المملكة صانعة السلام    تزامنت مع تباشير التأسيس.. الاختبارات بالثوب والشماغ    لمسة وفاء.. زياد بن سليمان العرادي    عبدالله المعلمي.. صوت العقل والرزانة في أروقة الأمم المتحدة    الاحتلال يواصل الاقتحامات وهدم المنازل في الضفة    التعامل بحزم مع الاعتداء على «اليونيفيل».. السعودية تدعم إجراءات لبنان لمواجهة محاولات العبث بالأمن    وزير الداخلية ونظيره اللبناني يبحثان مسارات التعاون الأمني    وزير الداخلية والرئيس التونسي يستعرضان العلاقات والتعاون الأمني    في الجولة الأخيرة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي يواجه الغرافة.. والنصر في ضيافة بيرسبوليس    في انطلاق الجولة 22 من دوري" يلو".. الجبلين في ضيافة الزلفي.. والعين يواجه البكيرية    2 % معدل التضخم في المملكة    ريادة سعودية في صناعة الفوسفات.. 4.6 تريليون ريال موارد تعدينية بالشمالية    حين يصبح الطريق حياة...لا تعطلوا الإسعاف    ضبط 5 وافدين في جدة لممارستهم أفعالا تنافي الآداب العامة في مراكز الاسترخاء    هيئة العقار تشارك في «ريستاتكس الرياض»    تكريم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز في دورتها ال 12    قصة برجس الرماحي    تكريم المبدعين    تراجع مفهوم الخطوبة بين القيم الاجتماعية والتأثيرات الحديثة    عيد الحب.. بين المشاعر الحقيقية والقيم الإسلامية    10 مسارات إثرائية لتعزيز تجربة قاصدي الحرمين في رمضان    تحذير من أجهزة ذكية لقياس سكر الدم    محافظ جدة يُدشّن الحملة الوطنيّة المحدودة للتطعيم ضد شلل الأطفال    النفط ينهي سلسلة خسائر «ثلاثة أسابيع» رغم استمرار مخاوف الهبوط    المملكة العربية السعودية تُظهر مستويات عالية من تبني تطبيقات الحاويات والذكاء الاصطناعي التوليدي    وزير الاقتصاد: توقع نمو القطاع غير النفطي 4.8 في 2025    يانمار تعزز التزامها نحو المملكة العربية السعودية بافتتاح مكتبها في الرياض    الشيخ السليمان ل«الرياض»: بعض المعبرين أفسد حياة الناس ودمر البيوت    «سلمان للإغاثة» يدشن مبادرة «إطعام - 4»    أمير الشرقية يرعى لقاء «أصدقاء المرضى»    الحجامة.. صحة وعلاج ووقاية    محمد بن ناصر يدشّن حملة التطعيم ضدّ شلل الأطفال    يوم «سرطان الأطفال».. التثقيف بطرق العلاج    ملّاح داكار التاريخي.. بُترت ساقه فامتدت أسطورته أبعد من الطريق    الرياض.. وازنة القرار العالمي    "أبواب الشرقية" إرث ثقافي يوقظ تاريخ الحرف اليدوية    مسلسل «في لحظة» يطلق العنان لبوستره    عبادي الجوهر شغف على وجهة البحر الأحمر    ريم طيبة.. «آينشتاين» سعودية !    الترمبية وتغير الطريقة التي ترى فيها السياسة الدولية نفسها    الملامح الست لاستراتيجيات "ترمب" الإعلامية    بيان المملكة.. الصوت المسموع والرأي المقدر..!    القادسية قادم بقوة    يايسله: جاهزون للغرافة    الحاضنات داعمة للأمهات    غرامة لعدم المخالفة !    