حين اتصل بي فرج فودة هاتفياً صباح 6 أيار مايو 1984 يطلب زيارتي في منزلي، لم أكن قابلته من قبل، وإن كنت سمعت عنه وقرأت كتابه الممتع عن أسباب خلافه مع فؤاد سراج الدين واستقالته من حزب الوفد الجديد، بسبب ما ارتأى أنه تنكّرٌ من جانب الوفد لمبادئه العلمانية القديمة، وما استنكر من انتهازية سراج الدين المتمثلة في تحالفه مع جماعة "الإخوان المسلمين" بغرض توسيع قاعدة الوفد الشعبية. وسرعان ما برز اسم فرج فودة بعد صدور كتابه باعتباره النصير الاول للعلمانية، والمناضل الذي لا يكل ولا يمل ضد خطر الجماعات الاسلامية. أتى لزيارتي عصر ذلك اليوم: رجل في نحو الاربعين من العمر، شديد السمنة، أصلع، يبدو أكبر من سِنه وإن كان جمّ الحيوية والنشاط. بدأ بالثناء على كتابي "دليل المسلم الحزين" ومقالاتي في مجلة "المصور"، ملقباً إياي بأستاذه، وظل حتى مات على هذا الثناء المفرط أمامي على كتاباتي، وإن كنت لاحظت خلال السنوات الثماني التالية انه يكيل الثناء نفسه للكثيرين، ويصف نفسه للكثيرين بأنه تلميذ لهم. مجرد لُطْف معشر لا يرقى إلى درجة النفاق. وقد حببه تودده هذا الى قلوب معارفه، كما حببته اليهم روحُه المرحة، وخفة ظله، وذكاء حديثه، وأدبه الجمّ، وخلوه من الغرور على رغم اتساع شعبيته يوماً بعد يوم، وبسرعة مذهلة، بخاصة بين العلمانيين والاقباط ولدى الدوائر الرسمية. كنا في ما بعد، إذ نستقل سيارته او سيارتي معاً، يفاجئنا ركاب السيارات عن يميننا او يسارنا حين يتعرفون إليه بالهتاف والدعاء له: "الله ينصرك يا دكتور فرج! ربنا يخليك لنا يا دكتور!"، فتتهلل أساريره، ويرد على المحيين بالشكر رافعاً يده الى صُدغه. لم يكن ثمة هدف واضح له من تلك الزيارة غير التعارف وإبداء الإعجاب، والتعبير عن أمله في أن تتوثق الصلة بيننا وقد كان حكمي عليه وقتها أنه وإن كان سياسياً أصيلاً متمكناً، مجرد مبتدئ في مجال الدراسات الاسلامية، على عكس المستشار محمد سعيد العشماوي، لذا فقد كانت دهشتي عظيمة، إذ أتبين بمرور الأيام، سواء من خلال أحاديثه ومحاضراته وما يشترك فيه من ندوات، وكذا من خلال كتبه الكثيرة المتتابعة في الإسلام، نمواً سريعاً مطرداً في معارفه الاسلامية، وهو نمو لم يكن في الوسع تفسيره بغير إلزامه نفسه إلزاماً صارماً بالتوسع في القراءة في كتب التراث العربي، والفقه والشريعة. بعد ستة أيام من تلك الزيارة، دعاني المحامي والسياسي المخضرم مصطفى مرعي الى تناول الشاي معه في منزله في الجيزة، تحدث طويلاً عن تصوره لكيفية إصلاح أحوال مصر من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وعن أنه في سبيله إلى إعداد برنامج قابل للمناقشة والتعديل، وإلى تأسيس جماعة باسم "أنصار الفكر الحر"، هو على استعداد لتمويلها وتهيئة مقر لها ولرئاستها إن رأت غالبية الاعضاء أن يترأسها. ثم ناولني قائمة بأسماء مئة من الشخصيات المختلفة الميول والاتجاهات، راجياً إياي الاتصال بهم لاستطلاع رأيهم في شأن الانضمام الى الجماعة. ووردت في القائمة اسماء طارق البشري وسعيد العشماوي وفرج فودة ونعمان فؤاد واسمي وأخي جلال. ثم أفادني بأنه على وشك السفر إلى سويسرا مع زوجته شقيقة الممثل محمود مرسي لمدة اربعة اشهر، أوافيه بعدها بنتيجة اتصالاتي وتصوري للقاءات الجماعة ونشاطها وسياستها. وباتصالي به مساء