أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    استقالة مارتينو مدرب إنتر ميامي بعد توديع تصفيات الدوري الأمريكي    6 فرق تتنافس على لقب بطل "نهائي الرياض"    ضبط مقيم ووافد في جدة لترويجهما (9.6) كيلوجرامات «شبو»    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تزيد التقارب أم تعمق التشرذم ؟ . تحديد دور الفضائيات العربية في صناعة السياسة وترتيب الأمزجة والأهواء
نشر في الحياة يوم 03 - 02 - 2001

يقر كثر بأن العالم العربي يعيش مرحلة تشرذم ونمو في الاهتمامات القطرية على حساب الجوامع القومية. وفي هذا الوقت يشهد هذا العالم نمواً لافتاً في الدور الذي تلعبه الفضائيات وهو دور يقدر البعض انه يتأرجح بين تعميق مظاهر الانقسام وبين توحيد النقاشات والسماح للتباينات ان تعبر عن نفسها من خلال "أجندة" عامة. يميل الكاتب الى التفاؤل بالدور التوحيدي لهذه الفضائيات.
لا نبالغ إذا قلنا ان مرحلة الفضائيات العربية الراهنة تحقق أعمق درجة من درجات التواصل العربي - العربي في تاريخ العرب القديم والحديث من حيث الاختصار الزماني والاختزال المكاني. فلم يسبق ان مر العرب في أي لحظة تاريخية بواقع تتوافر فيه تقنيات مادية تجعلهم يتواصلون يومياً وساعة بساعة بالكثافة والاتساع الراهنين من طريق "الفضائيات العربية"، بغض النظر عن مضمون هذا التواصل واثاره المتعددة والخلافية. وهذا الواقع الجديد ينطوي على مفارقة تاريخية حقاً هي أنه في قلب الزمن العربي الراهن الذي يوصف عادة بأنه أدنى درجات الهزيمة التاريخية للأمة العربية بعامة، تتولد أعلى درجات التواصل بين شعوب ومجتمعات ونخب هذه الأمة!
وانطلاقاً من هذه الفكرة ثمة سؤال محدد وهو ان كان لواقع التواصل الكثيف الذي تحققه محطات التلفزة الفضائية العربية الحالية اثر في زيادة التقارب العربي - العربي، شعبياً ورسمياً، أم في زيادة التشرذم والتوتر العربي - العربي. والحديث عن الأثر في احداث تقارب أو تشرذم يتم هنا من منظور نسبي خالص، أي ان الفضائيات العربية ليست نقطة انعطاف سوف يتحدد بعدها توحيد أو تشرذم العرب، وليست بقادرة على فعل ما لم يتم فعله عبر عقود، ولذا فإن جوهر النقاش نسبي يقول إنه إذا كان لهذه الفضائيات أثر ولو طفيف جداً على الواقع العربي، فهل هذا الأثر تقريبي أم تشتيتي. لا بد، أولاً، من صياغة تعريف للفضائيات العربية غير محلية الطابع لتمييزها عن الفضائيات القطرية وتحديد العناصر الجديدة التي تدفع الى ضرورة البحث في آثار هذه الفضائيات في المجتمعات والبلدان العربية. وثانياً: صياغة الموقف النظري كإطار تحليلي لمعالجة السؤال المركزي، وهو موقف يقول إن التساؤل حول أثر الفضائيات العربية على التقارب أم التشرذم العربي هو في جوهره تساؤل حول أثر الحرية الاعلامية والديموقراطية البطيئة والمتعثرة أحياناً على تقابلية التقارب والتشرذم العربيين، وأن هذا الأثر يدفع نحو التقارب على المدى الطويل، وإن كان منتجاً لمظاهر تشرذمية على المدى القصير. وثالثاً: مناقشة مظاهر التقريب في الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية التي تولدها الفضائيات العربية استناداً الى وجهة النظر المتبناة في "ثانياً".
