بين أكثر الحروب ضراوة التي يخوضها العراقيون اليوم، حر الصيف أو هجيره اللاهب في ظل انقطاع التيار الكهربائي المستمر مع سبق الاصرار والتصميم. ولا يشك أكثرهم في ان عقاب جهنم الذي توعد الرب به الكفار، تحول على أيدي الاميركيين الى أيديولوجيا تقوم على مبدأ الاهمال، إهمال الاخطاء كي تتراكم لتغدو خطايا غير قابلة للتصحيح. ومنذ دخولهم بغداد والأميركيون يتفنون بتقليد صدام حسين، فقد أطلقوا يد السلب والنهب، كي يتفرجوا على فولكلور محلي تقوده زمرة من الجوعى والمجرمين، عصابات كان يمكن السيطرة عليها بيسر وسهولة لو فرض منع تجول ووضعت خطة للتحكم بزمام الامور، بما فيها مراقبة صدام وأعوانه، وجمع الاسلحة التي أباح النظام بيعها وانتشارها، فقد أضاعوا عنصر المباغتة بعد ان حققوا الانتصار السريع الذي شل النظام وأفقده السيطرة على نفسه، وقس على هذا في معالجة كل الامور. غير ان الاصرار على سياسة التعالي على المشكلات الملحّة، واعتبار هذه السياسة نهجا يليق بالمنتصر، هي الخطيئة القاتلة التي سيدفع ثمنها الأميركيون والعراقيون على حد سواء. فالعراق المنهك من الحروب والحصار والقمع، مجتمع مفكك، عانى إهمال الدولة واضطهادها حتى شبع معاناة الى الدرجة التي حلم بيوم تحرير على يد القوات الاميركية. ولكن سياسة التخبط التي نهجها الجيش المحتل، تدل على مقولة من الصعب دحضها، فهذه القوة العظمى التي وعدت العراقيين بالمن والسلوى، تملك رأس تنين وكل جهة فيه تتجه الى مخالفة الاخرى في سباق السيطرة على بلد مترام أخطر ما فيه مقدار الضيم الذي يحمله الناس كبركان ينذر بالانفجار. السياسة الاميركية في العراق تحمل وجهين: الجهل بحاجات الناس وأوضاع البلد، والتفرد بصنع القرارات، متجاوزة حتى من جلبتهم معها كمستشارين أو منسقين من أهل البلد. فبريمر شأنه شأن سلفه كارنر، يملك العزم أو الاصرار ذاته الذي يقول إنهم، أي الاميركيين، قوة احتلال لشعب من الاعداء. هذه الفكرة تبدو غريبة على المقولة الاميركية التي فرضت على العالم قرار رفع الحصار عن العراق، وتعمل على جدولة ديونه وتأجيل الكثير من التعويضات. إذاً لماذا تتصرف على أرض العراق وفق مبدأ: كيف تجعل من نفسك هدفاً سهلاً لكراهية العراقيين؟ سيبدو من النافل الحديث عن الجوع والمعاناة والعطالة والامراض المتفشية بين العراقيين، ولكن الذي يضاعف هولها ان الاحتلال الاميركي زاد من قوة التهديد الذي يشكله وجودها في ظل غياب الدولة بالكامل. فرب العائلة الذي يمرض أطفاله وهو أمر حتمي في حال العراق اليوم، لن يجد مستشفى تقوم بتطبيبه. ولا نعرف لماذا امتنعت قوى التحالف عن اعتبار أن العراق دخل حال طوارئ، وليس هناك من بلد مثله يمر بمثلها الآن، هذه الحال تحتاج الى خدمات عاجلة ومساعدات من الدول الاخرى، تسعف الناس على تسيير امورهم على نحو موقت، ان كان الاميركيون غير قادرين على توفيرها. سياسة قوى التحالف الأميركي - البريطاني تقوم اليوم على مبدأ ان العراق من حصتها ولا تقبل الشراكة مع أحد حتى في الشؤون اليومية التي يمكن احتسابها خارج السياسة. فلو فكرت مثلاً بتقديم طلبات الى الدول الأوروبية بالشروع بإنشاء مستشفيات متنقلة او طارئة يديرها أطباء عراقيون، وما اكثر العاطلين من العمل بين صفوفهم مع توفير حراسة لا تكلف الكثير، لبرهنت على انها لا تتعامل مع اهل البلد كرعايا غير ملزمة بإطعامهم او تطبيبهم او رفع الكرب المستديم عنهم. فانقطاع التيار الكهربائي والشحة في الماء والفقر المدقع، كل هذه الامور تؤجج المشاعر وتزيد من حدة التوتر اليومي الذي لا يجد فيه الناس القدرة على التنفيس سوى لعن قوة الاحتلال والشعور بأنها مسؤولة عن عذاباتهم. لعلنا في كل مرة نتجه الى التفسير السياسي، أو التحليل السوسيولوجي