افتتاحيات جريدة "الاهالي" العراقية التي كتبها كامل الجادرجي في الفترة بين عامي 1944 و1954 تصدر قريباً في كتاب عن دار الجمل - ألمانيا في عنوان: "في حق ممارسة السياسة والديموقراطية"، أعدها للنشر مركز الجادرجي للأبحاث وقدّم لها المهندس المعماري المعروف رفعة الجادرجي بدراسة عنوانها: "تنشئة النظام الديموقراطي وإحباطه في العراق". وفي هذه المرحلة القلقة التي يجتازها العراقيون يطرح الكتاب في الوقت المناسب، وحين تندر المثالات، صورة سياسي عراقي ديموقراطي كان يشكل مع نوري السعيد طرفين متعارضين في رؤية العمل السياسي وتطوير الدولة العراقية الوليدة وتحديثها. تنشر "الحياة" مقاطع بالاتفاق مع الناشر، وهنا الحلقة الخامسة الاخيرة. كانت حكومة صالح جبر تتفاوض مع بريطانيا لعقد معاهدة جديدة بين الطرفين تحل محل معاهدة سنة 1930. وعارضت الأحزاب العراقية ومنها "الحزب الوطني الديموقراطي" المشروع الجديد بشدة. وعلى رغم ذلك وقعت المعاهدة الجديدة في ميناء بورتسموث في إنكلترا في 15/1/1948، لذلك سميت "معاهدة بورتسموث"، ونشرت نصوصها في بغداد في اليوم التالي لتوقيعها، فكان ذلك بمثابة الشرارة التي أشعلت نار الاحتجاجات، أولاً بين طلاب الكليات ثم بين الجماهير. وكانت الأحزاب، المجازة منها والسرية، تقف وراء تحركات تلك الاحتجاجات. وحدث ما حدث مما هو معروف ومدون في كتب كثيرة، فاضطر الوصي عبدالإله أن يعد الشعب في بيان صدر مساء 21/1/1948 بعدم إبرام أي معاهدة لا تضمن حقوق البلاد وأمانيها الوطنية. واثر ذلك هدأت الأوضاع كثيراً. لكن صالح جبر الذي عاد يوم 26/1/1948 أصر في بيان أذاعه من دار الإذاعة على مشروع المعاهدة على أن يبت في أمرها مجلس الأمة. فاندلعت الاحتجاجات مرة أخرى ليلاً وعلى نحوٍ فوري وعمت العاصمة بغداد وانتشرت إلى مدن أخرى. عندئذ لم تجد السلطات مناصاً من الطلب إلى رئيس الوزراء أن يستقيل، وأذاع ذلك الوصي نفسه مساء يوم 27/1/1948، فساد الهدوء بعد توتر لم يسبق له مثيل تخلله إطلاق النار على المتظاهرين وسقوط عدد غير قليل بين قتيل وجريح. وفي 29/1/1948 ألف محمد الصدر وزارة جديدة دخلها ممثل عن حزب الاستقلال وآخر عن حزب الأحرار، وأعلنت رفض المعاهدة، ثم حلت مجلس النواب. في 8 شباط فبراير 1948 عادت "صوت الأهالي" إلى الصدور، وظهر في العدد الأول بعد الاحتجاب مقال افتتاحي بقلم الجادرجي في عنوان "حسبوا الوداعة خنوعاً"، تطرق إلى الأوضاع السياسية في العراق منذ تأسيسه حتى قيام الوثبة، مع تحليل لمواقف الفئة المستأثرة بالحكم تجاه وداعة الشعب وصبره. وأردف الجادرجي مقاله بمقالين آخرين في 10 و11 شباط، كان الأول في عنوان "واجبات الوزارة الحاضرة"، طالب فيه بضرورة وضع خطة لضمان ممارسة الشعب حقوقه السياسية بلا عراقيل، والثاني في عنوان "واجبات الشعب" التي قال إنها أكثر خطورة من واجبات الحكومة، ثم ناشد أبناء الشعب التمسك بمطالبهم المشروعة ومواصلة نشاطهم من أجل تحقيقها والاستمرار في مراقبة أعمال السلطة التنفيذية. وأخذت "صوت الأهالي" تنشر تطورات ما جرى في الوثبة على شكل حلقات متتابعة بلغت 21 حلقة في عنوان "سجل الحركة الوطنية"، مع تدوين لدور "الحزب الوطني الديموقراطي" في تلك الحركة، اضافة إلى مقالات أخرى كتبها محمد حديد وحسين جميل وغيرهما عن شؤون الساعة. الدفاع عن قضية فلسطين حينما عاودت "صوت الأهالي" الصدور بدأت تنشر المقالات المتتالية دفاعاً عن قضية فلسطين بلغت نحو 14 مقالة كتبت جميعها قبل نشوب الحرب العربية ضد التنظيم الصهيوني في فلسطين في 14/5/1948. وعالجت تلك المقالات المسألة الفلسطينية من جوانبها المختلفة وطالبت بإنقاذ فلسطين على يد الجيوش العربية. وشرعت الجريدة في اتباع أسلوب جديد لاجتذاب أنظار القراء قبل التاريخ المذكور وذلك بكتابة العناوين بحروف كبيرة في صدر الصفحة الأولى بعرضها كله، لحشد الرأي العام حول قضية فلسطين. وبدأ تطبيق ذلك الأسلوب في 27/4/1948 فظهرت ستة عناوين كان آخرها في 14/5/1948 أي يوم بدء الحرب. وفي اليوم التالي لبدء القتال، في 15/5/1948 أعلنت الأحكام العرفية في أنحاء العراق بحجة حماية مؤخر الجيش العراقي المشارك في الحرب. بعدما أجريت الانتخابات استقال محمد الصدر في 16 حزيران يونيو 1948، فأسندت رئاسة الوزارة إلى مزاحم الباجه جي فألفها في 26 منه. في تلك الأثناء استمرت "صوت الأهالي" في كتابة المقالات التي تعالج المسألة الفلسطينية، وبلغت خلال شهر تموز يوليو وحده نحو 18 مقالة، من ضمنها مقال للجادرجي في عنوان "فشل ديبلوماسية الجامعة العربية"، طالب فيه بإعادة النظر في تشكيلاتها كلها لضمان قيامها بواجباتها الموكلة إليها في شكل تطمئن إليه الشعوب العربية. ومن ضمن تلك المقالات أيضاً مقال في عنوان "شيوعيو العراق وقضية فلسطين" وفيه انتقاد شديد لموقفهم في تأييد التقسيم ثم في مناداتهم بوقف القتال في فلسطين وسحب الجيوش العربية منها. وظهر ذلك المقال من دون توقيع، وكان معروفاً أن قاسم حسن هو كاتبه. وسيكتب هذا العضو الجديد في اللجنة الإدارية مقالات كثيرة في الجريدة عن مواضيع مختلفة بتوقيعه الصريح. استغلت السلطات الحكومية إعلان الأحكام العرفية فشددت مضايقاتها للصحف والأحزاب معاً، ولما فرضت الرقابة على الصحف كانت "صوت الأهالي" مستهدفة في شكل واضح، وكان رد الجريدة على ذلك اتباع أسلوب رمزي بترك فراغات واسعة في الجريدة مكان ما كان يحذفه الرقيب من مقالات افتتاحية أو أخبار، واستمر ذلك فترة غير قصيرة. وأعد في إدارة الجريدة سجل خاص وضعت فيه مسودات المقالات التي حذفها الرقيب، ثم قامت الجريدة بنشر تلك المقالات بالتسلسل في أعدادها المتعاقبة عندما رفعت الرقابة عن الصحف عام 1950، كما ألغيت الأحكام العرفية في عهد وزارة علي جودت الأيوبي. حملت المضايقات الشديدة التي تعرض لها "الحزب الوطني الديموقراطي" الحزب على تجميد نشاطه مطلع كانون الأول ديسمبر 1948. لذلك حينما صدرت "صوت الأهالي" في الثالث من الشهر المذكور لم تظهر في صدرها عبارة "لسان الحزب الوطني الديموقراطي". واستمرت الجريدة في نهجها المعارض بنشر خطب النواب في المجلس، التي كان يلقيها أعضاء يمثلون سياسة الحزب وهم محمد حديد وحسين جميل وخدوري خدوري. وكانت تلك الخطب توضع أحياناً عند نشرها في الجريدة في موضع الافتتاحية التي يحذفها الرقيب، كما كانت تنشر خطب وكلمات بعض نواب المعارضة