منتدى الاستثمار الرياضي يسلّم شارة SIF لشركة المحركات السعودية    الأهلي تعب وأتعبنا    وزير الاقتصاد يلتقي عددًا من المسؤولين لمناقشة مجالات التعاون المشترك    أمين الرياض يحضر حفل سفارة كندا بمناسبة اليوم الوطني لبلادها    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لدولة الكويت    بموافقة الملك.. «الشؤون الإسلامية» تنفذ برنامج «هدية خادم الحرمين لتوزيع التمور» في 102 دولة    أمير نجران يكرّم مدير فرع هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة سابقاً    "كبدك" تقدم الرعاية لأكثر من 50 مستفيدًا    جدد رفضه المطلق للتهجير.. الرئيس الفلسطيني أمام القمة الإفريقية: تحقيق الأمن الدولي يتطلب دعم مؤتمر السلام برئاسة السعودية    عدم تعمد الإضرار بطبيعة المنطقة والحياة البرية.. ضوابط جديدة للتنزه في منطقة الصمان    استمع إلى شرح موجز عن عملهما.. وزير الداخلية يزور» الحماية المدنية» و» العمليات الأمنية» الإيطالية    عبدالعزيز بن سعود يزور وكالة الحماية المدنية الإيطالية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاسلاميون الجزائريون والصراع على المسألة الديموقراطية . صدمة 1991 والحوار الدموي بين النخبة والأهل
نشر في الحياة يوم 16 - 04 - 1999

استقر الخلاف بين جماعات حركة الاخوان ومختلف التنظيمات الجهادية في نهاية السبعينات على الانقسام النظري حول معظم الآراء المتعلقة بالحكم والحكومة والحكام وكان لا بد من هزة كبيرة تحدث صدمة سياسية لتعيد من جديد خلط الاوراق وفرزها واعادة تقييم المواقف استناداً على تفاعلات تجربة ملموسة وعينية.
ومثل اي هزة احدثت صدمة الجزائر ردود فعل متباينة انقسمت بدورها على محاور ثلاثة. الأول، قرأ التجربة وحاول استخلاص دروسها باتجاه ما يمكن تسميته بتطوير "الوعي الديموقراطي" وانضاج افكاره وقواعده واصوله الشرعية. الثاني، استفزه انقلاب السلطة على نتائج الانتخابات فتراجع عن مواقفه الايجابية من الديموقراطية ودورها كوعاء سياسي او كآلية تنظم الخلافات وتعكس سلماً موازين القوى في المجتمع. الثالث، تمسك بموقفه الرافض اصلاً لفكرة الديموقراطية واللعبة البرلمانية واتخذ من الانقلاب الجزائري ضد الاسلاميين ذريعة اضافية ليؤكد وجه نظره السابقة ودمج موقفه السلبي من الديموقراطية بمزيد من السخرية والشماتة من حركة الاخوان و"جبهة الانقاذ" ومراهناتهما الفاشلة على كذبة "الحرية" و"التعددية" و"الائتلاف" ثم كرر مواقفه الثابتة من موضوعة ان الشرعية تؤخذ بالسيف لا بالأكثرية العددية.
لا شك في ان الخلافات التي استجدت وتطايرت شظاياها في ضوء الصدمة الجزائرية ليست منعزلة عن الاختلافات السابقة بل هي اصلا على صلة مباشرة بها وتعتبر مجرد امتداد لحالات مشابهة جرت سابقاً في مصر والسودان وغيرهما من الدول العربية والاسلامية. وجاءت الصدمة الجزائرية لتصب المزيد من زيت الخلافات على نار المواجهات الايديولوجية المشحونة بالغضب المتبادل. وكأن مختلف التنظيمات كانت تنتظر مثل الحدث المذكور لتوضح مواقفها الثابتة وتعيد تأصيلها عقائديا وسياسياً.
اختلفت القوى الاسلامية في الجزائر على فكرة الانتخابات قبل انقلاب الدولة على نتائجها وتوزعت الى ثلاثة اتجاهات رئيسية: الأول، الجماعات المسلحة التي رفضت اضاعة الوقت مع نظام لا يقيم اي اعتبار للانسان ودعت الى اطاحته بالقوة. الثاني، الجماعات المعتدلة وتمثلت في حزب "النهضة" الاسلامي الجزائري وحركة "حماس" الجزائرية وكانت تطالب بالحد الأدنى من الديموقراطية حتى لا تقلق السلطة وتخاف من حرية الناس لأن المطلوب اعادة تنظيم التعددية بالتوافق مع الدولة وليس الاطاحة بها. الثالث، تيار "الجبهة الاسلامية للانقاذ" وهو الغالب والأكثري وضم مختلف القوى المتضررة من نظام حكم الحزب الواحد وتسلط الأقلية السياسية وطفيليات الدولة وجنرالاتها على الناس.