اليوم نفسه 12 أيار 1984، تردد لحظات قبل ان يجيب بقوله: "الحقيقة انني الآن في سبيل تأسيس حزب جديد، هو "حزب المستقبل"، وضعتُ بالفعل برنامجه المشابه في الكثير من ملامحه لأهداف جماعة مصطفى مرعي، وكنت على وشك زيارتك لإعطائك نسخة من هذا البرنامج، ولدعوتك الى الانضمام الى عضوية اللجنة التأسيسية. فهل يمكن إبلاغ استاذي العظيم مصطفى مرعي عميق امتناني، إذ فكّر في شخصي، والصعوبة العملية التي تعترض جمعي بين رئاسة حزب وعضوية تنظيم آخر، واستعدادي الكامل مع ذلك لإدماج الحزب بالجماعة مع التخلي من جانبي له عن الرئاسة؟". ثم كان أن لم يُقدّر لا لجماعة مصطفى مرعي ولا لحزب فرج فودة أن يرى النور، لم يقبل فكرة مرعي معظم الشخصيات المئة التي اقترحها، واندثرت الفكرة الى الابد بوفاته بعد عودته من سويسرا بفترة قصيرة. أما حزب المستقبل، فقد أقام فودة احتفالاً بتأسيسه في غاردن سيتي يوم 8 تشرين الاول اكتوبر 1984، دعا اليه السفراء الأجانب ورجال الصحافة وعدداً من الشخصيات المستقلة وزعماء القبط، وقرأ فيه برنامج سياسته الداخلية والخارجية. غير أن الحكومة لم تقبل التصريح للحزب رغم تأييدها سياسته العلمانية، خشية مطالبة الاسلاميين بتشكيل تنظيمات مقابلة، أو خشية بذْرِه بذور فتنة طائفية جديدة. والواقع انني منذ قراءتي لبرنامج الحزب لم ألمس ما يشجعني على الانضمام اليه، ذلك انه على رغم ما حاول فودة اضفاءه عليه من ليبرالية، تبينتُ في طياته نزعة فاشية واضحة، تمثلت في استعداده لقمع الحركات الاسلامية بالأساليب نفسها التي انتهجها النازيون تجاه مخالفيهم، أو في تصريحه الساذج بضرورة ضم السودان وليبيا بالقوة إلى مصر، أو في ما لمسته من فودة من اعتماد في تمويل نشاطه على ما يزوّده به نظام صدام حسين من مال. وقد حاول مرة واحدة جس نبضي بصدد إمكان مرافقتي إياه في زيارة الى بغداد، فلما أبيت بقوة، تظاهر على الفور بالاقتناع برأيي، ولم يفاتحني بعدها قط في شأن صلاته بعدد من الجهات الأجنبية. كان موقف الحكومة منه يتسم بالتذبذب، فهي من ناحية تقر علمانيته ويسرّها هجومه العنيف على الجماعات الاسلامية، متطرّفها ومعتدلها، غير أنها في الوقت نفسه تمنع ظهوره في التلفزيون او الإذاعة، إذ كانت تدرك ان عنف هذا الهجوم - وإن أطرب العلمانيين والمسيحيين وصحافة الغرب - يثير غضب الاسلاميين ويبعثهم على المزيد من التطرف والتصلب في مواقفهم، خصوصاً وقد باتوا يعتقدون ان فرج فودة ألد خصوم فكرهم، وأن مقالاته الاسبوعية في مجلة "اكتوبر" تسيء اساءة بالغة إلى صورتهم وسمعتهم لدى المثقفين المصريين. كانت تلك المقالات وكتبه عموماً، لاذعة حقاً، مملوءة بالسخرية والتهكم اللذين كثيراً ما كانا يصلان - في رأيي على الأقل - الى حد الإسفاف والردح، بل كثيراً ما كانت السلطات توافق على طلب شيخ الازهر او غيره مصادرة كتب فودة، وتغض الطرف عن قيام المُلتَحين في المعارض الدولية للكتاب في القاهرة بالاستيلاء عنوة على النسخ المعروضة، ثم اتلافها او احراقها، وعن قيام أعدائه في الندوات التي يشترك فيها بسبه وإهانته والشوشرة على حديثه والهتاف ضده، ومع ذلك عينت الحكومة حارساً له بعد تكرار التهديد باغتياله. وقد ضجر فرج فودة في النهاية - شأن نوال السعداوي في ما بعد، أو علاء حامد، أو نصر حامد أبو زيد - من عبء هذه