في قراءة سلوكيات القادة والمسؤولين بمن فيهم المحتلون الذين نصَّبوا أنفسهم قادة للعراق من دون منازع، ولكننا في هذه الحال لن يكون في مقدورنا الحديث عن تفسير مقنع للكثير من الخطوات التي يتبعها الاميركيون منطلقين من مبدأ العمل على استراتيجية البناء البعيدة المدى، مهملين الاوضاع الراهنة التي تعرقل عمل اية استراتيجيا حقيقية. ولعل قرارات حل الجيش وحزب البعث بهذه الطريقة الاستعراضية، كانت واحدة من الخطوات التي تشير الى قلة خبرة وتسرع لا نظير لهما. فالجيش هو الذي جعل صدام يخسر الحرب بسهولة، والأميركيون أنفسهم يعرفون جيدا هذه الحقيقة الى الدرجة التي أرادوا في البداية ان يولوه سلطة العراق لولا معارضة القوى السياسية الاخرى التي خافت من عودة حكم العسكر. أما حزب البعث فهو في حكم المنحل كما يعرِّف البعثيون انفسهم، ولا تجدي خطوة مثل هذه سوى دفع أفراده وأفراد الجيش الى صف استخبارات صدام ومجموعاته التي لم تُجرَ تصفيتها ولم يتعرض لها الاميركيون كما ينبغي، فهي تظهر في كل مكان وتتجول بحرية مهددة الناس بعودة النظام. القوة الاميركية غير قادرة على متابعة هؤلاء ورصدهم وحدها، فهي تبقى قوة غريبة ولا تعرف عن البلد شيئاً، والكثير من العراقيين يقولون ان الخوف يمنعهم من تبليغ الأميركيين عن المجرمين من رجال الاستخبارات السابقين وقادة الفرق الذين تولوا تنفيذ أحكام الإعدامات، وهم الان يظهرون علنا بعد ان ضمنوا أمرين، عجز الاميركيين عن معرفتهم، وخوف الناس منهم. قال احد الشباب لكاتبة السطور: كيف لي ان أبلّغ عن هذا المجرم الذي أراه يخرج من بيته ويتمختر امام انظار الناس كل يوم: هل اذهب الى الدبابة وأنادي على الجندي وأنا حتى لا أعرف الانكليزية جيداً؟ سيقولون عني بلا شك انني عميل لهم. هذا القول على بساطته يختصر وضعاً يتجاهله الاميركيون، وهو ان قضية الاحتلال في الأصل مخلِّة بكرامة أي بلد، وأن التعامل معها على انها حقيقة مستمرة وليست موقتة، ستجر على الاميركيين أنفسهم الخسارة مثلما تجلب الخسارة والمتاعب للعراقيين. ففكرة العراق للعراقيين التي ينادي بها الرئيس بوش ينقضها حاكمه في العراق كل يوم، وهو من الثقة بالنفس الى حد عدم ادراكه خطورة الوضع الذي تضاعفت فيه عمليات التصدي لجنوده. هذه العمليات من دون شك ستزيد من حدة التوتر في بلد انهك خلال عقدين من الزمن بحروب مستمرة. مفارقة الخوف من انسحاب الجيش الاميركي التي سيعقبها بالحتم، انهيار المجتمع بالكامل، هي التي تشغل العراقيين اليوم، مثلما يشغلهم الوجود الاميركي المضاعف الذي حوّل بغداد وبعض المناطق الغربية الى ثكنة عسكرية يصعب التأقلم معها. فالعراقيون في ظل غياب الدولة الكامل، يحققون معجزة البقاء من دون احتراب طائفي او قومي او حتى انتقامات تعتمل في نفوس الناس من بقايا قيادات البعث والاستخبارات التي تركت الكوارث في كل بيت عراقي. ولكنهم اليوم يواجهون عنفاً جديداً ومنظماً سواء من جانب مافيات السرقة والسلب التي تطمح الى السيطرة على البلد بما تملكه من الاسلحة والرجال، او في الحملات التي تشارك فيها العناصر المضادة للوجود الاميركي، او من الأميركيين انفسهم الذين يدهمون المناطق ويروعون الناس في حملات التفتيش. ولعل طرقهم التي تذكر بأفلام العصابات، تؤدي بالحتم الى زرع الكراهية من وجودهم في نفوس العراقيين. الاداء الاميركي على الارض يقوده جنود صغار السن، بعضهم يفتقر ليس فقط الى الخبرة، بل الى النزاهة او الاحساس بطبيعة الاختلاف بين عاداتهم وعادات هذا البلد، وتحتاج الاشاعات التي تلاحقهم، وبينها سرقات اموال البيوت التي تفتش، الى فتح تحقيق هم احوج اليه قبل العراقيين. السلام والأمن والحاجات الاولية، أضحت اليوم متقدمة في مطالب العراقيين