شكل تيار "الجبهة الاسلامية" قوة انقاذ للشعب الجزائري ونجح في كسب مختلف قطاعات الناس وتمكن من عزل الدولة ومختلف القوى الاسلامية سواء تلك التي تدفع نحو الجهاد او تلك المعتدلة التي تغلّب اسلوب التفاوض وتتفهم مخاوف النخبة الحاكمة.
راهنت "الجبهة الاسلامية" على الديموقراطية والطريق البرلماني للوصول الى السلطة، وربما مصادرتها، معتمدة على جماهيريتها واكثريتها وثقة الناس بها ونقمة المتضررين من حكم الحزب الواحد، وطفيليات الدولة. ووصل رهان جبهة الانقاذ الى حد التهور فلم تلحظ دور القوى المستفيدة من النظام وسيطرتها على اجهزة الدولة وأدوات قمعها ولم تنتبه الى انعكاسات التجربة في محيطها الاقليمي تونس، المغرب، ليبيا ولا اطارها المتوسطي ومخاوف دول جنوب القارة الاوروبية من جارها الجزائري.
وبسبب مبالغة جبهة الانقاذ في رهانها على الديموقراطية المجردة من تأثيرات مراكز القوى التي شكلها حكم الحزب الواحد ونشوء "نخبة" عسكرية مستفيدة من ثروات الجزائر وطاقاتها، تشكلت تيارات تتجاذبها المواقف النظرية بين متخوف من نجاح الجبهة في الانتخابات والنتائج الدولية والاقليمية والمحلية المحتملة وبين دافع لمواصلة التجربة بغض النظر عن تفاعلاتها وبين متردد في قبول الخيار الأول والثاني.
وسط الاضطراب المتصاعد بين تيارات جبهة الانقاذ شكل الشيخ الشاب علي بلحاج ظاهرة مركبة تجمع بين مخاوف التيار الأول وقلق التيار الثاني، وتأرجحت مواقفه بين تأييد الشيخ المخضرم والمجرب عباسي مدني الذي راهن على اللعبة الديموقراطية وثقة الشعب به وبين تردد القوى الحذرة في قبول المبدأ نفسه وتخوفها من انقلاب السلطة على النتائج اذا جاءت لمصلحة جبهة الانقاذ.
لم يبدأ الانقسام في تقييم تجربة "الديموقراطية" الجزائرية بعد فشلها وقيام نخبة الدولة بالانقلاب على خيار المجتمع بل شق طريقه بين صفوف القوى الاسلامية قبل خوض التجربة وحصول الصدمة.
كان للصدمة دويها الكبير ليس على القوى الاسلامية في العالم العربي بل على مختلف القوى السياسية العربية التي انقسمت بدورها بين مؤيد لحق الاسلاميين في استلام السلطة شرط القبول بتداولها السلمي وبين رافض لذاك الحق وداع لاعتماد اسلوب الاستئصال ولو كلف الأمر سقوط مئات آلاف القتلى والجرحى وتدمير اقتصاد البلد ومصادر ثرواته وهو الأمر الذي حصل.
