ليس مستبعداً ان تنشأ حال مقاومة للاحتلال الاميركي البريطاني في العراق. لكن ما نشهد حالياً لا يعتبر من هذه المقاومة. انه على الارجح مزيج من ظاهرتين. تتمثل الاولى بوجود بقايا من النظام السابق تمكن عناصرها من الانسحاب ويحاولون اعادة تجميع صفوفهم وتنظيم عملهم. اما الثانية فتعكس احتجاج قطاعات تضررت بشكل مباشر من جراء قرارات اتخذتها سلطة الاحتلال في اطار اعادة تأسيس الحكم والجيش والمؤسسات من نقطة الصفر. كما حصل في تصفية انظمة مشابهة في المعسكر السوفياتي السابق، كان من الطبيعي توقع تداعيات ومضاعفات من النوع الذي يظهر الآن. فالتركة حين تكون ثقيلة ومتجذّرة لا يمكن ان تزول بسرعة وتلقائية، وقد تتطلب احياناً وقتاً طويلاً لاخماد نارها. ولا بد من ملاحظة ان ممارسات قوة الاحتلال خلال فترة قمع جيوب "المقاومة" هذه ستترك أثراً في وجدان العراقيين. فهؤلاء لم يعودوا يراهنون على "انصار صدام" مهما نجحوا في توجيه ضربات موجعة للاميركيين، لكنهم ناقمون طبعاً على الاوضاع التي اوجدها الاحتلال سواء بتشريد الآلاف الذين كانوا في عداد الجيش او الحزب او بعض الوزارات. فالمسألة هنا تمسّ مئات آلاف العائلات في حياتها ومستقبل افرادها. هناك العديد من القوى السياسية العراقية التي رفضت هذه الاجراءات وانتقدتها، وهناك قوى اخرى أيّدت وقوى فضّلت التأييد الصامت، بمعنى انها غير معنية بها. لكن اي حكم جديد سينشأ بعد سنة او سنتين او اكثر سيكون مدعواً لمواجهة المشاكل الاجتماعية التي افتعلتها القرارات الاميركية. صحيح انه لم يكن ممكناً الابقاء على حزب البعث، الا ان محوه بجرّة قلم اجراء غير واقعي قد يرضي فئات مهمة في المجتمع العراقي لكنه بمثابة "ابادة" حياتية لكمّ هائل من البشر. اما الجيش فلم يكن حلّه هو الخيار الوحيد والأمثل، ليس فقط لان فيه منحى "الإبادة" ايضاً، وانما لأنه يعطي مؤشرات بالغة السلبية الى نيّات خفية لدى سلطة الاحتلال. في اي بلد، في العراق او في سواه، هناك تأطيرات معينة وجدت للحكم ومؤسساته، ولم يكن امام ابنائه سوى الانضواء في تلك الأطر كما يحدث دائماً سواء من قبيل احترام الدولة او من قبيل سلوك سبل الانتماء المتوفرة. قد تكون الأطر احزاباً او أسراً حاكمة، وقد تكون جيشاً ووظائف وفرصاً واعرافاً. الى اي حد تمكن محاسبة الشعب او بعضه اذا انحرف النظام او جنحت قيادته نحو الاستبداد، وباتت تشكل خطراً داخلياً وخارجياً؟ هذه مسألة طرحت نفسها في مختلف حالات تصفية الانظمة. الفارق في العراق ان ظروفه منعت نشوء قيادة جاهزة ومنسجمة وطنياً لتسلّم مقاليد الحكم. بل ان كل سيناريوات تصفية النظام السابق كانت تصطدم باحتمالات نشوب حرب اهلية، ذات طابع طائفي وعرقي وسياسي. لم تكن عند النظام البائد بدائل، ولم يرد عند الاميركيين احتمال التفاوض معه على ترتيبات التخلي عن الحكم، لذا تبدو سلطة الاحتلال اليوم كبديل وحيد، بل كضمان وحيد من تدهور الاوضاع الى اقتتال اهلي. بديهي ان وجود القوة الاميركية على ارض العراق هو ما يمدّ الوضع بشيء من التماسك، لكن العقل السياسي الاميركي الذي يسعى الى اعادة هندسة البلد يبقى مشكوكاً في حكمته وفاعليته، لأن له قوالبه وانماطه وانحيازاته واجندته غير المعلنة. هناك الكثير من التجريب والتسرّع في خيارات سلطة الاحتلال، ما يعني انها في صدد اقامة طويلة، لا بد ان تعتمد فيها على القوة وعلى القوة فقط لتسيير امورها. اما التوصل الى الصيغة السحرية للحكم الذي يصهر جميع القوى في اطاره، فيبدو مسألة لا تنفك تؤجل نفسها، وهي لن تولد من فكرة تلمع في ذهن بول بريمر وانما من حوار وطني لا بد ان تشجع سلطة الاحتلال عليه اذا كانت تفكر في رحيل مبكر. لن تختلف القوى السياسية العراقية، مهما تناقضت مواقفها، على الاساليب الاميركية في معاركة "جيوب المقاومة" المنبثقة من بقايا النظام السابق. لكن مواقفها ستتوضح اكثر كلما اقترب الاميركيون من المسألة الجوهرية، اي صيغة الحكم وهويته وتقاسم مراكز النفوذ فيه. وكلما تقاربت هذه القوى من التوافق كلما أزف موعد رحيل الاحتلال. وكلما حال الاحتلال دون توافقها كلما غذّى نزعة المقاومة التي ستكون عندئذ "مقاومة وطنية" ضد هذا الاحتلال.