المستقلين وكلمات بعض أعضاء مجلس الأعيان، مثل محمد رضا الشبيبي ونجيب الصائغ وعبدالرزاق الشيخلي ومحمد مهدي كبة وغيرهم، اذ أن خطب النواب والأعيان لم تكن خاضعة للرقابة عند النشر، وكان هذا يتم عوضاً عن ظهور مساحة بيضاء في صدر الجريدة. في تلك الأثناء فتحت الجريدة حقلاً جديداً على دأبها في التطوير المستمر وكان الحقل في عنوان "من شرفة الصحافة" لنشر ما كان يجرى في مجلس النواب من مناقشات. عودة السعيد ومحاكمة جديدة استقال مزاحم الباجه جي من رئاسة الوزارة في 6/1/1949 فألف نوري السعيد في اليوم نفسه وزارته العاشرة. وبعد أيام كتب الجادرجي في "صوت الأهالي" افتتاحية منعت الرقابة نشرها، فظهر عنوان المقال فقط في عدد 9/1/1949 على الوجه الآتي: "الحلقة المفرغة" بقلم كامل الجادرجي، وتحت هذه العبارة أعمدة كاملة بيض. ونشر المقال بعد عام كامل من التاريخ المذكور في "صوت الأهالي" عند إلغاء الرقابة على الصحف وذلك في 10/1/1950. تحدث ذلك المقال في البداية عن استقالة الباجه جي. فقال الكاتب إن مصير ذلك الرجل كان محزناً حقاً، ثم انتقل إلى الحديث عن نوري السعيد فقال عنه إنه "تحمل وسوف يتحمل إلى مدة طويلة على ما يظهر تبعات هذا العهد في تاريخ العراق"، وأضاف أنه يأتي إلى الحكم لغرض القيام بعملٍ ما فينجزه "بالقوة تارةً وبالحكمة والدهاء طوراً...". في أثناء محاكمة الجادرجي في حزيران 1949 قررت الإدارة العرفية السائدة في البلاد تعطيل "صوت الأهالي" إلى أجل غير مسمى، ثم قررت إلغاء امتياز الجريدة وامتيازات عدة لصحف أخرى. عندئذٍ تقدم الجادرجي بطلب امتياز جديد باسم "صدى الأهالي" على أن يكون مديرها المسؤول عبدالمجيد الونداوي. وفي 18/9/1949، صدر العدد الأول من هذه الجريدة، وهي الثالثة التي تحمل اسم "الأهالي" الأصلي، وكانت مثل سابقتها تماماً في الشكل والمضمون، كما صار مكتب إدارتها مكاناً لتجمع قادة الحزب الوطني الديموقراطي وغيرهم نظراً لتجميد الحزب لنشاطه في ذلك الوقت. وكان المقال الافتتاحي للعدد الأول في عنوان: "مناهضة الصحافة الحرة ونتائجها الخطيرة في السياسة العامة" بقلم الجادرجي، هاجم فيه بشدة قانون المطبوعات وأساليب الحكومة في تطبيقه ودان تعطيل الصحف وإلغاء امتيازاتها وسياسة الوزارة بكم أفواه المعارضين. وكتب الجادرجي في العدد الثاني افتتاحية اخرى في عنوان "في الموقف السياسي الراهن"، جاء على نسق سابقه في شدته. وبعد شهر صدرت في الجريدة دراسة مفصلة وضعها الجادرجي ونشرها في ثلاث مقالات متسلسلة في 24 و25 و26 تشرين الأول أكتوبر 1949 في عنوان "الإقطاع وأثره في إفساد جهاز الدولة"، تناولت تاريخ الإقطاع ووضع العشائر في العهد العثماني، وتطرقت إلى توطيد الإدارة البريطانية بعد زوال ذلك الحكم الإقطاعي، ثم كيف تغلغل نفوذه كقوى سياسية وكمرجعية بدوية ريفية متخلفة، فسرى بعد ذلك في جهاز الدولة، ومن ضمنه تشريع القوانين التي تحمي الإقطاع. وكان من المبادرات المهمة التي قامت بها "صدى الأهالي" أيضاً إصدار عدد خاص في 9/12/1949 كُرّس لموضوع حقوق الإنسان وكتب فيه الجادرجي مقالاً في عنوان "مبادئ حقوق الإنسان - منشأها وغايتها"، وذلك احتفاء بمرور