يصف رئيس حركة "النهضة" الجزائرية السابق عبدالله جاب الله الوضع الذي آلت اليه الصدمة الديموقراطية في محاضرة القاها في لندن بتاريخ الاول من نيسان ابريل 1996، بالقول "بعد فوز الجبهة الاسلامية للانقاذ في انتخابات 26 ديسمبر كانون الاول 1991 بدأ التآمر على الحقوق والحريات العامة الفردية والجماعية وأخذ صوراً شتى بهدف تفريغ وسائل ضمان الممارسة الديموقراطية من محتواها الحقيقي، والطعن في قداستها، وتوفير الشروط التي تسمح باقامة ديموقراطية نخبوية محصورة في فئة من الناس، وفي نوع واحد من المثقفين، فتم الغاء المسار الانتخابي، والتجميد العملي للدستور منذ انقلاب 11/1/1992 وصدر المرسوم التشريعي رقم 92-03 في 30 سبتمبر ايلول 1992 والمتعلق بمكافحة الارهاب، ووقع الدوس على مبدأ سيادة القانون واستقلالية القضاء، وحرية النشر والصحافة، وحرية تنظيم التجمعات والمسيرات، وشهد الوطن عمليات تدمير للبنية التحتية للاقتصاد الوطني، وعرف الشعب عمليات قتل واسعة، حتى اصبح الحجز والاعتقال والاختطاف والاغتيال والتعذيب والتمثيل والاعمال الانتقامية والتشويه والقمع هو النصيب اليومي للجزائريين والجزائريات، وأصبح التعتيم الاعلامي والتضييق السياسي هو حليف الاحزاب التمثيلية الداعية للحوار من اجل المصالحة الوطنية … ونجم عن ذلك تقهقر فظيع في الواقع السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي حيث قارب عدد القتلى الستين ألف قتيل، وارتفعت البطالة من مليون بطال سنة 1991 الى مليون و850 الفاً سنة 1995 اي بنسبة 27 في المئة من عدد العمال. وانخفض متوسط دخل الفرد السنوي من 3000 دولار سنة 1985 الى 1000 دولار سنة 1995، وارتفع عدد المحتاجين للمساعدة - حسب مقاييس صندوق النقد الدولي - من 14 مليونا سنة 1992 الى 20 مليوناً سنة 1995، وانخفضت العملة الوطنية بنسبة 66 في المئة في سنتي 94 - 95، وانخفضت القدرة الشرائية خلال السنتين بنسبة 45 في المئة، وارتفعت المديونية من 25.724 مليار بليون دولار سنة 1993 الى 32 مليار دولار سنة 1995". ويعلق جاب الله مستغربا "والغريب انهم يعملون كل هذا باسم الحداثة والمعاصرة واقامة دولة حديثة وقوية".
لم ينشأ الوضع المأسوي الذي وصفه بمرارة رئيس "النهضة" الجزائرية بسبب الديموقراطية كما يحاول البعض ان يفسر بل بسبب استبداد نخبة الدولة وانقلابها على المجتمع وخياراته.
والسؤال كيف انعكس الانقلاب على نتائج الانتخابات على القوى الاسلامية المحلية.
احدثت الصدمة الجزائرية ردود فعل متباينة وصل الى حد التناقض بين معلن اكد تجديد تمسكه بالديموقراطية وبين رافض جدد شكوكه السابقة وبين متردد ومحتار وشامت.
منذ اليوم الأول للانقلاب واعتقال معظم الفائزين في الانتخابات واسرهم في معسكرات معزولة في الصحراء الحارقة شكلت القوة المسلحة التي ترفض مقولة الديموقراطية رأس الحربة لمواجهة انقلاب الموقف وانفلاته من كل الضوابط الدستورية والانسانية بينما انكفأت القوى المسالمة التي تلتزم الديموقراطية وتؤيد شروطها ونتائجها والتزمت الصمت بعد ان اصابها الذهول من ردة فعل نخبة الدولة وشراستها في الدفاع عن امتيازاتها التي اكتسبتها من خلال الحكم من طريق الاستيلاء والغلبة.
بعد الصدمة اخذت التحليلات والمراجعات بالظهور وانقسمت كالسابق على خطين كبيرين: الأول يجدد الدعوة للجهاد بصفته الوسيلة الشرعية الوحيدة للتغيير واقامة حكم الله. والثاني اكد ضرورة التمسك بالخيار الديموقراطي كوسيلة سلمية تخفف ضغوط الويلات والمصائب عن الشعب. ويشكل موقف علي بلحاج المضطرب منطقة تجاذب وسطى تتأرجح فيها مختلف التصورات التي تجمع بين قلق الشاب وتخوف الشيخ.