- أولاً: في التمييز بين "الفضائيات القطرية" و"الفضائيات العربية":
"الفضائيات القطرية" هي المحطات الفضائية التي تمثل امتداداً، في التقنية وجغرافية التغطية، لمحطات التلفزة القطرية التي لها هوية محلية بارزة من ناحية نوعية البث ومضمونه، ومن ناحية استهداف جنسية المشاهدين في قطر محدد أو الجاليات المهاجرة التابعة لذلك القطر. وتتميز هذه المحطات بطابع محلي طاغ يمتد من الشكل، حيث استخدام اللهجات المحكية والعامية واللباس التقليدي وغير ذلك، الى المضمون حيث التركيز على القضايا التي تمس اهتمامات المواطنين اليومية ومشكلاتهم المباشرة في البلد المرسل للبث الذي هو ذاته البلد المستهدف بالبث. ويندرج تحت هذا التصنيف معظم الفضائيات الرسمية في البلدان العربية، كالفضائية السودانية، والكويتية، والمغربية، والأردنية، والتونسية، والعمانية، والسعودية، وغيرها.
أما "الفضائيات العربية"، موضوع هذه المداخلة، فهي المحطات التي ليس لها صفة قطرية محددة، بل تخاطب المشاهد العربي اينما كان من دون التركيز المباشر على قضايا قطر محدد أو على المشاهدين فيه في شكل مركزي. وتتنافس هذه المحطات في الظهور بمظهر "عربي عام" من ناحية الشكل حيث استخدام العربية الفصحى في معظم ساعات البث، وتعدد جنسيات مقدمي برامجها، والبعد عن المحلية، ...، الخ، والمضمون حيث توسع التغطيات لتشمل كل القضايا العربية من دون التركيز على قضايا قطر محدد، وتعدد البرامج والوثائقيات والحواريات وتنوع المشاركين فيها،...، ألخ. ويندرج تحت هذا التصنيف محطات مثل "الجزيرة" و"شبكة الاخبار العربية - آي أن أن"، و"مركز تلفزيون الشرق الأوسط -أم بي سي"، و"أوربت" و"راديو وتلفزيون العرب - أيه آر تيه" و"أبو ظبي" وغيرها. ونعت هذه المحطات ب"الفضائيات العربية" يتم لغايات تعريفية فقط وللتفريق بينها وبين "الفضائيات القطرية" التي لا ينتفي عنها هذا النعت بطبيعة الحال فهي أىضاً محطات عربية.
على أن التمييز بين الفضائيات "العربية" و"القطرية" يستلزمه استدراكين توضيحيين: الأول هو ان هذا التمييز إجرائي بحت ولا يستبطن أي حكم قيمي معياري أو تفاضلي على، أو بين، أي من النوعين. والثاني: ان هذا التصنيف لا يتضمن القول إن "المحطات القطرية" رسمية مقيدة بسياسات حكوماتها، بينما "الفضائيات العربية" غير رسمية أو غير مقيدة بمحددات سياسية. ف"الفضائيات العربية" تخضع أيضاً للمحددات الرسمية العربية" فهي إما مملوكة بطريقة غير مباشرة من قبل حكومات عربية، أو من قبل أشخاص أو شركات قريبة من هذه الدولة العربية وتنضبط بالسياسات العامة لتلك الدولة، أو لأكثر من دولة في بعض الأحيان، ولو من بعيد. وبالتالي فإن هذه الفضائيات ليست حرة بالمطلق أو مملوكة من قبل قطاع خاص بوصلته تحقيق الربحية، هذا مع ان الربح التجاري يحتل موقعاً متقدماً في أولويات هذه الفضائيات. كما أن كل المحطات الفضائية "العربية"، و"القطرية"، ثبت من طريق القمر الفضائي عرب سات المملوك من قبل الحكومات العربية وباتفاقات رسمية بينها، أي انه لا توجد محطة فضائية فاعلة إلى الآن خارجة كلياً عن النظام الرسمي العربي، وغير مقربة من هذه الحكومة أو تلك أو تحظى بدعم من جهة رسمية ما.
