يبدو أن الاضطراب الذي اتسم به مقال ياسر الزعاترة "الاخوان المسملون ليسوا طرفاً في مواجهة الابداع في مصر" "الحياة" 17 آيار/ مايو الجاري يعود الى بعض المخاوف والهواجس السياسية التي ينبئ بها الواقع الراهن والتي أراد بسببها ان يدفع عن الحركة الاسلامية شبهة المواجهة مع وزارة الثقافة المصرية ومن يدور في فلكها من أهل الاستنارة. ومن أبرز مظاهر هذا الاضطراب استخدامه تعبير الاخوان المسلمين والحركة الاسلامية كمرادفين، الامر الذي يمثل تجنياً كبيراً على الواقع، على رغم إقرار كل اجنحة الحركة بالدور الريادي للاخوان المسلمين. لكن الأخطر والأهم من ذلك أن الكاتب ينكر في مقالته اشتغال الحركة بأمر المواجهة مع وزارة الثقافة في قضايا النزاع المتعلقة بالابداع وحرية الفكر، ويذهب الى ان الذين قاموا بذلك هم من نشأوا على اطراف الحركة ضارباً المثل على ذلك بالشيخ يوسف البدري، وعلى رغم كونه يدافع بعد ذلك عمن يلجأون الى القضاء في مواجهة "حرية الفكر" الا ان ذلك لا يبرئ موقف الكاتب من كونه يدور حول المظاهر الشكلية للقضية وليس حول المواقف الفعلية لها. فليس من المهم التساؤل عمن يثير القضية ولكن المهم هو من يناصرها ويمنحها الصبغة الشرعية والدعم الجماهيري. فإذا كان "الاسلاميون" تعبيراً يضم كل من يرون ان المرجعية الاسلامية هي المرجعية الحاكمة لهم، فإنه يدخل في إطار الحركة الاسلامية كل الاسلاميين النشطين الذين ينطلقون من هذه المرجعية الى العمل على اقامة المشروع الحضاري للامة ومن ثم يتسع مفهوم الحركة ليدخل في إطاره، فضلاً عن اجنحة الحركة المعتادة: الاخوان - الجهاد - الجماعة الاسلامية - السلفيون الغالب الاعم من رجال الازهر الشريف والاسلاميين المستقلين من الكتاب والمثقفين وفئات عدة من رجال الحكم في الدولة ذاتها. ولو استطلعنا مواقف هؤلاء أو معظمهم على أقل تقدير لوجدنا أن لهم مواقف متقاربة من كل القضايا المثارة في مواجهة وزارة الثقافة وسادة التنوير. فعلى سبيل المثال فإن الحكم على الدكتور فرج فودة بالارتداد انطلق من ساحات الازهر أولاً، وجهر به الكثير من علمائه الحكوميين وغير الحكوميين قبل ان يجهر قادة الجماعات الاسلامية بهذا الارتداد ويتخذوا المواقف المتطرفة او غير المتطرفة في مواجهته. والامر نفسه تم بالنسبة الى الدكتور نصر حامد ابو زيد، فإذا كان اتهامه بالردة انطلق من جامعة القاهرة اولاً، فإن ذلك الاتهام وجد المساندة والدعم من علماء الازهر الشريف ومن كل اجنحة الحركة الاسلامية، وتأكد تماماً بحكم القضاء المصري ذاته. ولم تقف الحركة الاسلامية صامتة او مكتوفة الايدي امام اصدارات وزارة الثقافة منذ ان وقف على قمتها السيد فاروق حسني وأراد قيادتها في مواجهة الفكر الغيبي الظلامي اللاعقلاني، كما صرح بذلك في أول حديث له. وتحت شعلة "المواجهة والتنوير" التي رفعها الوزير اصدرت الوزارة سلسلة كتبها الشهيرة التي اثارت الفتنة بين الناس حينذاك بتعمدها نشر آلاف النسخ من الكتب التي سبقت إدانتها من الازهر ادانة تاريخية، وذاع بين الناس الذين يتم دعم كتب الوزارة من اقواتهم خروج هذه الكتب عن قواعد الدين فكانت المواجهة هي مواجهة الاسلاميين، بل امتدت الى مواجهة علماء الازهر إن لم يكن الاسلام ذاته كما عرفه الناس على امتداد اربعة عشر قرناً، وكان التنوير تنويراً علمانياً سافراً لا لبس فيه. أصدرت الحركة الكثير من الإصدارات في مواجهة تلك السلسلة ونددت بها في كل وسائل التعبير التي اتيحت لها حينذاك، وكان لصاحب هذه السطور شرف اصدار كتاب