وبما ان موقف بلحاج يمثل نقطة التقاطع بين التيارين القابل والرافض نبدأ بقراءة تصوراته التي تعكس موقعه المزدوج الشاب والشيخ وقلقه العقائدي وتردده في الميل بين تيار الشيخ عباسي مدني المتهور في رهانه على الديموقراطية وتيار الجماعات المسلحة المتهور في رفضه للديموقراطية.
تأرجحت مواقف بلحاج المتردد في قبول الديموقراطية نظرياً وشاهده على الأمر هو القرآن الكريم الذي يشكك بالأكثرية ولا يرى ان الكثرة هي التي تقرر الحق والحقيقة لأنها قد تتغير وتتقلب من جهة الى اخرى وبين قبوله خوض التجربة الديموقراطية عملياً على اساس ان الممارسة المذكورة قد تنتج الخير وتعطي دفعة الى الامام للاسلام والمسلمين. وبين الموقفين النظري والعملي صاغ الشيخ الشاب نظرية مركبة تعكس ذاك الاضطراب والتردد في حسم الخيار النهائي. فهو يؤكد ان الحكم يجب ان يكون على اساس الشريعة ويميز بين الشورى والديموقراطية لأن الاخيرة تقوم على الغالبية… والأكثرية ليست دائما على حق. لكنه وافق على حق المعارضة بالتشكل والتظاهر والاضراب، وأكد على ضرورة استماع الحاكم لرأي المعارضة واستمزاج مواقفها الى جانب وجود ولاة الأمر الذين ينصحون الحاكم.
تعكس حيرة الشاب الشيخ ذاك القلق الداخلي الذي يؤرق تفكير المثقف المتدين وضياعه بين مبدأ الحق المنزل وحق الناس في الاختيار الحر. واوقع تأرجح علي بلحاج خصومه في حيرة مضادة اذ صنفه فريق مع جماعات الجهاد وصنفه آخرون مع الخيار الديموقراطي.
اما الشيخ عباسي مدني الذي جرف حماسه للديموقراطية صناديق الاقتراع اقدمت دبابات النخبة المستبدة على جرفه واقتلاعه مع برلمانه المنتخب واعتقالهما في صحراء الجزائر.
وسط ضجيج الديموقراطية الذي عم الجزائر لفترة قصيرة تميزت مواقف الشيخ محفوظ نحناح بالهدوء والروية والتوازن. فالشيخ العتيق والمحنك هو الوحيد على صلة بالاخوان المسلمين وافكار الحركة وتجاربها المرة وهو امر اتاح له فرصة التعلم من محنها وويلات ظلم الانظمة واستبدادها. وبسبب معرفته تلك وصلته بأفكار المؤسس حسن البنا نجح في تنظيم افكاره وتركيب موقف متوازن بين تهور اعداء الديموقراطية وتهور انصارها. وادرك رئيس حركة "حماس" الجزائرية منذ اللحظات الاولى ان من يمارس الاستبداد طوال ثلاثة عقود من الزمن لا يمكن ان يتحول الى ديموقراطي يوافق على خيارات الناس في اقل من ثلاثة شهور. وربما على القياس المذكور صاغ الشيخ نحناح مواقفه التي تحذر من القفز فوق المراحل وحرقها والدعوة الى المساومة ومشاركة نخبة الدولة في السلطة وعدم تخويفها بالغالبية الساحقة. وربما كان يراهن على عدم صدقية السلطة وربما كان يتوقع منها ان تبادر الى اقتلاع البرلمان اذا وجدت نفسها اقلية سياسية في وسط بحر من الجماهير الساخطة على سياساتها الاستبدادية.
لذلك تعرضت مواقف الشيخ نحناح الى الانتقادات الجارحة من قبل الجماعات المسلحة التي تقول بالجهاد ومن جهة القوى الاسلامية التي تقول بالديموقراطية واتهم مراراً بالانتهازية والتعامل مع السلطة واحيانا التعاون مع اجهزة الدولة ضد الاسلاميين.