وعلى العموم فإن الظاهرة الجديدة التي تستدعي البحث هي شهودنا حالياً مرحلة بث تلفزيوني فضائي عربي على مدار الساعة يصدر من قطر أو مكان جغرافي ما وعابر للحدود العربية من غير ان يكون محصوراً بالحدود الجغرافية، ليخاطب الجمهور العربي في كل أماكن تواجده من دون المرور بضوابط الرقابة المحلية ومشكلاً تطوراً غير مسبوق تاريخياً في هذه المجال. وهذا الواقع الاعلامي التواصلي الجديد هو انعكاس اقليمي - عربي للعولمة الاعلامية الأوسع نطاقاً والتي تشمل العالم بأسره. أي اننا نشهد عولمة اعلامية عربية مصغرة على مستوى الاقليم العربي ولها امتدادات عالمية حيث تصل وتؤثر في الجاليات العربية المهاجرة في الخارج. والأهم أيضاً ان مضمون البث الاعلامي، سواء التغطيات الاخبارية أو البرامج الثقافية والفنية والترفيهية التي ليس لها صفة قطرية خاصة، بل عربية عامة، أثبت نجاحاً في جذب جمهور عربي واسع من كل الاقطار العربية لا يحتاج الى شواهد اثبات احصائية ورقمية لتأكيده. وهذا أيضاً تطور جديد وغير مسبوق في مجال البث التلفزيوني العربي. كما ان ثمة قديماً تعمل هذه الفضائيات على تجديده وبعث حياة وأبعاد جديدة فيه على مستوى أفقي ورأسي وهو اهتمام الجمهور العربي في قطر معين بالقضايا القومية العربية العامة، أو بالقضايا التي تخص الاقطار الأخرى مثلاً قضية فلسطين، أو الوحدة العربية، أو تعرض أي بلد عربي لحرب أو كارثة أو سوى ذلك. وملاحظة هذا الاهتمام ليست بالشيء الجديد، لكن ما هو جديد هو أن هذه الفضائيات العربية، بتغطياتها وبرامجها وحواراتها، اعطت لهذه القضايا فضاءات جديدة لتعيد طرح نفسها على مستويات شعبية ونخبوية أوسع وأعمق من ذي قبل وبكثافة غير مسبوقة على الاطلاق.
- ثانياً: الحرية الاعلامية والديموقراطية تزيد من التقارب في العالم العربي:
يمكننا من ناحية نظرية اعادة صياغة السؤال المطروح، وهو ما اذا كانت الفضائيات العربية تساهم في التقارب أو التشرذم العربي، وفي شكل آخر هو: هل تساهم الحرية الاعلامية ومظاهر عملية الدمقرطة في زيادة التقارب أم التشرذم العربي؟ وهنا يمكن القول إنه أياً كانت قائمة السلبيات التي يمكن رصدها في مجال أداء الفضائيات العربية وعلاقتها بالحرية الاعلامية، مثل بروز مظاهر الشعبوية، والتراشق الاعلامي، والتصايح الشتائمي على حساب التحليل الموضوعي واحترام الرأي الآخر، وسوى ذلك، تبقى حقيقة واضحة لا يمكن انكارها وهي ان هذه الفضائيات ترفع سقف الحريات الاعلامية في المنطقة العربية في شكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي تساهم ولو جزئياً في عملية الدمقرطة، في البلدان العربية. ولأن الديموقراطية هي البيئة الصحية الأفضل لنمو تقارب عربي - عربي عقلاني اختياري وواع، وتقود على المدى البعيد الى علاقات سلامية، وأقل توتراً بين البلدان العربية، كما هو حالها في سائر مناطق العالم، فإن اندراج أثر الفضائيات العربية في سياق الدمقرطة العام يقود الى الاستنتاج بأن فعل هذه الفضائيات يصب، ولو على المدى البعيد، في جانب التقريب وليس التفتيت العربي.
