجزائر لا سيما أعضاء "لجنة الدفاع عن الجزائر" التي نادت بوقف الانتخابات واغتيلت غالبية اعضائها بدءاً من عبد الحفيظ سنحضري في اذار مارس 1993، وصولاً الى عبد الحق بن حمودة الذي اغتيل مطلع عام 1997. إعتمد الاسلاميون على نظريات فقهية لتبرير لجوئهم الى العنف. فمنهم من إعتبر أن لجوء الامة الى الكفاح المسلح هو "الفريضة الغائبة"، وهو مفهوم نُقل عن عبد السلام فرج منظّر مجموعة "الجهاد" المسؤولة عن اغتيال الرئيس أنور السادات. ويعتبر فرج أن "الركن الخفي" يجعل من الجهاد التزاماً دينياً مثل الاركان الخمسة في الاسلام. وإعتبر آخرون أن الدولة ضالة على طريق الجاهلية ودعوا الى تغييرها في العمق. وهم يلتقون في ذلك مع سيد قطب الذي حول الجاهلية من مفهوم تاريخي الى مبدأ سياسي دائم وضعها كأساس رفضه للمناهج والأفكار غير الاسلامية او ضد الاسلام. وحين أُثيرت مسألة قتال المسلم لأخيه المسلم، حذّر علي بلحاج في احدى رسائله من العلماء المزيفين الذين يجهلون المعنى الحقيقي للقرآن والسنة، والذين يزعمون أن واجب الجهاد ليس ملزماً اذا كان ذلك يثير فتنة بين المسلمين. ويدحض بلحاج بذلك تهمة الفتنة التي اطلقها المنشقون عن الجبهة على قيادته. خرجت الجماعات المسلحة من عباءة "الانقاذ" وبمباركة فقهية كاملة، وعجز تنظيم مدني وبلحاج عن الحفاظ على رباطة جأش وحكمة مطلوبين للتعامل مع تدابير السلطة، واصطدمت الجبهة بطموح شعاراتها وارتبكت بشعورها الفوقي باقترابها من السلطة سحقاً للآخرين، فكان ان انقلبت قاعدتها وتفتتت كينونتها وتبعثرت قياداتها. وما كان خيار اللجوء الى العنف سواء من خلال الجيش الاسلامي للانقاذ المنبثق من الجبهة او بقية التشكيلات المسلحة، إلا جراً للماء الى طاحونة السلطة وعسكرييها. فالأمر عزز حجة "الانقلاب" على الانتخابات من جهة، واطلق يدها في معالجة "الحالة" الاسلامية عبر الادوات العسكرية بعدما فشلت عبر العدة الانتخابية. خرج الشيخان من اسرهما وقد تغيرت الدنيا. شن أسامة بن لادن حربه على الولاياتالمتحدة في "غزوة" 11 ايلول سبتمبر عام 2000، وسقط الاسلام السياسي كبديل معتمد ومقبول لدى الغرب واشنطن استنكرت وقف المسار الانتخابي في الجزائر آنذاك، وأعلنت الولاياتالمتحدة وشركاؤها الحرب على الارهاب الاسلامي من دون هوادة. خرج الشيخان وقد فقدا قاعدة شعبية واسعة في الداخل ودعماً محتملاً من الخارج، فأضحت البيئة المحلية والدولية مرحبة بعزم الجزائر برئيسها وحكومتها وجنرالاتها ونوابها على القطع نهائياً مع تراجيديا "الانقاذ". * كاتب وصحافي لبناني.