لم يتراجع الشيخ نحناح عن مواقفه بل ابدى مراراً خوفه على الجزائر من المتطرفين وكرر مقولاته الداعية الى المصالحة والتقاسم او المشاركة بالحد الأدنى من التمثيل البرلماني حتى لا يطاح بالتجربة الديموقراطية الفتية. ركز الشيخ نحناح على النفس الطويل والاستفادة من الثغرات وتطوير العملية الديموقراطية بروية وهدوء ومن دون انفعال حتى لا يتم تخويف القوى المستفيدة من النظام والقوى المتضررة من الديموقراطية فتقوم بالانقلاب على الناس وتلغي نتائج الاقتراع وتعود من جديد الى التفرد بالحكم من طريق القوة والاستيلاء.
للأسف كانت توقعات الشيخ نحناح صحيحة اذ لم تغشه مظاهر الديموقراطية ولم ينخدع بمرونة نخبة السلطة واستمر يشكك بصدقية تغيُّر توجهها المباغت من الاستبداد الى الحرية.
ربما تكون حكمة الشيخ نحناح جاءت من حكمة الاخوان. فهو الوحيد على صلة بها وينتمي اليها وهو مطلع على تجاربها وما حل بها من نكبات وكوارث بينما معظم عناصر جماعات الجهاد وتنظيمات الجماعة والجبهة الاسلامية للانقاذ جاء من خارج الاخوان وترعرع في مناخات جدران حزب الاستبداد وتسلط النخبة.
الجماعات المسلحة
انطلقت الجماعات للجهاد ضد انقلاب دولة النخبة على نتائج الانتخابات في وقت كانت ترفضها وترفض الاحتكام لنتائجها وتسخر من مقولات الخيار الديموقراطي. واتجهت الجماعات الى الرد على عنف السلطة بعنف مضاد واستدرجت بعض اتجاهات جبهة الانقاذ الى مواقعها وصفوفها، بينما صمد الشيخ نحناح والاستاذ جاب الله على موقفهما.
وتطورت مواقف جماعات الجهاد المسلح وتناقضت مع اقرب الاسلاميين اليهم وصولاً الى حد المواجهة الدموية وقتل العشرات منهم لمجرد حصول اختلافات في وجهات النظر او اعتراضات من قبل الاسلاميين على اساليب مكروهة وغير مستحبة دينياً في معاملة الخصوم. وبسبب مراوحة مواقف الجماعات الجزائرية المسلحة بين رفض الانتخابات كخيار سياسي للسلطة وبين رفض الانقلاب على نتائج الاقتراع تأرجحت سياستها بين عزلتين: عزلة الناس وعزلة العنف.
أدى اقدام بعض تلك الجماعات المسلحة الى ممارسة العنف المقلوع من سياقه التاريخي الى تطوير ممارسته ضد اقرب انصارها من الاتجاهات الاسلامية، وأدى خلط بعض تلك الجماعات بين حقه في الدفاع عن نتائج الانتخابات وغير شرعية بعض الممارسات العنيفة الى تخبط تياراته السياسية فضاعت بوصلة الضوابط التي ينص عليها الشرع من نواحي معاملة الاسرى والمدنيين فاستفادت النخبة المستبدة من تلك الثغرات لتبرير منهجها القمعي والانقلابي وتغطية جرائمها ضد الناس والابرياء. فپ"العالم المغلق" الذي تعيشه بعض الجماعات المسلحة ويعبر عن نفسه بالأسماء المستعارة والعناوين المجهولة يولّد مع الوقت آليات داخلية لا ترى حولها ولا تنظر الى محيطها وهو امر يدفع تلك الآليات الى انتاج سياسات معزولة وغير واعية تعكس في النهاية خصائص ذاك العالم المنطوي على نفسه.
توفر بيانات قادة الجهاد والجماعات الاسلامية الكثير من الجهد لتوضيح صورة الموقف الذي آلت اليه الجماعة المسلحة في الجزائر وهي في النهاية صورة مفزعة ومخيفة ليس للناس البسطاء فقط بل انها اخافت جماعات الجهاد ايضا وارعبتهم خصوصا عندما طالت السكاكين أبرز قادة العمل الجهادي وأئمة الجماعات الاسلامية في الجزائر.