على الحرية التي ظنوا في عهد صدام حسين انها تتقدم على كل شيء، وإن ظل الأميركيون في وهم المراهنة على مقدار الامتنان الذي يستشعره العراقيون لتحقيقهم معجزة التخلص من صدام، فسيجدون انفسهم في نهاية المطاف بمواجهة عجزهم عن اقامة بديل مقنع لنظامه. انهم يواجهون اليوم مشكلة السلطة، من يحكم العراق، هم ام العراقيون. وأي تهاون في هذا الموضوع او النظر اليه باعتباره مشكلة ملحقة وليست أساسية، سيجر عليهم وعلى العراقيين المزيد من المتاعب. فكل القوى العراقية الآن، بما فيها بقايا النظام، في وضع تريد به اثبات وجودها على الارض، اضافة الى التداخل الاقليمي الذي تريد فيه تركيا وايران والدول العربية حصة لها في العراق. وأكثر القوى وبخاصة القوى الخارجية وبقايا النظام لا تشعر بمسؤولية ازاء مستقبل العراق. القضية الاساسية الآن تكمن في الكيفية التي تدار بها المداولات على السلطة، سواء تلك التي تريد حسمها بالحرب وبينها بقايا النظام العراقي والفدائيون العرب الموجودون بكثرة، مقابلهم الأميركيون بعدَّتهم وأعدادهم التي تتضاعف. هذا الوضع ربما يذكر الناس بالاوقات الصعبة التي مر فيها لبنان عشية انتهاء الحرب وتوقيع اتفاق الطائف، حيث دُفعت الامور الى حدها الأقصى حتى ظن الناس ان لا مستقبل للبنان. غير ان الاختلاف في حال العراق، هو كون المعركة على ارضه ليست معركة اقليمية، بل تتعدى هذا الأمر الى كونها دولت على نحو خطير. ويحتاج الأميركيون الذين دولوها قبل غيرهم، الى مشاركة عالمية في فض نزاعاتها، مشاركة للأمم المتحدة وللدول الغربية التي ينبغي ان تدع لها اميركا الفرصة كي يطمئن العراقيون الى حقيقة ان هناك اهتماماً عالمياً بوضعهم. جهود تشكيل قوة من الشرطة المحلية غير المسلحة لن تكفي، بل ستكون عرضة لهجمات عناصر النظام ومافيات السرقة التي تشكلت من الحرامية والقتلة الذين اخرجهم صدام من السجون وبقايا المتوحشين من استخباراته الذين بدأوا بتنظيم هؤلاء واستثمارهم قبل ان تبدأ الحرب بسنوات. يحتاج العراق اليوم الى مشاركة شرطة عالمية، وإلى خبرات كل العالم ومساعداته كي ينهض بنفسه ويتجنب المزيد من الكوارث، بما فيها كارثة الوجود الأميركي على هيئة احتلال لا يثق بقدرة العراقيين على ادارة بلدهم، ولا يثق حتى بشركائه سواء من عراقيي الداخل او من الذين جلبهم معه. كل الناس اليوم تلهج بلوعة مطالبة بحكومة عراقية، وربما ينطوي مطلبهم الملح على مبالغة في قدرة هذه الحكومة على ان تعيد الامور الى نصابها، ولكنه يشير الى رغبة في انهاء فترة الحرب والتطلع الى السلام والبناء والشعور بعودة الدولة العراقية المستقرة المستقلة التي افتقدها العراقيون حتى في عهد صدام. معجزة المستقبل العراقي تحتاج من الاميركيين القبول بمبدأ المشاركة، مشاركة الاممالمتحدة والدول الأوربية. فالوضع في العراق اخطر من الوضع في البلقان بعد انتهاء الحرب، والخطورة فيه لا تجر كارثة على العراق وحده، بل على المشروع الاميركي في سلام الشرق الأوسط، والتطلع الى المثال العراقي عالمياً كنموذج للنجاح الأميركي لا الفشل. الانتباه الى هذا الوضع الحساس الذي يحتاج الى حلول سياسية عاجلة، ينبغي ان يكون المطلب الملح للدول العربية الصديقة لأميركا، وحتى تلك التي تخاف على مستقبلها من الوجود الأميركي في العراق. فالتفاهم والحوار على المستوى السياسي، وحل المشكلات اليومية بمساعدات عاجلة من دول الجوار والاتحاد الأوروبي، مصحوبة بخطة طوارئ، هي صمام الأمان للشارع العراقي الذي انهك من البطالة والحر والمرض، ولا ينتظر خططاً توضع لمستقبل ينفي او يتجاهل مشكلات اليوم. فما يأتي به الغد تدلل عليه خطوات الحاضر، وهي الى اليوم تنذر بالخطر أكثر مما تبشر بالسلام والاستقرار. * كاتبة عراقية