عام على صدور وثيقة حقوق الإنسان. في التاسع من كانون الثاني يناير 1950 قدم نوري السعيد استقالة وزارته العاشرة، وفي اليوم التالي شكل علي جودت الأيوبي وزارته الثانية فشارك فيها حسين جميل وزيراً للعدلية. وأثار ذلك الاشتراك مساجلات في أوساط الحزب الوطني الديموقراطي المجمد، لكنها لم تظهر في "صدى الأهالي". وصرح جميل بأنه يشارك في الوزارة بصفته الشخصية لأن الحزب جمّد نشاطه، وبأنه وافق على تلك المشاركة بناء على شروط منها إلغاء الأحكام العرفية. وألغيت تلك الأحكام فعلاً في عهد هذه الوزارة التي لم تدم سوى نحو شهر ونصف شهر، اذ استقالت في أول شباط 1950، لوجود خلافات سياسية بينها وبين البلاط. وأعقب ذلك تأليف السويدي وزارته الثالثة في 5/2/1950، فكتب الجادرجي افتتاحية في عنوان "مد وجزر ومد" حول الحلقات المتكررة في دولاب الحكم لإيجاد شيء من التخفيف عن كاهل الشعب من أحكام السيطرة وقبضة الفئة الحاكمة، من جهة، وبين إبداء بعض التسامح الاضطراري مع المعارضة لتخفيف حدة الاستياء العام وللتنفيس عما يعانيه الشعب من كبت للحريات. بيان الحياد وحزب الجبهة في بداية عام 1951 تبنت "الأهالي" والجادرجي فكرة الحياد ورفض الأحلاف والتكتلات العسكرية مع أي جبهة دولية. وكتبت العديد من المقالات والبحوث في هذا المضمار، وعملت على توسيع قاعدة المعارضة عبر الاتصال بالعديد من السياسيين البارزين الذين يمثلون المعارضة بصورة عامة، ومن بينهم نواب المعارضة الذين قدموا استقالة جماعية من المجلس النيابي عام 1950. واثر ذلك صدر في 19/3/1951 "بيان الحياد" الذي شارك فيه ووقع عليه بعض رؤساء الوزارات ووزراء سابقون وأعضاء المجلس النيابي وبعض الساسة المعروفين. وتم التوقيع في منزل الجادرجي. وكان البيان الأول من نوعه في كل البلدان العربية الذي دعا إلى الحياد ورفض الأحلاف العسكرية بجميع أشكالها. وكانت هذه الفكرة في بدايتها اختمرت في أوساط "الحزب الوطني الديموقراطي" وتبنتها "الأهالي". ولم يؤيد الشيوعيون وبعض اليسار الحياد في بداية الأمر، كما لم يكن قادة "حزب الاستقلال" من ضمن الموقعين على الميثاق. وتلقى "الحزب الوطني الديموقراطي" و"الأهالي" برقيات التأييد من داخل العراق وخارجه، ومنها اللجنة العليا للحزب الوطني في مصر بتوقيع رئيسه فتحي رضوان. وجدير بالذكر ان فكرة الحياد اتسعت في ما بعد وتبنتها ثورة يوليو في مصر باسم "الحياد الايجابي". وكان توقيع هذه الوثيقة تمهيداً لقيام "حزب الجبهة الشعبية المتحدة". فالموقعون عليه، ومن بينهم بعض النواب المعارضين الذين استقالوا من المجلس والذين رغبوا في الاستمرار في موقف معارض، كما انضم إليهم سياسيون آخرون تقدموا لتأليف "حزب الجبهة الشعبية المتحدة" برئاسة طه الهاشمي وهو حزب معارض معتدل. ومهدت "صوت الأهالي" لتكوين هذا الحزب و"الحزب الوطني الديموقراطي" بمقالات عدة منها في 11 و15 و27 نيسان ابريل، وفي 3 حزيران 1951. "الأهالي" والملك فاروق وأحداث مصر في أواخر عهد وزارة نوري السعيد قامت الحكومة في 14 أيار مايو 1952 بتعطيل جريدة "صدى الأهالي" لنشرها مقالاً انتقدت فيه الملك المصري فاروق في 9/5/1952 تحت عنوان: "خطاب