يكاد أن ينقضي هذا العقد من الزمن الذي سوف يتذكره الكثيرون بصفته عقد الغزو الأميركي للعالم العربي، أو بصفته العقد الذي ربما شهد بداية انهيار أو على الأقل تحوّل النظام السياسي العربي القائم. ومن بين العوامل الفاعلة في إحداث هذا التحول هناك عاملان مهمان: العامل المعلوماتي والعامل النفسي. وهذان العاملان ليسا نتيجة للغزو نفسه فقط، ولكنهما أيضاً نتيجة للطريقة التي تم فيها تقديم هذا الغزو وتفسيره بواسطة القنوات الفضائية العربية. ففي اطار تقديم الأحداث التي جرت في السنوات الأخيرة وتفسيرها للدمار والذل في العراق وفلسطين، كان لهذه الفضائيات تأثير أساسي في تكوّن وتشكيل منظور مغاير للواقع العربي وبالتالي في تغيير تفكير العرب وسلوكهم. في التاريخ العربي الحديث، بما في ذلك الايديولوجيات الثورية في الستينات والسبعينات، ليس هناك ما يوازي قوة الفضائيات العربية في تغيير طبيعة الوعي الشعبي وربما في تغيير الممارسات السياسية لدى القوى الشعبية في العالم العربي. تقوم أربع محطات تلفزيونية فضائية بارزة، من أصل ثلاثين محطة، بدور رئيس في هذا التحول، وذلك بسبب العمق الذي تتسم به فاعليتها وتأثيرها. وهذه المحطات هي: "الجزيرة"، و"المنار"، و"أبو ظبي"، و"المؤسسة الفضائية اللبنانية للإرسال". وربما يشاهد هذه المحطات ما يقرب من 70 الى 80 في المئة من المشاهدين العرب، اثنتان من هذه المحطات الأربع مملوكتان من قبل شركات خاصة، وهما محطة "المنار" ومحطة "المؤسسة الفضائية اللبنانية للارسال". أما محطة "الجزيرة" ومحطة "أبو ظبي" فإنهما تحظيان بدعم حكومي. وهذه المحطات الفضائية الأربع جميعاً تتمتع بحرية تحرير واسعة وباستقلال سياسي. ظلت تغطية الأخبار في العالم العربي تقدّم بواسطة وسائل الاعلام الاجنبية مثل سي ان ان حتى نهاية حرب الخليج الأولى 1991، وفي معظم الاحيان كان البث يتم باللغة الاجنبية. اما في هذه الأيام فإن الاخبار والتحليلات السياسية تقدم باللغة العربية، ومن قبل مراسلين ومحللين سياسيين عرب. ان تقديم الاحداث بواسطة هذه المحطات التلفزيونية الفضائية قد أدى الى تغير كبير في نقل الواقع الحقيقي للمشاهد العربي مثلاً في ما يتعلق بفلسطين والعراق. فنقل الواقع على الأرض بواسطة هذه المحطات الفضائية لم يعد يأخذ شكلاً مغايراً كما كان يُقدم سابقاً من وجهة نظر اجنبية محرّفة وفقاً لمصالح خارجية. ولكن الواقع العربي بدأ يُقدّم من منظار عربي. انها المرة الأولى التي يصبح بإمكان المشاهدين العرب الاطلاع على محنة الشعب الفلسطيني ليس بمثابة حدث بعيد ومجرّد، وإنما كواقع حي يومي يشاركون فيه معاناة الشعب الفلسطيني مباشرة. فالناطقون باسم الشعب الفلسطيني يظهرون بانتظام على القنوات الفضائية ويعبرون بحرية عن أفكارهم ويروون وجهة نظرهم لأشقائهم العرب وللعالم اجمع. هناك برامج كثيرة تقدم على المحطات التلفزيونية العربية الى جانب التقارير الاخبارية. وهذه البرامج تتضمن حلقات للمناقشة، وتعليقات سياسية، وبرامج حول قضايا المرأة، وتقارير استقصائية خاصة، وهكذا. ذلك ان التركيز على القضايا والافكار والمشكلات التي كان من الصعب ابداً اذاعتها مباشرة على الهواء بواسطة وسائل الاعلام العربية أصبح تجربة حقيقية للكثيرين في العالم العربي، وعلى الأقل في هذه الصيغة غير المباشرة. فقد تم تحطيم الافكار القديمة المحرمة مثل انتقاد سياسات الدولة، وفساد الحكومة، والدعوة الى تغيير سياسي واجتماعي، اضافة الى المطالبة بحرية الكلام والتجمّع. تعتبر حلقات المناقشة من بين اكثر البرامج شعبية، وهذه الحلقات تتراوح ما بين مناقشات اكاديمية رصينة حول موضوعات تتعلق بالتاريخ والاقتصاد والأدب، الى مناقشات سياسية مصحوبة بمشاركة المشاهدين ومواجهات صدامية حول موضوعات حساسة وقضايا خلافية. ويتم في هذه البرامج تشجيع المشاهدين على تقديم وجهات نظرهم وتعليقاتهم التي غالباً ما تكون قاسية وغير