- ثالثاً: جبهات اشتغال فعل الفضائيات العربية تقريباً أو تفتيتاً:
نميل الى الاعتقاد بأن: أ- الفضائيات العربية تقوم على المدى الطويل بزيادة تقارب العرب في ما بينهم على معظم، إن لم يكن كافة، مستويات الثقافة واللغة والفن والتواصل السياسي والوجداني العام" ب - لكن هذه الفضائيات تكرس، على المدى القصير، جوانب من التشرذم العربي في بعض الميادين وتحديداً على صعد زيادة التوترات بين الحكومات العربية المتنافسة، أو بين المعارضات والحكومات المتناقضة، أو بين المكونات الاثنية أو الطائفية أو الفكرية في البلدان العربية. غير ان مجموعة التوترات السياسية الحاصلة بسبب الفضائيات هي ضريبة لا بد منها.
يمكن رصد اشتغال الفضائيات العربية، من زاوية زيادة التقارب العربي - العربي، على صعد متعددة:
السياسة
سبق القول ان معظم، ان لم يكن كل، "الفضائيات العربية" تتحرك في اطار النظام العربي الرسمي وليست خارجة عنه أو متمردة عليه، وانها قريبة من هذه الحكومة أو تلك. وهذه الحقيقة في حد ذاتها ايجابية كبيرة لأنها تشير الى ان الانفتاح الاعلامي يحدث في قلب النظام الرسمي العربي وليس على هوامشه. صحيح طبعاً ان هناك دوافع متعددة ومتضاربة تقف وراء تأسيس هذه الفضائيات وقد يكون منشأ بعضها صراعي وتنافسي، وأن تحقيق "الانفتاح الاعلامي" ودمقرطة الاعلام لم يكونا الدافع البريء الواضح وراء التأسيس. لكن احدى النتائج الاجمالية التي نراها الآن هي حدوث انفتاح اعلامي ولو جزئي في المنطقة العربية مصادره رسمية وشبه رسمية، مباشرة وغير مباشرة، وبغض النظر عن أسباب التأسيس. وهذا الانفتاح يشكل مكوناً أساسياً من عملية الدمقرطة في المنطقة، وهي الدمقرطة التي ستقود في نهاية الأمر الى علاقات أكثر تقارباً مما هو سائد بين الأنظمة والشعوب والنخب العربية. طبعاً قد يعترض البعض بالقول إن هذا ادعاء غير علمي أو تفاؤلي زائد عن اللزوم، وأن مظاهر ومراحل الدمقرطة العربية قد تقود الى المزيد من التشرذم. وهذا الاعتراض مفهوم لكنه يستند في جوهره أيضاً الى التوقع. وإذ تبنى توقع زيادة التقارب العربي- العربي الجزئي فذلك استناداً الى تجربة الديموقراطية في مناطق العالم التي تشير الى انها تساهم في اشاعة وتجذير درجات اعمق من العلاقات السلمية والتقاربية بين الشعوب والدول المنخرطة فيها. كما ان تغليب اثر حدوث تقارب عربي - عربي في ظل أجواء ديموقراطية، تلعب الفضائيات دوراً في ايجادها يستند على أطروحة أخرى. وهي انه في ظل العولمة الراهنة تلح الخيارات التكتلية على مناطق العالم إلحاحاً متعاظماً، لتخفيف منعكسات العولمة السلبية والاستفادة من آثارها الايجابية. وفي هذا الاطار لو ترك لسياسة اقتصادية وتنموية ديموقراطية منفلتة من قيود مصالح الفئات الحاكمة وصراعاتها مع نظيراتها في البلدان العربية المجاورة، ومستجيبة لضرورات موضوعية بحتة، لغلب التوجه نحو خيارات تكتلية عربية قائمة على العقلانية والمصلحية، وليس الايديولوجيا والاعتباط. فالجيوبوليتيك الاقتصاد الراهن في عالم اليوم يعزز من ضرورة التكتل الاقليمي ويدفع باتجاهه بقوة ما لم تعترضه معوقات سياسية صلدة غير عقلانية في معظمها وبوصلتها مصلحة الفئات الحاكمة لا الشعوب المحكومة.