الهلالي الأخير، نسب الملك فاروق هل له علاقة بالخلافة الإسلامية؟" طعن في اعلان نقيب أشراف الديار المصرية نسباً جديداً للملك فاروق يصله بالرسول ص، واعتبر ذلك تجديداً لدعوة فشلت سابقاً ترمي إلى جعل ملك مصر خليفة المسلمين. واثر نشر المقال اتصل البلاط المصري بالبلاط العراقي وطلب غلق الجريدة وإلا قطعت مصر علاقاتها الدبلوماسية خلال 48 ساعة. ثم عاودت جريدة "الأهالي" الصدور في 1 حزيران 1952، ثم تولى العسكر الحكم في مصر وخلعوا الملك فاروق. واثر هذا الحدث كتبت "الأهالي" عشرات المقالات في هذا الموضوع، وتميز موقفها في الأيام الأولى للانقلاب بالحذر الشديد والترصد اليقظ للأحداث، وفي 25 تموز 1952 نشرت مقالاً افتتاحياً أشار إلى ما حدث في مصر، وأكد صعوبة التكهن بالنتائج التي سيسفر عنها هذا الانقلاب في المستقبل بالنسبة إلى تطور الوضع السياسي في مصر وقضيتها الوطنية، لأن الدوافع الحقيقية الخفية لانقلاب لم تعرف بعد. كما نشرت الجريدة افتتاحية في 27 تموز 1952 في عنوان "تنازل الملك فاروق - طبيعة الانقلابات العسكرية"، أشارت فيه إلى مساوئ النظام القديم وأساليبه في قمع المعارضة، وهو الذي دفع إلى تشجيع الاتجاهات الشاذة للتخلص من أغلال الأوضاع الفاسدة، ومن تلك الأوضاع الشاذة الانقلابات العسكرية. ودعت الجريدة في 1 آب أغسطس القائمين بالانقلاب إلى ضرورة تسليم الأمور إلى الهيئات الشعبية إذا كانوا يستهدفون حقاً إعادة العمل بالدستور على أسس وطيدة بعدما زال عن مصر ذلك الكابوس الذي خيم عليها طيلة الفترة الماضية. وكتبت في 9 أيلول سبتمبر 1952 افتتاحية في عنوان"الانقلاب المصري والتأثير الخطر لبعض اتجاهاته على الرأي العام العربي"، أشارت فيه إلى أن الانقلاب المصري لقي في مرحلته الأولى التأييد والدعم من لدن الرأي العام العربي، كونه أزال نظاماً فاسداً. واعتبرت الدعوة لتأليف حزب واحد في مصر خطراً على النظام الديمقراطي واتجاهاً ديكتاتورياً خطيراً. وكتب الجادرجي افتتاحية في 22 أيلول 1952 في عنوان "الأزمة الفكرية التي أحدثها الانقلاب المصري في الأوساط العراقية"، أعرب فيه عن موقفه بوضوح في معارضته للنظام الجديد باعتباره نظاماً يتخذ اتجاهاً واضحاً نحو الديكتاتورية العسكرية التي تتعارض مع مبدأ سيادة الشعب والنظام الديموقراطي، وكتبت الجريدة في 12 و14 و19 و21 تشرين أول 1952 مقالات عدة تهاجم حكومة الانقلاب وخطرها على الشعوب العربية وضد محكمة الثورة المصرية التي تشكلت في 16 أيلول 1952 واعتبرتها مخالفة لأبسط القوانين الجزائية وأصول المحاكمات. وكانت تنشر أخبار المحاكمات وقراراتها حتى أطلقت عليها تسمية "محكمة الغدر". وقد يفسر هذا الموقف تحفظ الجادرجي ومعارضته آنئذ في شأن حكم العسكر وهي تحفظات تبلورت منذ مشاركته في انقلاب بكر صدقي في عام 1936. ويلاحظ أن جميع المقالات والكتابات كانت تسمي ما حدث في مصر انقلاباً. كما نشرت "الأهالي" في 29/7/1954 تصريح الجادرجي في حديث أدلى به الى وكالة الأنباء الفرنسية ضد اتفاقية الجلاء باعتبارها لا تحقق أهداف الشعب المصري بالجلاء الحقيقي إذ قال: "بالنظر للنصوص التي أعلنت، فإن اتفاقية جمال عبد الناصر - انطوني ايدن، لا تختلف من حيث الأساس عن اتفاقية صدقي - بيفن التي رفضها الشعب المصري رفضاً قاطعاً، وإذا كانت هناك فروق بين الاتفاقيتين، فهي ان هذه الاتفاقية أكثر سخاء من الجانب المصري، وأن الشعب المصري في هذه المرة معقود اللسان ومكبل بالأغلال، فلا يستطيع أن يبدي حراكاً في الوقت الحاضر". ولم يتغير هذا الموقف من الحكومة المصرية إلا بعد عقد حلف بغداد ومعارضة مصر له، وحضور عبدالناصر مؤتمر باندونغ وتبنيه سياسة الحياد، وموقفه الواضح ضد الأحلاف العسكرية ومع حركات الشعوب للتحرر من الاستعمار وكذلك عقده صفقة الأسلحة التشيخية عام 1955، ثم التطورات السياسية الكبيرة في مصر ومنها تأميم قناة السويس. انتفاضة 1952 كانت الفترة بين منتصف 1950 وآخر 1952 شهدت تولي نوري السعيد للحكم مدة طويلة نسبياً أعقبه فيها مصطفى العمري مدة قصيرة لبضعة أشهر. في تلك الفترة أبرمت الحكومة العراقية اتفاقاً جديداً مع شركات النفط أدى إلى زيادة واردات العراق المالية، فأقدمت الدولة على تأسيس مجلس الإعمار لتولي بناء مشاريع اقتصادية كبيرة. وخلال هذه الفترة كانت جرائد المعارضة ومن أهمها "الأهالي"، ومن خلفها رجال المعارضة وأهمهم الجادرجي، يسعون إلى تعبئة الرأي العام العراقي في وجهة مناهضة تماماً للحكم، وذلك بإبراز تجاوزات حكومة السعيد على نصوص الدستور وانتهاكها الحريات الديموقراطية. ولم تشهد تلك الفترة صداماً شعبياً مباشراً مع الحكومة. إلا أن ظروف وقوعه كانت مؤاتية. فمثلاً كان مصدق قد ظهر في إيران وأمم النفط وجرى هناك ما جرى مما هو معروف. وحدثت في سورية انقلابات عسكرية متلاحقة كان لها انعكاساتها في خواطر السكان، وخلع الملك فاروق في مصر بعد تولي العسكر إدارة الدولة المصرية في 23 تموز. كل تلك الأحداث الخارجية كانت تتفاعل داخلياً مع مشاعر الرأي العام في العراق، وكان ما يكتب عنها ويدور حولها من أحاديث يهيئ أذهان الناس لشيء ما قادم. أما الهدوء الظاهري الذي كان يسود العاصمة بغداد فهو هدوء كالذي يسبق العاصفة، فالوضع النفسي المعبّأ لدى الشباب خصوصاً كان جاهزاً لانطلاق عنيف انتظاراً لاندلاع شرارة واحدة تكفي لتوليد اللهيب. واندلعت شرارة انتفاضة 1952 اثر إضراب طلاب كلية الصيدلة في شأن تعديل أجري في نظام الدراسة فيها، ثم تطور ذلك الإضراب المحدود إلى إضراب واسع شمل الكليات الأخرى، وتحول إلى مظاهرات صاخبة في 20 تشرين الثاني نوفمبر 1952، وتطورت كثيراً في اليوم التالي فشارك فيها العمال وغيرهم، وحدثت اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين وأفراد الشرطة أدت إلى وقوع قتلى وجرحى. ... شكّل نوري السعيد وزارته الثانية عشرة في 3 آب أغسطس 1954، فحل مجلس النواب في اليوم ذاته، وأتبع ذلك بحل حزبه "حزب الاتحاد الدستوري"، ثم أصدر بعد 20 يوماً مراسيم متعددة لتشديد الخناق على المعارضة. في تلك الأثناء حل "حزب الأمة" نفسه، وهو الحزب الذي أسسه صالح جبر. وفي 2 أيلول سبتمبر 1954 صدر قرار بسحب إجازة "الحزب الوطني الديمقراطي". وفي التاريخ نفسه صدر قرار آخر بتعطيل جريدة "الأهالي" لمدة سنة ثم ألغي امتيازها. كما صدر قرار آخر ألغى إمتيازات الصحف