الملازمة المستمرة التي تقيد حريته في الحركة، وتنتهك حرمة حياته الخاصة، فكان أن طلب من السلطات ان تسحب الحارس، موقعاً على إقرار منه بأنه مسؤول عن سلامته الشخصية. على رغم كل شي، من عدم رضائي عن الاسفاف في مقالاته، وشكي في صلاته بجهات أجنبية، ومصادر تمويل نشاطه وأسفاره، ظلت العلاقة بيننا ودية حتى النهاية، يسرّني الالتقاء به ويسرّه الالتقاء بي في الندوات والمحافل العامة وحفلات العشاء، يزورني في بيتي وأزوره في مكتبه الذي قابلتُ عنده فيه للمرة الأولى الكاتب احمد صبحي منصور، وكان وقتها حديث عهد بفصله من وظيفته كمدرس في الجامعة الازهرية بسبب آرائه التي وصفها المسؤولون هناك بأنها أفكار إلحادية، أما عن مسكن فرج فودة فلم تطأ قدماي عتبته قط، ولا كان - على حد علمي - يدعو أحداً لزيارته فيه، بسبب مشكلاته العائلية. غير أنه حدث في 11 آذار مارس 1992 أن نشرت لي صحيفة "الاهالي" مقالاً ضمّنتهُ النص الحرفي لمكالمة هاتفية بيني وبين فرج فودة، وتعرضنا فيها بالحديث عن المستشار سعيد العشماوي، وفي ما يأتي نص المكالمة: - طبعاً سمعت الخبر يا استاذ حسين. - أي خبر؟ - خبر مصادرة خمسة كتب للمستشار العشماوي في معرض القاهرة الدولي. - نعم وآلمني الأمر وأحزنني. - آلمك وأحزنك؟! على من أحزنك الخبر؟ - على المستشار العشماوي. - على المستشار العشماوي؟! استاذي الكبير، اتصل بدار "سيناء" لتسألها عن حجم مبيعاتها من الكتب الخمسة منذ اذيع خبر مصادرتها. في بحر ثلاثة ايام بيعت سبعة آلاف نسخة من كتاب "معالم الاسلام" وخمسة آلاف من كتاب "اصول الشريعة"، و16 ألفاً من كتاب "الخلافة الاسلامية". كم نسخة بيعت من كتابك "الإمام" حتى الآن؟. - ثلاثة آلاف. - اتفرج يا سيدي.. وأنا لم أبع من كتابي "الحقيقة الغائبة" غير ألفي نسخة! كم يدفع ناشرك في مقابل إعلان صغير عن كتاب لك في "الاهرام" أو "الاخبار"؟ - 600 جنيه على أقل تقدير. - والمستشار العشماوي تتهافت الصحف والمجلات على نشر الاحاديث معه والمقالات له عن قرار مصادرة كتبه، من دون ان يدفع شيئاً، بل ربما دفعت هي له عن هذه الاحاديث والمقالات. كان جمهور السينما عندنا وقت صباي يهتف بالبطل حين يراه يقبّل البطلة: "أيوه يا عم! تبوس وتاخد فلوس!" كذلك العشماوي: تُنشر الإعلانات الضخمة عن كتبه ويتقاضى عنها مكافأة!... اتصل به هو نفسه لتدرك مدى سعادته بهذه الهبة التي نزلت عليه من السماء. وكان الرجل في جميع احاديثه مع الصحف من الدهاء والمكر بحيث تظاهر بالغضب والاستياء وكأنما أضير من جرائه ضرراً بالغاً.. بل وتعهد برفع قضية على مجمع البحوث الاسلامية في الازهر! - أجادٌّ أنت؟ تقول إنه سعيد بما حدث؟ - كلّمه أنت.. أليس صديقك؟ دار "سيناء" بعد أن نفدت نسخ كتبه تستعين بثلاث مطابع لإعادة طبع الكتب، والمطابع تعمل ليل نهار كي توفرها في السوق في ظرف اسبوع واحد لمواجهة الطلب المتزايد. - هذا خبر سار حقاً. - اسمح لي أن اسألك: سار لمن؟ - للعشماوي بطبيعة الحال. - وماذا عن كتبي وكتبك؟ لماذا لم يأمر مجمع البحوث بمصادرتها على رغم انها تحوي ما هو اخطر الف مرة مما ورد في كتب العشماوي؟ "دليل المسلم الحزين" أو "الاسلام في عالم متغير"، أو "قبل السقوط"، أو "نكون أو لا نكون". هل هذه أقل خطراً من كتب العشماوي، ام هي في رأي الازهر لا غبار عليها من الناحية الدينية ككتب الشيخ الغزالي أو الشيخ القرضاوي؟ - الحقيقة انني... - لا يا أستاذي الفاضل.. ليس الأمر كما تظن، بل أكاد أجزم الآن بأن العشماوي لا بد دفع مبلغاً ضخماً لجهة ما كي توصي مجمع البحوث بمصادرة كتبه. من المحال ان نجد تفسيراً آخر. العشماوي يعلم أن بعض المؤلفين الأوروبيين والاميركيين يلجأون الى رشوة نقاد ليهاجموا كتبهم على نحو يثير شوق القراء لقراءته، ويعلم أنه لولا مصادرة السلطات في فرنسا رواية فلوبير "مدام بوفاري" ورواية زولا "الارض" لما حظيا بما حظيا به من الشهرة والثروة. - ألا يمكن أن يكون اعضاء المجمع أصدروا قرارات مصادرة تلك الكتب مشكورين غير مأجورين، من تلقاء أنفسهم؟ - لا يا استاذنا الكبير! وإلا فلماذا لم يصادروا كتب فرج فودة وحسين أمين؟ جتنا نيلة في حظنا الهباب! الحقيقة انني بدأت اغضب من العشماوي.. كان من واجبه - ونحن الثلاثة نجاهد في سبيل قضية واحدة ومن خندق واحد - أن يستشيرنا قبل إقدامه على الاتصال بمجمع البحوث، أو أن يلفت على الأقل نظر المجمع الى كتبنا نحن ايضاً باعتبارها جديرة مثل كتبه بالمصادرة... أم أن الأمر لا يعدو أن يكون "كلّ واحد ياللا نفسي وبسّ؟!". - لا يا دكتور فرج.. الأرجح هو إما أن اعضاء المجمع لم يقرأوا كتبنا نحن وقرأوا كتب العشماوي فأمروا بمصادرتها، أو أنهم قرأوا كتبنا ووجدوها سليمة. - سليمة؟! سيدي الجليل، ما كتبه علي عبدالرازق في "الاسلام وأصول الحكم" أو طه حسين في "الشعر الجاهلي"، لا يمكن أن يقارن خطرُه بخطر فقرة واحدة من كتبي أو كتبك.. كيف يمكن للمجمع أن يجرؤ ويعتبرها سليمة؟ أما عن احتمال أن يكون اعضاء المجمع غافلين عنا وجاهلين بكتبنا، فما علينا إذاً إلا أن ننبههم إليها. - كيف؟ - بالكتابة إليهم.. بتحريض اصدقاء لنا على تقديم الشكاوى من افكارنا.. أو بأن نطلب نحن مقابلة شيخ الازهر أو رئيس المجمع نفسه لتوضيح الامور ووضعها في نصابها، وتنبيهه الى أن في كتبنا خطراً على المجتمع الاسلامي لا يمكن السكوت عليه.. سليمة لا خطر منها؟! يا دي الفضيحة؟! هذه إهانة.. إهانة يعاقب عليها القانون. كيف يمكن أن أُري وجهي للناس ومجمع البحوث الاسلامية يعتبر كتبي سليمة لا خطر منها؟ ما جدواها إذاً؟ وما جدوى تعبي في كتابتها؟ جتنا نيلة في حظنا الهباب!". استشاط العشماوي غضباً - على ما سمعت - من مقالي هذا.. وحين قابلتُ فرج فودة يوم 2 أيار 1992 في الملتقى الفكري الثالث للمنظمة المصرية لحقوق الانسان، رأيت في وجهه، وللمرة الأولى منذ تعرفي به، دلائل استياء لا أحسب أنه كان حقيقياً بقدر ما أنسبه إلى تأثير حديث للعشماوي معه. غير أنني سرعان ما أفلحت خلال دقائق في تبديد هذا الاستياء الذي أعلم أنه لا يتفق مع طيبة قلبه وتقبله السمح للدُّعابة.. وقد كان هذا هو آخر لقاء لي معه، وإن كان اتصل بي هاتفياً - للمرة الأخيرة ايضاً - يوم الاثنين أول حزيران يونيو يسألني عن رأيي في مقاله عن فهمي هويدي في مجلة "اكتوبر". وفي ساعة مبكرة من صباح الثلثاء 9 حزيران 1992 كنت وعائلتي في الطريق بالسيارة الى المطار للسفر إلى الغردقة، وحين أوقفت السيارة بضع لحظات لشراء جريدة "الاهرام"، إذ بالخبر المفجع يكاد يملأ الصفحة الأولى بأكملها: "اغتيال المفكر الكبير فرج فودة مساء أمس، وفرار الجناة بعد ارتكاب الجريمة". * كاتب مصري.