وفي شكل عام فإن الذي تقوم به الفضائيات العربية في الوقت الراهن، من دون تخطيط، هو تسوية ولو جزء بسيط من الأرض البور التي تحتاج الى حراثة وإزالة للتضاريس الناتئة لتمهيدها لنمو واستقبال ذلك النوع العقلاني والمصلحي من العلاقات العربية - العربية. والمقصود بتسوية الأرض وحرثها هو تناول - كسر حرمة - مناقشة الكثير مما اصطلح على تسميته ب "القضايا الحساسة" مثل التعاقب السياسي وانماط الحكم في البلدان العربية، الديموقراطية وحقوق الإنسان، الخلافات الحدودية، هيمنة بعض الدول العربية الكبرى على الدول الصغرى، التوترات الطائفية، الخلافات المذهبية،...، الخ. صحيح ان درجة حرارة الأطراف المعنية بكل نقاش من هذه النقاشات ترتفع عندما يثار في الفضائيات، لكن من دون اخراج حمولة هذه التوترات من تحت الأرض وتعريضها للشمس فإن العفن الذي عشش في احشائها لعقود من السنين بسبب ابقائها في دائرة "المحرمات السياسية" سوف ينتقل الى الجوار ويبدأ بالتهام الأجزاء غير المتعفنة. وإذا كان هناك من يجادل أن مناقشة "القضايا الحساسة" علناً، ولو بابتسار ومن دون العمق المنشود كما هي سمة أي اعلام على الكرة الأرضية، يقود الى زيادة التشاحن والبغضاء فإن المرور في هذه المرحلة لا بد منه وإن طال الزمن. فهذه، مرة أخرى، أكلاف الديموقراطية التي يجب ان ندفعها سلفاً اذا كنا نحلم ببلدان حرة تتمتع شعوبها بحرية الكلمة والتعبير وليس فيها احتكارات من قبل النخب الحاكمة لما يسمى ب"القضايا الحساسة".
واضافة الى ما تقوم به الفضائيات العربية من كسر المحرمات السياسية ونقلها من احتكارات "القطاع الخاص" المتشكل من النخب السياسة والمثقفين، الى "ممتلكات نقاشية" عامة يتداولها الناس في الشارع، فإنها تقوم ب"تعريب" القضايا القطرية وتعميق بعدها العربي من طريق اخضاعها للنقاش، وبالتالي توليد وعي أفقي، بهذه القضايا أعمق مما كان عليه ذلك الوعي من قبل.
كما يأخذ تعريب القضايا بعداً آخر عندما تداوم الفضائيات العربية على طرح مسائل سياسية وثقافية واجتماعية في برامجها الحوارية تواجه كل البلدان العربية بدرجات مختلفة، مثلاً الحريات السياسية، حقوق الإنسان، وضع المرأة... فالاستمرار في معالجة هذه المشكلات، عبر برامج يتحاور فيها مشاركون من مختلف البلدان العربية، يعمل على صياغة "أجندة اهتمامات عربية موحدة" تتميز بتشابه الهموم والمعضلات وتبادل الآراء حولها والأفكار لمواجهتها. صحيح ان هذا الأمر ليس جديداً إذ هناك منظمات وهيئات عربية وندوات ومؤتمرات متعددة الاهتمامات تناقش أجندات عربية موحدة، لكن الجديد المرتبط بموضوع دور الفضائيات في هذا السياق هو كثافة التغطيات واتساعها والتسابق في تخطي الخطوط الحمر الخاصة بكل حالة، والأهم من ذلك ان هذه التغطيات تلفزيونية وتصل الى عدد غير مسبوق من العرب في شتى جغرافياتهم. وبهذا تحولت قضايا ذات صبغة عربية كان الاهتمام بها مقصوراً على النخبة السياسية أو الثقافية الى قضايا للنقاش الساخن والمفتوح والعام على مرأى ومسمع ملايين الناس العاديين في العالم العربي.