كلها، وأجاز صدور ثلاث صحف موالية للسلطة، في وقت حُلّت فيه جميع الأحزاب. وبذلك حرمت البلاد من وجود أحزاب علنية وصحف معارضة، وعطل السعيد مقوماً أساسياً في تكوين "دولة دستورية برلمانية" وألغى الممارسة السياسية، التي كانت أصلاً مقيدة وتوقف الحوار السياسي بكل صيغه، وفرض على الفكر السياسي في العراق اللجوء إلى الثورة ضد السلطة القائمة. حددت الحكومة 12/9/1954 موعداً لاجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة وقرر الحزب الوطني الديموقراطي مقاطعتها الانتخابات ودعا الآخرين إلى الحذو حذوه. وعلى اثر تلك الانتخابات انعقد مجلس نيابي جديد معظم أعضائه من أنصار نوري السعيد، الذي فاز ب121 نائباً بالتزكية، من اصل 135 فسمي ذلك المجلس "مجلس التزكية"، وهو الذي صادق على "ميثاق بغداد". قدم الجادرجي ومحمد مهدي كبة وآخرون من الحزب الوطني الديموقراطي وحزب الاستقلال في 7 تشرين الأول اكتوبر 1954 طلباً إلى وزارة الداخلية لتأسيس "حزب المؤتمر الوطني" فرفض طلبهم في 22/10/1954. واقتصر نشاط مجموعة الجريدة والحزب في تلك الفترة على اللقاءات المنزلية، وأصبحت دار الجادرجي مقراً للحركة الوطنية، وانحصر نشاطهم في كتابة المقالات التي كانت تنشر أحياناً في الصحف العربية خارج العراق. كما كان بعض رجال الحزب يسافرون إلى الخارج للمشاركة في الاجتماعات التي كانت تعقدها المنظمات المهنية مثل اتحاد المحامين العرب ولجان التضامن بين الشعوب ومؤتمر الشعوب الأفو - آسيوية، فضلاً عن تقديم المذكرات إلى المقامات العليا ومنها مذكرة شديدة اللهجة وقعها قادة "الحزب الوطني الديموقراطي" و"حزب الاستقلال" وقدمت إلى الملك أواخر عام 1955، جاء المذكرة فيها "ان السبيل الوحيد لإنقاذ العراق من الأخطار التي تحيق به إنما يكون بتخلي وزارة السيد نوري السعيد عن الحكم وإعادة الحريات الديموقراطية الى البلاد والتحرر من حلف بغداد". وكانت هذه المذكرة وغيرها باكورة تعاون بين الحزبين. حدثت أزمة تأميم قناة السويس في مصر صيف عام 1956، وتحركت القوى الشعبية في البلاد العربية لنصرة حق مصر في تأميم القناة، وكان من ضمن نشاطها التحضير لعقد مؤتمر شعبي عربي، فتلقى الجادرجي برقية من اللجنة التحضيرية للمؤتمر المقترح من دمشق تدعوه إلى اجتماع عاجل في 18 أيلول 1956. وانبثقت من المؤتمر لجنة الاتصال الشعبي وانتخب الجادرجي عضواً فيها، وكانت مهمتها السفر إلى الأقطار العربية لتبليغ قرارات المؤتمر إلى حكوماتها، والدعوة إلى تلك القرارات في المحافل الشعبية. واستجاب كثير من البلدان العربية للنداء خصوصاً في سورية التي أعلن الإضراب العام الشامل فيها. وفي مصر أعلن التوقف عن العمل لمدة ساعة واحدة. وأدى الاحتجاج إلى تعطيل المجلس العرفي جلسة المحاكمة في 17 كانون الأول وتأجيلها إلى اليوم التالي. وفي 19/12/1956 أصدر المجلس العرفي العسكري قراراً برئاسة الزعيم الركن عبدالرزاق محمد الجنابي وعضوية الحاكمين كامل فتاح شاهين وفريد علي غالب والزعيم نوري حسين والعقيد صبحي علي، بسجن الجادرجي ثلاث سنوات، فأودع في سجن الموقف في بغداد. ولم يتحقق إطلاق الجادرجي إلا قبل 19 يوماً من قيام ثورة 1958 .