ضخم في مواجهة هذه السلسلة جاء تحت عنوان "مواجهة المواجهة"، لكن اهم ما في الموضوع انه جاء في مقدمة الكتاب الذي نشر العام 1994، هذه العبارة "لقد كان المحللون يرجعون باللوم على بعض وزراء الداخلية في اشعال الصراع وايقاد نيران الغضب، فهل من الممكن مقارنة كل ما فعله هؤلاء بالدور الخطير الذي يقوم به وزير الثقافة وزمرة العلمانيين الذين حوله في اشعال نار الفتنة؟". ومنذ ذلك العهد وإصدارات الوزارة تتوالى في هذا الاتجاه حتى سلسلة كتب "مهرجان القراءة للجميع" اندس فيها الكثير من الكتب التي تنحو النحو نفسه والتي واجهها الإسلاميون أيضاً. وعندما أطلق الدكتور محمد عباس عاصفته حول ما جاء في رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" سارع الإسلاميون الى دراسة الرواية وتوالت بياناتهم في إدانتها وإظهار مدى خروجها على قواعد الدين. و"الاخوان" الذين يحاول ياسر الزعاترة أن ينأى بهم عن المواجهة القائمة الآن، كان لهم شرف اصدار البيان الاول حول هذه المسألة، وفي العدد نفسه الذي نشرت فيه "الحياة" مقال الزعاترة نشرت ايضاً بيان "الجماعة الاسلامية" في هذا الاتجاه، وفي موازاة ذلك كان بيان العلماء الستين من علماء الازهر في جريدة "الشعب" عدد 12 ايار/ مايو 2000 والموقف البطولي الجهادي للدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الازهر ولجنة الشؤون الدينية في مجلس الشعب البرلمان المصري واخيراً بيان مجمع البحوث الاسلامية الذي يفترض كما تعلمنا الدولة دائماً ان رأيه حاسم في كل الامور المتعلقة بالدين. أوضحت بيانات الحركة كلها وكذلك ما جاء في مقالات مفجر القضية الدكتور عباس أن المشكلة لا تتعلق بالرواية المذكورة في الاساس، وانما في النهج الذي تنتهجه الوزارة في اصداراتها منذ تولي فاروق حسني لها، والذي جاءت الرواية المذكورة كمثل فج له. فما هو الجرم الذي ترتكبه الحركة إذا رفعت رايات الاحتجاج والدفاع عن دين الله في وجه من رفعوا رايات فرج فودة ونصر حامد ابو زيد وكل من نهجوا نهجهما كما تعلن ذلك الصحف المتحدثة باسم الوزارة او المؤيدة لها، ولم تخرج الحركة في كل مواقفها عن موقف الازهر نفسه والمؤسسات الدينية الرسمية للدولة نفسها. والذين يريدون ان يسوغوا لأنفسهم حرية الطعن في عقائد الناس كيف يريدون حرمانهم من حق الدفاع عن عقائدهم؟ ان الدفاع عن الاستنارة والعقلانية وحرية الفكر وكل تلك الكليشيهات المعادة المحفوظة سلفاً يتم توظيفه كمصادرات مبدئية تفرض منطقاً سلطوياً لنخبة محددة وتحجر على الآخرين مجرد مناقشته، وباسم حرية التفكير يتم احتكارها لحرية التفكير. والناظر المتعمق في موقف الحركة الاسلامية في إلتجائها الى الأزهر او القضاء في هذه القضايا المثارة يكشف عن توجهها لنوع من المصالحة مع الحكومات بدفعها الى الاحتكام الى المرجعية الاسلامية ومن ثم تقارب المسافات بينهما بعيداً من الاستقطاب العلماني. إذن فلا جرم ترتكبه الحركة الاسلامية في مواجهتها لهذا التطرف العلماني دفاعاً عن عقائدها حتى يتم التنصل منه، وكان الاولى بالزعاترة ومن يحذون حذوه الفصل بين المواقف الاصيلة للحركة الاسلامية وبعض المواقف السفيهة او الانتهازية لبعض الذين يقفون على هامشها والذين لا يجتهدون إلا في استثمار قضايا ومواقف الحركة لمصالحهم الشخصية، الامر الذي يشوّه مواقف الحركة ويصيبها بالكثير من الارتباك، بل التنصل من وعدم الاسف على سقوطهم حتى يعلم الجميع أن سقوط السفهاء والانتهازيين ليس له أي أثر في المواقف الأصيلة للحركة. * كاتب مصري