اللغة والثقافة والهوية
ربما جاز القول إن اللغة العربية الفصحى هي أحد أكبر المستفيدين من انتشار الفضائيات العربية. فهذه الفضائيات وفي سياق تنافسها في اكتساب صفة عربية عامة وليس قطرية خاصة، ولجذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين العرب، تبنت لغة عربية فصحى وسطى فلا هي متقعرة ولا هي محلية. وهذه اللغة الوسطى تنتشر عبر الفضائيات ومفهومة من المشرق الى المغرب، ويستمع اليها المشاهدون العرب على ألسنة مقدمي برامج وقارئي أخبار ومثقفين مشاركين في ندوات من مختلف الجنسيات بما يرسخ من "عادية" استخدامها وتدعيم وجودها كوسيط سهل وممكن بين عامة العرب وليس فقط المتعلمين والمثقفين منهم. صحيح طبعاً ان التلفزيونات المحلية العربية تعتمد العربية الفصحى في بث العديد من برامجها، خصوصاً الاخبارية والوثائقية والدينية، لكن" هناك أمران جديدان في مرحلة الفضائيات العربية في هذا الصدد: الأول هو ان معظم البث الفضائي العربي، وأحياناً كله في حال بعض الفضائيات، يعتمد العربية الفصحى الوسطى على مدار الساعة. والثاني هو أن مستخدمي هذه اللغة الوسيطة الذين هم من مختلف الجنسيات العربية والذين تختفي لهجاتهم الدراجة خلف لغة الفضائيات الوسطى، يمنحون هذه اللغة شرعية استخدام جديدة في كل البلدان وحيث يتابعهم مشاهدون من مختلف الجنسيات العربية أيضاً.
واذا ما اعتبرنا اللغة الإطار العام الذي تتبلور فيه الهوية وتأخذ أشكالها المختلفة فإننا ندرك اثر الفضائيات العربية في ترسيخ مشتركات "هوية وثقافة عربية" يساهم في خلقها التسيس الفضائي العربي، والتدين الفضائي العربي، والتثاقف الفضائي العربي، والغناء الفضائي العربي وغير ذلك من منشطات "قضائية" لعناصر الهوية العربية. ليس هذا معناه حدوث تغيرات جذرية، بل ان الحديث هنا يتم في اطار النسبية والتدريجية البطيئة، كما ان ذلك لا يعني بداية اندثار الهويات القطرية، فهذا ليس مطلوباً ابتداء لأنه غير ممكن وغير صحي، لكن المغزى الاجمالي هنا هو ان هذه الهوية العربية المشتركة تتطور بهدوء ومن دون قسر وبطوعية. والأهم من ذلك انها متصالحة مع الهويات القطرية، بما يدفع للقول إنه للمرة الاولى في تاريخ العرب الحديث، يلوح في الأفق امكان حقيقي، وعمل غير نظري، لانتاج هويات مركبة متصالحة في الحواضر العربية تمزج بين المكون المحلي والقومي. وتحاول ادماج المكون العالمي في شكل غير مقصود من طريق التنوع وضرورة تغطية فترات البث الطويلة على مدار الساعة.
وثمة بعد آخر مهم مرتبط باشتغال هذه الفضائيات على صعد الهوية واللغة والثقافة وهو أثرها العميق في الجاليات العربية في المهجر وتفعيل تواصلها مع بلدانها الأم. فهذه الفضائيات استطاعت ان تربط الجاليات العربية في كل مكان بأوطانها الأم في شكل غير مسبوق، ولدرجة قد تكون سلبية في بعض الاحيان. وبهذا ازداد تحييد عنصر الجغرافية في شكل واضح في تأطير علاقة الفرد العربي المهاجر بوطنه، ولم يعد عنصراً حاسماً في رسم شكل تلك العلاقة كما كان الحال عليه في هجرات العرب الأولى، مثلاً، الى الولايات المتحدة أو أميركا اللاتينية في أوائل القرن العشرين. فآنذاك كان المهاجرون ينقطعون تماماً عن بلدانهم الأصلية وعندما يكبر الجيل الثاني أو الثالث من أبناء المهاجرين الأوائل يجدون انفسهم وقد فقدوا كل صلة لهم بتاريخ وهوية وثقافة الأب أو الجد. أما الآن فيمكن الزعم أن الأمر يختلف تماماً. فإضافة الى سهولة ويسر الاتصالات والمواصلات مقارنة بالسابق، فالفضائيات العربية والمحلية التي تصل الى بلدان المهجر أصبحت وسيلة اتصال يومي، بل "لحظي"، بالأوطان الأم فوثقت العلاقة وسهلت على جيل الآباء وصل أبنائهم بأوطانهم من طريق العيش اليومي مع ما تبثه الفضائيات. والسلبية التي ترصد هنا هو أن اعتماد المهاجرين العرب في المهجر، وفي الغرب تحديداً، الفضائيات العربية الوسيلة التلفزيونية الرئيسية سواء للحصول على الأخبار، أو الترفيه، أو التثقيف، يساهم في عزلهم عن المجتمعات التي يعيشون فيها، وعن واقع السياسة والثقافة والفن وسوى ذلك مما يحيط بهم. حتى ان الخبر المحلي المعني ببلد المهجر يسمع من الفضائيات العربية وليس من مصدر محلي. والمشكلة هنا هي ان هذا الانعزال الآخذ في الازياد يضعف من التفاعل الايجابي بين الجاليات المهاجرة والمجتمعات التي تعيش فيها، ويقلل من قدرتها في التأثير في تلك المجتمعات.