مهادنة. واللافت في هذه البرامج انه يمكن الحكم على معظم المتصلين من خلال لهجاتهم العامية وأسلوب استخداماتهم للعربية الفصحى في الكلام بأنهم من الطبقات الدنيا المتوسطة والعمالية. كذلك هناك برامج مشهورة وتحظى بشعبية واسعة هي برامج المقابلات التي تقدم اشخاصاً من تخصصات علمية وخلفيات فكرية متعددة. ومن ضمن هؤلاء الاشخاص الموظفون الحكوميون والمراسلون الاجانب والمثقفون والناشطون في مجالات قضايا المرأة والعمل، وغير ذلك. ففي هذه البرامج تقدم تحليلات ووجهات نظر بلغة مفهومة وتفكير عميق لم تكن معهودة من قبل. كما ان هناك تطوراً كبيراً جديداً ومدهشاً يتمثل بالاهتمام المتنامي في برامج مناقشات تتناول قضايا المرأة. إذ ان البرامج المقدمة من قبل النساء وحول قضايا المرأة قد ازدادت كثيراً في الفترة الأخيرة، وبمشاركة نساء من الحركات الاسلامية والعلمانية على السواء. والجدير بالذكر أن ما لا يقل أهمية عما ذكرت هو دور المرأة في المؤسسات التلفزيونية الحديثة حيث توجد كثيرات من النساء اللواتي يعملن كمنسقات للأخبار ومذيعات ومديرات للمقابلات التلفزيونية ولحلقات المناقشة، إضافة الى المراسلات على الأرض. كيف يمكن للمرء أن يقوم تأثير كل ذلك في المواقف الشعبية وفي الممارسات الجماهيرية الممكنة في المستقبل؟ من الواضح أنه لا يمكن إجراء تقويم شامل في الوقت الحاضر. غير أنه من الممكن الإشارة الى بعض التوجهات والمواقف ذات المغزى للمستقبل القريب: 1 - على مستوى الوعي حيث يوجد اكتساب معرفة أو فهم سياسي: يمكن القول ان هناك ارتقاء في الوعي السياسي political consciousness لدى شرائح واسعة من الناس قد بدأ يظهر في شكل واضح. 2 - على مستوى السلوك: لقد تم اكتساب قدرة مشابهة لإصدار أحكام واتخاذ مواقف سياسية واضحة لم تكن ممكنة في السابق. 3 - على مستوى القدرة على الممارسة السياسية: أصبح هناك قدرة على الالتزام والفعل لدى القوى الشعبية لم يكونا متوافرين من قبل. أما على صعيد التغير الاجتماعي فإنه لا يمكن توقع تغيير ذي معنى في المنطقة ككل في عصر الاستعمار الأميركي والهيمنة الإسرائيلية. وليس هناك طريقة سهلة للتخلص من الأنظمة الأبوية والأبوية المستحدثة التي تحكمت بالحياة السياسية العربية طوال نصف القرن الأخير. فما يمكن أن يتكرّس في المجتمعات العربية في ظل السلطة الامبريالية الاميركية هو ليس القوى الديموقراطية للمجتمع المدني، بل القوى السلطوية للأنظمة الأبوية "الصديقة". وبالفعل فإن معظم هذه الأنظمة أخذت تكيّف نفسها وفقاً لإرادة "الدولة العظمى الوحيدة" في العالم والخضوع الكامل لها. في هذا الوضع، أصبح الملاذ الوحيد لعامة الناس ليس الوعود الغامضة والمزيفة بالديموقراطية، ولا المساواة وحقوق الإنسان، بل العودة الى التراث الإسلامي والحركات الإسلامية من معتدلة ورافضة للعنف الى جهادية واستشهادية. ومن وجهة النظر هذه، فإنه يبدو واضحاً ان امكانات التغيير والاصلاح الجذري في المستقبل القريب لا تدعو الى التفاؤل، إلا اذا حدث انهيار مفاجئ لنظام الاحتلال الاميركي في العراق. التوجه في المدى القصير سيستمر في مصلحة الأنظمة الأبوية السلطوية، وسيؤدي الى مزيد من الفقر لدى عامة الناس، وفي الوقت ذاته الى عدم الاستقرار والعنف المتزايد. ان المقاومة ضد الاحتلال الأميركي للعراق ستظهر وتتبلور حتماً، والانفجارات الثورية ضد الوضع الأبوي الراهن ستندلع عاجلاً أم آجلاً. ومع ان الوضع في العالم العربي في المدى المنظور سيمضي في التراجع، إلا أنه لا بد من أن يقع شيء ما في واحد من البلدان الثلاثة الأكبر والأغنى والأقوى في العالم العربي: مصر، أو الجزائر، أو العراق، أو فيها جميعاً. شيء يقلب الأوضاع رأساً على عقب ويعيد موازين القوى بين العالم العربي وأعدائه المستعمرين والمستوطنين الى وضعها الطبيعي. * أستاذ شرف في جامعة جورجتاون - واشنطن. رئيس المركز الفلسطيني للدراسات السياسية