صدر في القاهرة عام 1947 "كتاب الفاشوش في حكم قراقوش" عن مخطوط من العصر المملوكي يصف غرائب ذلك الحاكم وقلق الناس من اوامره الاعتباطية التي تنتهي غالباً بمظالم. وربما تطبع في بغداد مجموعة كتب عن الاحكام في العهد الصدامي، تؤخذ مادتها من اعترافات اهالي الضحايا الكثيرين ومن مدونات المحظوظين الذين "قدّر" لهم ان يغادروا السجون. المهندس العراقي المعروف عربياً وعالمياً رفعة الجادرجي قاده حظه العاثر الى القراقوشية العراقية، فحكم ظلماً بالسجن المؤبد، ومبعث الحكم ان بريطانيا اعتقلت عنصرين في الاستخبارات العراقية قتلا في قلب لندن السياسي العراقي عبدالرزاق النايف، ولما فشلت المساعي للافراج عنهما صدر الامر باعتقال اي بريطاني في بغداد، فقبض في احد الفنادق على مدير بريطاني لشركة مقاولات، وأثناء التحقيق معه قال انه يعرف رفعة الجادرجي، من باب الاستناد الى شخصية عراقية موثوق بها. وهكذا اعتقل الجادرجي وحقق معه وصدر الحكم الجائر بحقه، وبعد خمسة عشر شهراً افرج عنه ب"مكرمة" من الرئىس، فنقل من قاع سجن "ابو غريب" الى قمة قرار الاعمار الضخم في بغداد، حيث كانت تحت يده امكانات مالية ضخمة، لكنه انهى المهمة هذه وغادر بلده باختياره ليعيش في بريطانيا. تجربة رفعة الجادرجي صدرت في كتاب يحمل في عنوانه كما في بنائه طابعاً هندسياً، فالكتاب الذي نشرته اخيراً دار الساقي في بيروتولندن يحمل العنوان "جدار بين ظلمتين"، الظلمة الاولى هي السجن يكتب يومياته فيها السجين رفعة الجادرجي، والظلمة الاخرى خارج السجن تكتب يومياتها فيها زوجة الجادرجي السيدة بلقيس شرارة. والكتاب مبني من فصول مزدوجة تمثل حال الكاتبين في الظلمتين، وتقدم، في ما يتعدى موضوعها المتعدد الدلالات، بياناً عن الرفقة الانسانية بين زوجين عراقيين كنموذج للعائلة العربية الحديثة. وإذا كان القارئ العربي عرف رفعة الجادرجي في كتابه الاول "صورة أب" حيث عرض شخصية والده السياسي الليبرالي العراقي كامل الجادرجي ونشر صوراً ذات قيمة فنية واجتماعية من عصر ابيه، وعرفه القارئ ايضاً في كتابه الثاني "شارع طه وهامر سمث" يقدم المادة الهندسية بطريقة حية وحضارية وجذابة تجلت ايضاً في كتابه الثالث "الاخيضر والقصر البلوري"، فإن كتاب "جدار بين ظلمتين" يعرّفنا بأن رفعة الجادرجي كتب كتابيه الاول والثاني وفصولاً من الثالث في الزنزانة، اي ان الرجل المحكوم بالسجن المؤبد استطاع ان يؤلف كتباً عن البشر والشمس والظلال والعمران، كما قرأ مئة وستين كتاباً ومستنسخات اختارتها زوجته من مئة وعشرين كتاباً اخرى. المهندس في السجن يبرز بين شركائه في الزنزانة نموذجاً للانسان المنظم، ويبدو سلوكه تنويرياً وتعليمياً من دون افتعال، ومن ذلك تنظيمه المأدبة، والسعي، على رغم ندرة الامكانات، الى تأمين حد ادنى من النظافة، ومن الجمالية أيضاً عبر إلصاق صورة غابة على جدار، فتبدو الزنزانة كأنها تطل على الغابة. ويعقد الكاتب في زنزانته صداقة حميمة مع المثقف المترجم عطا عبدالوهاب نقل "صورة أب" من الانكليزية الى العربية والمثقف الآخر عبدالعزيز العقيلي الذي مات مسموماً بسبب امتناعه عن العودة الى الجيش للمشاركة في الحرب على ايران. ولا يبدو المهندس السجين مجرد كيان انساني يتسم بوعي بارد. انه يتأمل ايضاً في معنى الوجود داخل جدران اربعة وفي المصادفة اللعينة للحرية والأسر والموت في ذلك العهد العراقي، ويركز على النفوس الصغيرة التي يملأها حس الانتقام من دون داع. "هناك فارق جوهري في الموقف من الوجود والوعي به لدى أغلب الناس الذين يتمتعون بوجود خارج جدران الظلمة، وبين موقف النزلاء من الوجود وهم خلف اسلاك الجدران. فالأول، مهما كانت ظروف معيشه، يكون مدعماً بمخيلته لصورة معيش في عالم فوقي بعد الوفاة، عالم سرمدي لا يتحدد بزمن: آمن ومريح وخال من هموم الدنيا، ومفعم بالملذات. انها صور منظمة بموجب طقوم معيشية لاهوتية حسبما تشتهي المخيلة، فهي صور لمعيش غني بفانتازيا فياضة. هكذا هي صورة المستقبل البعيد لتلك المخيلة. اما صورة المستقبل في مخيلة أغلب النزلاء، فهي مقتضبة في البعد، مكبلة، هدفها الاول ابواب السجن، ولا يفكر بما هو اعلى منها. فيصلي، وكل ما يتمنى ان يصل اليه، هو عالم واقعي كان قائماً في الماضي خارج جدران الظلمة .... هكذا نشتهي الماضي ونتوق اليه، بينما الآخر مرتعب من فقدان الحاضر، يؤسس صورة مستقبلية يتهيأ لها في حاضره فيشيد لها مزارات طقوسية ومعابد وعبادات متنوعة. فتنبني الاحلام خارج ظلمة السجن من صور لمستقبل بعيد في عالم آخر، بينما هنا في عالمنا داخل ظلمة السجن تنحصر صور الاحلام في التوق الى واقعيات الماضي. فمخيلة الاول تتوق الى عالم الخلود بعد زوال الوجود، بينما ينحصر التوق عندنا في معجزة القفزة الى عالم الدنيا. لست وحدي في هذا المزدحم، هذا الحشر، الفارغ من حرية الوجود، وانما الجماعة بأجمعها هي في دوامة دائمة لا هم لها سوى مسألة واحدة، وهي: "متى"؟ وهي مسألة تدور في ذهن كل فرد منا، وهو الهم المعلن والهم الخفي، لا في وقت محدد، وانما في جميع اوقاتنا". مصادفة سجن الجادرجي ومصادفة إطلاقه، ولكن ليس مصادفة ابداً "جدار بين ظلمتين"، كتاب الوعي بمرحلة تراجيدية عراقية لحق بالكاتب بعض من مآسيها التي توزعت بدرجات متفاوتة على مئات الآلاف.