الفن والترفيه
تعمل الفضائيات العربية على نشر الفن والترفيه العربي بأشكاله المختلفة، في المنطقة العربية في شكل غير مسبوق أيضاً. واذا كانت أم كلثوم قد اخترقت الحدود العربية - العربية في أوج العهد القومي وغنى أغنياتها المغاربة والمشارقة معاً، فإن فضائيات اليوم جعلت من عاصي الحلاني وكاظم الساهر وديانا حداد من المشرق وأصالة والشاب خالد وعبدالوهاب الدوكالي من المغرب لا يحتاجون الى أجواء ناصرية ووحدوية كي يخترقوا الحدود العربية وكي يردد اغنياتهم ملايين العرب بغض النظر عن الجغرافيا والجنسيات. وهذا يحمل في طياته معاني عدة تتداخل فيها طواعية توحد المذاق الفني والثقافي في اطاره اللغوي العام، وديموقراطية تنوعه.
يبقى ان هذه الفضائيات متهمة، في نظر البعض، بأنها تقوم ب"تمييع وافساد الشباب" وتنشر ثقافة "البوب العربي" و"الاغاني الهابطة" وسوى ذلك. وهنا لا بد من التوقف بعض الشيء والتمسك بمنظور النسبية مرة أخرى. ومن دون الانخراط في احكام قيمية، وبقبول جدلي بهذه التوصيفات لأغراض النقاش فقط، فإنه يمكن القول إن ما يغيب عن أصحاب هذه النظرة هو ان المعروض أمام شرائح واسعة من الشباب والشابات العرب هو اما افساح مجال أكبر في اهتماماتهم ل"البوب العربي" أو "البوب الغربي"، لنجوى كرم وإما "برتني سبير"، لوليد توفيق وإما ل"مايكل جاكسون". وانه امام هذه الخيارات يصح القول إنه من الأفيد حضارياً وثقافياً ان يتم "تميع" تلك الشريحة من الشباب العربي في اطار الحضارة والثقافة العربيتين، وليس خارجهما لأن معنى ذلك انسلاخ حضاري وليس "تميع" فقط. والحضارة العربية الاسلامية اتسعت على الدوام لكل الشرائح "مائعها" وجديّها. سيعترض البعض بالقول إن قصر الخيارات على خيارين يتيمين كليهما يقع في دائرة "الميوعة" الفنية العربية أو الغربية هو تلاعب بالنقاش إذ هناك خيارات اخرى جدية يجب ان ينصرف اليها الشباب وتركز عليها الفضائيات العربية. وهذا صحيح جزئياً فقط ذاك ان كثيراً من الشرائح الشبابية العربية ستظل تميل نحو أحدث صرخات الغناء والفن والرقص سواء رضينا أم أبينا، وبالتالي ستظل تقلب أزرار الفضائيات العربية والعالمية الغربية حتى تستمع لما تحب، خصوصاً في زمن عولمة اعلامية لم تعد تسمح باغلاق الأبواب القومية.
* كاتب فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.