الدولة والعنف
لم يتقصر العنف في الجزائر على بعض الجماعات الاسلامية المسلحة، فانفجار العنف تتحمل مسؤوليته اصلا الدولة النخبة التي صادرت المجتمع قرابة ثلاثة عقود ثم انقلبت على خياره السياسي عندما جاءت نتائج الانتخابات التعددية في حزيران يونيو 1990 وكانون الأول ديسمبر 1991 غير متوافقة مع استبداد السطة. فالانقلاب بدأ في الدولة وانتقل ضد المجتمع وتحولت النخبة الحاكمة الى قوة قهر طالت مختلف الأقاليم والجهات والجماعات. وعندما شعرت الدولة ان انقلابها على الناس تكلل بالنجاح اتجهت نحو المزيد من التطرف وانتقلت من محاصرة عنف الجماعات المسلحة الى محاصرة المجتمع واعادته مرة اخرى الى "سجن السلطة" انطلاقا من فكرة مراجعة دستور 23 شباط فبراير 1989 وهو الدستور الذي صدر اساساً استجابة لانتفاضة تشرين الأول اكتوبر 1988 الجزائرية.
لا تتردد المراجعة في الاكثار من استخدام مفردات متناقضة فهي من جهة تؤكد على الديموقراطية والتعددية والحريات العامة وتواصل من جهة اخرى التأكيد على ضرورة الاجماع السياسي وتوحيد الطبقة السياسية وتقارب وجهات النظر في اطار منسجم. ولم تنتبه الجهة التي اشرفت على صوغ المراجعة، التي اشتملت على 97 مادة قانونية، ان التعددية والديموقراطية تعنيان اصلاً الاختلاف السياسي وتنوع وجهات النظر وعدم انسجام الطبقة السياسية في توجهها العام والخاص، وبالتالي فكل ما يخالف تلك الاصول الديموقراطية لا يمت بصلة للتعددية والحريات العامة.
واذا راجعنا مواد المذكرة التي نشرتها صحيفة السلام في عددها الصادر في 13 ايار مايو 1996 نكتشف ان المنحى العام للدولة الجزائرية هو الاتجاه نحو تعزيز صلاحيات السلطات الرئاسية والتنفيذية وتقليص صلاحيات السلطة التشريعية والقضائية بوضع هيئات اعلى او مجاورة تنافس او تقتنص من مسؤوليات البرلمان والقضاء. وهكذا تكون الدولة بسلطتها الرئاسية والتنفيذية أمنت شرعية دستورية لانقلابها على المجتمع واحكمت قبضتها الحديد على حرية الشعب ومنافذه النقابية والسياسية، واستفردت بالأجهزة والمؤسسات وقطعت الطريق على المعارضة، حتى تلك القريبة من السلطة وسياساتها، وحجرت عليها امكان التحرك او التنافس حتى في اطار مشروع الدولة نفسه.
تشبه دستورية مذكرة الرئيس الجزائري لمين زروال التصور الدستوري الذي سبق ووضعه رئيس الجبهة الاسلامية حسن الترابي قبل تأييده انقلاب "ثورة الانقاذ" في السودان. ومصدر التشابه هو ان الدولة هي التي تصنع المجتمع وتعيد صوغ الشخصية التاريخية للناس على مختلف فئاتهم وانتماءاتهم. فالدولة برأي النخبة هي قالب الحديد الذي يحدد شكل الجماعات وهوياتها بينما المجتمع لا دور له في المشاركة في عملية التحول وقيادته. ويلعب التصور المذكور دوره في تأسيس استبداد النخبة وتسلطها ويدفع الجماعات الى المزيد من الانكفاء الى هوياتها الصغيرة والضيقة الأمر الذي يهدد لاحقاً وحدة الدولة وتماسكها المدني والاهلي. وهو امر حصل في اكثر من مكان عربي وانتهى الى كوارث سياسية ووطنية واجتماعية.
* كاتب من اسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.